‘أدونيس … سياسة الضوء’ لـفداء الغضبان ضوء مغناطيسي!
طلال معـلا
بين المثال والإحساس به مسافة، مفارقة تجمع المبصور إلى ميتافيزيقيته المتناثرة في مذاهب الكشف عن الحقيقي، باستخلاص: الصافي من المخلوط.. المتمثل من المتبخر.. والمنعكس من الأصل.
خطوة خطوة، يمضي الزمن مُذهِلاً كل من يدور في أفلاكه وهيولاه وصوره..
وحده الزمن يقول خبرته للمتحقق، يسل سيفه الدهري الماضي بين يدي الجوهر، فاصلاً المطلق عن خلوده، والفناء عن حدوثه.
عندما رأيت مرسومات وكتابات أدونيس في لوحاته أول مرة، اعتقدت أن محاولته تعيد صياغة جزئيات القصيدة، بتشطيب دلالة الحروف وصورها في متغير التحريك.. كان هذا الانطباع جزءاً من افتراض معرفي للتغيير الذي يسعى إليه ( الفنان ـ الشاعر) باقتحام مساحة ( الفنان ـ المشكل)، والذي يمكن تلخيصه بما رأيته مباشرة دون حاجة لسماع أو قراءة. إلا أن التركيز في الموقف المرئي قادني إلى تجاوز الحركة باعتبارها طريقاً للتغيير، وبات التركيز على الرؤية باشتمالها على الوجود، الماهية، اللاموجود، والمثال.. الطريق ومرادفاته، الأفكار وصورها، وكل ما يجعل المتوسل إليه كائناً لاطبيعياً، مادة بلا ظلال، وجوداً بلا تفاصيل.. أو دقائق تشي بالإمكان.. إمكان الخلق بتمام شعريته.
هل ما أراه من نماذج الكولاج أو ( الرُّقيمَات) ـ كما يصطلح أدونيس – هو صورة؟!
للبيان عن التساؤل يحتاج الناظر بجسده عبر عينيه!! إلى لغةٍ، والناظر بذهنه أو إحساسه إلى لغة أخرى.
والمدخل للرؤية في كلا الحالين نظرة لا تنطلق من خصائص المرئي، بل تتجاوزه إلى ما هو قبله أو بعده، تحته أو فوقه..
نظرة لها منطقها الذي لا يجمع الأجزاء في كل، أو يفصل الكل في أجزاء..
تماماً كما نتعرف على القصيدة وهي في ملكوت كمونها، أي قبل أن نسأل عن زمنها ولحظة ولادتها، أو حقيقة وجودها قبل أن يبنيها الشاعر وفق مخططاته، هابطاً بها درجات التعيين الحسي لنمتصها تدريجياً كأي أمر متغير غير ثابت.
بتتابع رؤية المرسومات الخطية الأدونيسية ( الكولاجية ) تتبلور شهادة الوهم المرفوع إلى مرتبة العيني المنفتح على قوة الضوء.. المادة الأولى المتصرفة بالنفس ودوام سيلانها الكوني.
ولما كان ما يلصقه الفنان على سطور الشاعر يجعل العقل في موقف المتسائل الحائر، فإن الماهية الجديدة المتحصلة تنص على نفي منطق وحدانية المذهب أو المحمل، بالدمج بين المحسوس والانفعال به، وصياغة وحدانية جديدة تقترب بالضوء إلى ابتداءٍ له صفات القوة والسطوة والقدرة المستخلصة من تحولات القصيدة والاعتبارات التحليلية للمنفعل بها.
وبغض النظر عن كمية المنجز، أو التأخر بإطلاقه، فإن الإيحاءات البصرية التي قام أدونيس بنسجها تتجاوز بتحققها التصريحات التي قيلت فيها، سواء من طرف جنسها أو غايتها أو القصد منها، بل لعل الامتناع عن الاقتراب منها في بعض الأحيان قد مثَّل تخصيصاً لتحققها التشكيلي. وهذا ما يعزز كيفية قراءتها بعد حدوثها على السطح مباشرة باعتبارها من صميم الخلق الفني، وموضوعاً ضوئياً يتجاوز بافتراضاته الشكلية اللفظي، دون أن ينفك الشعري في الشعر عن شعرية الضوء.
هذا ما يحاول ( فداء الغضبان) العمل عليه باستبدال شعرية الضوء بمجموعة المعطيات التي تصرح بها تجربة الشاعر مجازاً ( الكلمة ـ الصورة ـ اللون ـ الصوت ـ الحركة ـ القصيدة)
وبهذا يردُّ ( الغضبان) على جواب القصيدة باختيار الضوء كعنصر تفاعلي يلحظ توظيفه في مقاطع متسلسلة مرئية ومسموعة باعتبارها اختباراً حراً لطبيعة التغيير في جوهر التلقي المتكرر، وهي سياسة تمَكَّنَ ( الغضبان) بمقتضاها من تجاوز المركوز في القصيدة لتحقيق نتيجةٍ أهم ملامحها الجريان، وكأن الضوء هو السيل المجعول وقد تحرر من محدودية الكلمة إلى إطلاق اللمعان.
إنه الإفراط في التعرف على كنه الشعر، والكناية الأكثر شوقاً لتذكر الفرق بين الوجود والفناء، خاصة حين يصبح الضوء هو السبيل لرفع الحجاب عن نور المعنى، في لحظة يعدها البعض تجلياً، ويعتبرها آخرون نسياناً، فيما هي في حقيقة الأمر انفجار.
بصفاء يلتقي الضوء بالرؤيا سعياً إلى رؤية مختلفة للقصيدة، وهو سبيل يخرج بعين الكاميرا المادية إلى غوايات الروح وهي تكسح كل حركة تعيق البصيرة..
فالسيناريو يضع الشاعر في موقف مرئي ينتهي إلى الاحتراق …
الاحتراق الذي يقف على أعتاب الضوء، متآلفاً مع اعترافاته الوجودية، وكاتماً معارفه عن الحب بهيبة المجنون المحلق فيما نظنه عتمة وغياباً.
عين آلية تتحول إلى عين برية يدركها النور فتعظم يقينها بالقصيدة، وعين القصيدة منفلتة من قيود الأوصاف والصور.. تُحلِّق بأجنحة الضوء فتحار بها هموم اللوحة ومظانُّ الكاميرا..
مزجٌ لقلب الشاعر الأبدي بهنيهة اللقطة، وكأن الكلمة تزهر وهي تبتكر غليانها، كاشفة في ضوء تلقينا لقوتها ما ينبغي أن نراه بجلاء في تراكب الصور.
نار، زيتون، صوت، خطوات.. والشاعر ينكر زمنه وممالكه وخيوله وطرقاته. ومن خلف غليونه يبدو ساهياً وقد أضاع عصا الترحال في مدن الشعر والخيانات الصغيرة، والكبيرة وبالقرب من ضريح الحاضر يكتب بفصاحة ما يريد أن نشاهده ليسري بنا، ويفيض منا إلى القصيدة حيث يتنفس أحدنا الآخر.
هل تقول مادة الفيديو أن ما نراه وهماً … يرتقي إلى درجة الحقيقة كلما أعدنا رؤيته…؟!!
ربما الأمر مرتبط بالوعي. ويبدو أن مجرد الافتراض مرتبط بماهية الجوهر، أي ماهية العالم الذي تكشفه القصيدة، لتمنحنا حيوية الضوء الذي نستعجل وُلُوجَهُ كلما أطبق علينا التيه، وأحكم الظلام قبضته على أرواحنا.
ضوءٌ للتواصل الإنساني، يَشهَدُ على التحولات التقنية التي يمكن للقصيدة أن تُمسِّد جبهتها بنوره، وبما تفصله اللغة التفاعلية.. اللغة المنطوقة المتصورة المتكاملة مع أجزاء النص التشكيلي، باعتبار أن كلاً من الكلمة والشكل يحاوران خزاناً معرفياً قام الزمن بشحنه جمالياً ومعرفياً، محولاً سحر التعبير إلى لغة ضوئية لها مستوياتها المخيالية التي تلتمع باعتبارها افتراضاً لصورة روح اللغة الوهمية النابضة بالقدرة التكوينية اللحظية.. اللغة المزدوجة المتجاوزة لبلاغة الفهم، أو ما تدل عليه اللغة في ثنائية المعنى وأسلوب الإفصاح عنه.
احتكاك يتجاوز اللحظي بين المنطوق والمبصور، والسبب أن القيمة المشتركة تفككُ نفسها باستمرار … سعياً إلى نبوءة ٍ تعبرُ الوصفَ وجمود المعنى، وتمنح السياق عبوراً تحررياً ينوسُ بين التضليل والحقيقة.
وكأن الحراك في الحاضر ليس حاضراً، أو كأن الواقع جزء من المستقبل.. إنه التعويض عما لا يمكن النظر إليه باعتباره مستقراً على المستوى المعرفي، خاصة أن التجربة بمجملها تسعى لصورة الصورة، أو فصاحة المفهوم وهو يتوق للانعتاق من صدر الشاعر، أو شرود ( الكاميرا) في مواكب الضوء.
في لحظةٍ تخرق الكلمة سطوة الطبيعة.. تشرد منهكة من موتيفات المكتوب إلى إلفةِ المبصور بعيداً عن الأبعاد المعتادة.
في الصورة يظهر بجلاء جسد الكلمة وهي في تمام عريها، مازجة داخلها بخارجها، شكلها بمعناها. وكأن الأثر الكتابي التقليدي يطبق جفونه مستسلماً في سطوع الكهرباء.
ضوءُ المغامرة الجديدة لسرير الورق، حيث يتم تبليغ مناخ القصيدة بمستجدات الرؤية الشاعرية للعالم الملون المستنسخ من عدسة ( الغضبان) البرزخية التي تحركها نار الشهوة، واستكبار الباطن على الظاهر.
قال بعض من اعتادوا على بزوغ القصيدة من القلب بأن الظلمة تبزغها، وقد حاول ( الغضبان) أن يُسلِّط الضوء على بؤرة الإظلام في القصيدة، مبرزاً حق الأسود وبدائع أسراره..
متلذذاً بحركة الشاعر لحظة لقائه بالقصيدة، حيث لا مقتضى لحال أو حدود لذاكرة أو انتفاع بإرث.. إنه تخريم القصيدة بإبر البصر، تخريم يهدف ( الغضبان) من ورائه إلى تثقيب الورق كي لا يتحول إلى ستارة تحجبُ النور، وتنفر عن الجدة، وتعاف الرقاد.
تجربة رقمية مبتكرة ـ تُطلقُ مفهوم ( القصيدة الضوئية) وهو مفهوم جديد يطرحه ( الغضبان) لأول مرة في الإعلام الثقافي العربي، تتقمص الشعر ثوباً، وتبني رؤيتها على احتمالات القصد الشعري ـ التشكيلي، وكأن الإشارة إلى غير المرئي في المنجز يشكل المادة الأساسية لرؤية العناصر في غلواء الضوء وشهوات معالجات التوليف: ( المونتاج montage) أو التلصيق: ( الكولاج collage)، سواء فيما أنجزه الشاعر، أو ما سعى إليه الرسام، بل فيما حققه ( المخرج: الغضبان) لجعله دالاً حوارياً لصهوة القصيدة، وبهـاء الشاعر، وخصوبة المكـان.
باحث في الجماليات المعاصرة.
القدس العربي