باراك ونعش حزب العمل: هل ثمة حاجة إلى مسمار إضافي؟
صبحي حديدي
في لوحات الفنان الروسي ـ الفرنسي اليهودي مارك شاغال، وحدها تقريباً، يُتاح للبشر أن يسبحوا في فضاء ميتافيزيقي ملوّن، بعيداً عن الأرض بمعانيها المجازية والفلسفية، وبعيداً كذلك عن المعمورة بمعانيها الفيزيائية الدنيوية، حيث الحياة والمجتمع والسياسة. تلك كانت الإستعارة التي لجأ إليها ذات يوم إيغال آلون (1918 ـ 1980)، دون سواه: أحد أبرز رجال عصابات الـ ‘هاغاناه’، وأحد أبرز مؤسسي الـ ‘بالماخ’، ذراعها العسكري الإرهابيّ الضارب؛ وقائد الجبهة الجنوبية في النقب وإيلات وسيناء، خلال حرب 1948؛ وصاحب خطة السلام الشهيرة التي تحمل اسمه، وتقضي بضمّ الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية الهاشمية، ولكن دون السماح للجيش الأردني بالانتشار فيها.
مناسبة استعادة تلك الإستعارة الشاغالية ـ الآلونية هي انشقاق وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك عن حزب العمل، وتشكيل حزب جديد باسم ‘عتسمؤوت’، بذريعة أنّ الحزب الأوّل ‘انزلق إلى أقصى اليسار’، وأخذ يعتنق ‘آراء ما بعد حداثية وما بعد صهيونية’؛ وأنّ الحزب الجديد سوف يكون ‘صهيونياً ديمقراطياً’، يهتدي بـ’وثيقة الإستقلال’، ومن هنا التسمية، كما يقتدي بـ’تراث دافيد بن غوريون’. فهل كان باراك يتحدّث عن إسرائيل التي على الأرض، حيث الإحتلال والإستيطان والفصل العنصري والإقتداء بالنازية، أم إسرائيل التي في سماءات الإستيهام، حيث الصهيونية صافية نقيّة متجمدة عند برهة استقلال بن غوريونية خالدة، من المحال أن تعقبها أحقاب ما بعد صهيونية، فكيف بأخرى ما بعد حداثية؟ وهل، من جانب آخر، كان تاريخ باراك السياسي الشخصي معلّقاً في الأعالي، أم على البسيطة، أم بين بين… في فراغ من النواس والتذبذب؟
وهل في الوسع القول إنّ انشقاق باراك هو المسمار الأخير الذي كان نعش حزب العمل ينتظره، قبل التشييع إلى مقبرة السياسة في إسرائيل المعاصرة؟ ألم يكن النعش مسجى لتوّه أمام ناظريه، أو بالأحرى منذ التحاق شمعون بيريس بصفوف ‘كاديما’، وهرولة باراك للإنضمام إلى حكومة بنيامين نتنياهو الحالية؟ وإذا شاء المرء توسيع المشهد لكي يشمل الفصائل الأخرى في ما يُسمّى ‘اليسار’ الإسرائيلي، ألم تشهد حركة ‘ميرتس’ مصائر مطابقة حين استولى عليها يوسي ساريد، فأفرغها من تسعة أعشار توجهاتها الاجتماعية ذات الطابع اليساري العلماني، وردّها إلى أسفل سافلين في ما يخصّ برامجها حول السلام مع الفلسطينيين والعرب إجمالاً؟
بيد أنّ باراك، لكي لا تُنسى الحقائق الأهمّ في سجلّه الشخصي، هو الجنرال ‘الأكثر أوسمة’ في تاريخ الدولة العبرية؛ الذي أطلق، بعد دقائق معدودات على إعلان انتخابه، سنة 1999، تلك الشروط ‘الاستراتيجية’ الكبرى التي لا تترك للإسرائيلي العادي هامش ملامة واحداً ضدّ جنرال منقلب إلى سياسي أريب: القدس ستبقى موحّدة وتحت السيادة الإسرائيلية إلى الأبد، لا عودة البتة إلى حدود 1967، لا جيش غريباً غرب نهر الأردن، وغالبية المستوطنين في يهوذا والسامرة سوف يواصلون الحياة في مستوطنات تحت السيادة الإسرائيلية.
Bibi-Compatible، كما قال بعض المعلّقين الإسرائيليين الأذكياء، في وصف قدرة باراك على ‘التطابق’ مع برامج خصمه نتنياهو، أو الإلتفاف على ‘البرنامج الآخر’ أياً كان، أو حتى مع البرنامج النقيض بصرف النظر عن طبيعة التناقض. معظم العرب، ومعظم العالم في الواقع، ذهبوا مذهباً مختلفاً فرأوا في فوز باراك جولة كبرى رابحة في معارك السلام، أو في حرب إحلال السلام إذا جاز القول. والحال أنّ الأمر كان صحيحاً جزئياً فقط، بل وفي جزء الحدّ الأدنى الذي لا غنى عنه في كلّ برنامج انتخابي عريض، في ديمقراطية معسكرة وعسكرية مثل إسرائيل. والذين اختاروا الحملقة أكثر في وقائع ومجريات الحملة الإنتخابية لاحظوا، دون كبير عناء، أنّ بند السلام لم يكن الأكثر أهمية وفصاحة وإشكالية، وأنّ نوعاً من التواطؤ المشترك قاد نتنياهو وباراك إلى دفع بند السلام إلى أسفل لائحة التصارع على صوت الناخب الإسرائيلي.
وقبل نحو عام من فوز باراك نشر الكاتب والجامعي الإسرائيلي أفيشاي مرغاليت مقالة مسهبة في مجلة New York Review of Books الأمريكية، تناولت صعود باراك إلى سدّة قيادة حزب العمل، وحملت عنوان ‘إسرائيل الأخرى’. مرغاليت ساجل بأنّ جوهر ستراتيجية باراك نهض على إعادة اكتساب إسرائيل الأخرى إلى صفوف حزب العمل: إسرائيل اليهود الشرقيين (المغاربة واليمنيين بصفة خاصة)، وإسرائيل الوسط (الذي قد يكون مجرّد صيغة مفهومية، وليس قوّة اجتماعية)، وإسرائيل الديانة والقبائل والإثنيات. وتوقف مرغاليت عند دلالة انعقاد مؤتمر حزب العمل في بلدة نيتيفوت، البعيدة تماماً عن تل أبيب (أي عن مركز نُخَب الحزب التاريخية)، القريبة من غزّة دون سواها، والبلدة التي أعطت 86 بالمئة من أصواتها إلى نتنياهو، و11 فقط إلى منافسه شمعون بيريس.
في ذلك المؤتمر، الذي انعقد عام 1997 بعد مرور عام ونصف على اغتيال إسحق رابين، وعام على هزيمة بيريس، ألقى باراك كلمة تضمنت اعتذاراً بليغاً وحارّاً من اليهود الشرقيين، فقال إنّ حزب العمل ينبغي أن يفاخر بأنه أسّس دولة إسرائيل ونجح في ‘لَمّ شمل’ المنفيين، ولكنّ الحزب ينبغي أن يعترف أيضاً أنه أرسل هؤلاء المنفيين ـ المهاجرين إلى مناطق تنموية مثل نيتيفوت، حيث جرى ‘تمزيق معظم النسيج الإجتماعي’، وعانى المستوطنون من ‘آلام سوف تظلّ محفورة في قلوبهم وفي قلوب أحفادهم’. ثم ختم بالقول: ‘في الإعتراف بتلك المعاناة وذلك الألم، ومن منطلق التماهي مع المعذّبين وأحفادهم، فإنني من هذا المنبر أطلب المغفرة باسمي شخصياً، وباسم حركة حزب العمل التاريخية’.
كان باراك يعرف جملة حقائق ثقافية وسوسيولوجية حين مارس تلك الحالة المزدوجة من الندم والإعتذار، وكان يشدّد على تلك الحقائق وحدها لأنه يدرك أنّ الحقائق السياسية الأخرى ليست سوى اعتبارات ثانوية تابعة لتلك الثقافية والسوسيولوجية. كان، على سبيل المثال، يعرف أنّ اليهود الشرقيين ليسوا ضدّ العملية السلمية لأنهم يكرهون السلام على نحو تجريدي، بل لأنّ ذلك السلام سوف يكون لصالح اليهود الأشكنازي، نُخَب حزب العمل أو شرائح رجال الأعمال والأثرياء الذين سيكونون الأوفر حظاً باقتسام غنائم ‘الشرق الأوسط الجديد’ كما بشّر به بيريس. وباراك تذكّر، ربما أكثر من جميع قادة حزب العمل أو حتى الجيل الراهن من قادة الليكود، أنّ مناحيم بيغن فاز في انتخابات عام 1979 لأنه جنّد اليهود الشرقيين وأقام برنامجه الإجتماعي ـ الثقافي على ذلك التناقض الصارخ بين ‘مليونير الكيبوتز الناعس في حوض السباحة’ و’الفقير الكادح في الضواحي وبلدات التنمية’.
كذلك أدرك باراك أنّ إيغال عمير، قاتل إسحق رابين، ليس سوى أحد الأحفاد الذين قصد الإشارة إليهم في خطبة الإعتذار تلك. وإذا كان عمير قد أعلن أنه اغتال رابين لكي يغتال اتفاقات أوسلو، فإنّ ما أعلنته خلفيات الفتى السوسيولوجية والثقافية والنفسية والإثنية تشير إلى أنّ تنكيل نُخب حزب العمل باليمينيين (معسكرات، تمييز عنصري في الدراسة والإقامة والعمل، اختطاف أطفال لإجراء تجارب صحية ونفسية وبيولوجية…) كانت تستقرّ عميقاً في روح عمير، وتحرّك فيه نوازع الحقد على المؤسسة، وهي التي حرّكت إصبع يده حين ضغط على الزناد.
من جانب ثالث، صار واضحاً في نظر باراك، مثل نتنياهو في الواقع، أنّ الوضع الإقتصادي لم يكن عاملاً حاسماً في التأثير على انتخابات عام 1996، وإلا لاستوجب الأمر فوز بيريس وسقوط نتنياهو. ذلك لأنّ سنوات حكم رابين، بين 1992 و1996، شهدت معدّل نموّ بنسبة 7 بالمئة، كان الأعلى بالقياس إلى جميع الأمم الأوروبية، وانخفضت نسبة البطالة من 11 في عام 1991 إلى 6 في عام 1995، وبدّل حزب العمل واحداً من أعمدة فلسفته الاقتصادية حين قرّر رابين تقديم الإعانات الحكومية إلى مناطق التنمية بدل مستوطنات الضفة الغربية. لكنّ باراك كان يدرك، في الآن ذاته، أنّ سيكولوجية الإسرائيلي العادي لا تميل إلى تقريظ الساسة الذين ينجحون في رسم وتنفيذ سياسات اقتصادية صائبة، ولكنها في المقابل تميل إلى تجريمهم إذا كانت الأوضاع الإقتصادية متدهورة. وهكذا، إذا كان بيريس قد فشل في قطف ثمار سياسات رابين الاقتصادية الصائبة، فإنّ نتنياهو في المقابل سوف يدفع ثمن سياساته الاقتصادية الخرقاء في انتخابات 1999.
من جانب رابع، كان مؤتمر حزب العمل في بلدة نيتيفوت قد اختار الاستراتيجية الإنتخابية التي عرضها شلومو بن عامي، اليهودي المغربي القادم من طنجة، وأستاذ التاريخ المختصّ بشؤون وشجون اليهود الشرقيين. محاججة بن عامي كانت بسيطة بقدر ما هي صاعقة لأفيال حزب العمل (بيريس ونسيم زفيلي بصفة خاصة): ليس في وسع الحزب الفوز بالإنتخابات إذا ركّز على قضية السلام، وعليه العودة من جديد إلى صيغته الأولى كحزب اشتراكي ـ ديمقراطي، معنيّ تماماً بمسائل التربية والصحة والعمل و… الدين! أكثر من ذلك، أوضح بن عامي أنّ التغنّي بالمبدأ العلماني سوف يفقد حزب العمل ما تبقّى له من قواعد في صفوف اليهود المتديّنين، ولن يكسبه المزيد من العلمانيين المنخرطين في أحزاب أكثر وضوحاً أو راديكالية حول الديانة اليهودية. (على سبيل المثال، دافع الرجل عن فكرة الإمتناع عن إشعال نار في مطبخ العائلة يوم السبت، ولكنه دافع عن حقّ أفراد العائلة في الذهاب إلى ملعب كرة قدم).
والشارع الإسرائيلي كان سعيداً باكتشاف باراك بوصفه حصيلة رمزية أكثر منها حصيلة سياسية، قادرة على إشباع وجدان إسرائيلي لا يستطيع الإنفكاك بسهولة عن ثقافة الحرب وهوية الحصار وهاجس الأمن. ونتذكّر أنّ حملته الإنتخابية (التي قادها خبراء أمريكيون كانوا هم انفسهم قادة الحملة الانتخابية الثانية للرئيس الامريكي الأسبق بيل كلينتون) قدّمته في صورة ‘بطل إسرائيل’، و’الجندي ـ المواطن’، و’الجنرال ـ السياسي’، نجم عملية اغتيال خليل الوزير (أبو جهاد)، والرجل العابر إلى بيروت متخفياً في زيّ امرأة، لتصفية ثلاثة من قادة منظمة التحرير الفلسطينية.
ولقد تفاخر، وهو في موقع رئيس الوزراء، أنّ حكومته ‘لم تقدّم أيّ تنازل لعرفات، على نقيض من الحكومتَين السابقتَين. كلّ ما فعلناه هو استكشاف الإحتمالات’؛ وكان على حقّ، في الواقع، بالقياس إلى ما ‘قدّم’ رابين وبيريس ونتنياهو. وقيل، آنذاك، إنّ عائلة رابين غضبت من هذا التصريح، لأنّ حكومة باراك، على نقيض الحكومتَين السابقتَين، لم تبرم أيّ آتفاق أيضاً! إبنة رابين، داليا رابين ـ بيلوسوف (عضو الكنيست، ولكن عن حزب الوسط وليس عن حزب العمل!)، سارعت إلى السخرية من اليسار الإسرائيلي برمّته: إنهم أشبه بعفريت العلبة (في لعبة الأطفال الشهيرة)، الذي تلقّى لطمة على رأسه، وخرج فاقد الرشد مشوّش العقل!
إنه ذلك الطراز من ‘يسار’ صار علامة فارقة لخرائب الصهيونية، ومسمار انشقاق رابين الأخير يزيده افتضاحاً وترنحاً وفقدان رشد، ويجعله قاب قوسين أو أدنى من النعش، قبيل التشييع إلى مزبلة التاريخ!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس