عباس بيضون نصوص العطَب والهشاشة
بعد رثاء صديقه الراحل بسام حجار في «بطاقة لشخصين»، يستحضر الشاعر اللبناني شخصية فرانكنشتاين في مجموعة نصوص صدرت عن «دار الساقي». بعد نجاته من حادث سير، يكتب صاحب «ب ب ب» مكابداته للبقاء والاستمرار بـ«جسد هزّاز وعقل طيّار». سلسلة أسئلة وجوديّة يشكو فيها تعبه من اختراع ذاته
حسين بن حمزة
كأنّ عباس بيضون يخترع كتابه «مرايا فرانكنشتاين» (دار الساقي) اختراعاً كاملاً. يتضمّن الكتاب نصوصاً مكتوبة في سياقات مختلفة ومتباعدة، لكنّها غير مكترثة بالانتماء إلى جنس أدبي معيّن. هي سردية، لكنّها لا تدين بفضل كبير للقصة أو الرواية أو المقالة. فيها تحليلات ذكية، وأسئلة وجوديّة وفلسفية، من دون ادعاءات فكريّة فضفاضة. تحضر فيها شذرات ومقاطع كاملة من حياة بيضون نفسها… إلا أنّها لا ترقى إلى مرتبة السيرة الذاتية. هي منجزة بالنبرة المسنّنة والمضبوطة لصاحب «نقد الألم»، لكنّ المزاج الشعري المتسرب إلى النصوص لا يجعلها جزءاً من شعر صاحبها.
الكتاب ـــــ بهذا المعنى ـــــ نوع من الخلق الخالص تقريباً، وصاحبه يقرّ منذ البداية بأنه اشتغل على نفسه إلى حدّ أنّه نفاها، واستبدلها بأخرى جُمعت من رغبات وممارسات وتربيات مختلفة. «لقد كنتُ في الواقع فرانكنشتاين نفسي ورعبها الخاص»، هذا ما يقوله بيضون في سياق استهجانه لصوته، وهيئته في نص «صوتي لا يشبهني». استدعاء شخصيّة فرانكنشتاين في هذا النص، وإعلانها عنواناً للكتاب كله، يسمحان للشاعر بأن يرى نفسه في مرايا لا تعكس صورته الخارجية فقط، بل وساوسه وأفكاره، وآلام نضجه، وعثرات روحه، وجروح ذاكرته. لقد اخترع عباس نفسه، وها هو يخترع كتاباً يروي فيه أجزاءً من سيرة ذاك الاختراع الذي تراكم وتطور تدريجاً. شَخْصُ النصوص الذي تعجّب من صوته وهيأته، سيواظب على ذلك، مستغرباً الهوّة التي تتسع بين تصوره عن نفسه، وبين تصور الآخرين عنها. تلك الهوّة التي انتزعت طمأنينته منذ طفولته المبكرة في القرية، مرغمةً إياه على تربية مهارات وامتلاك وسائل تُصالحه مع حياته أو تصنع له حياة ثانية. هكذا، يبدو أن نصوص الكتاب تروي مكابدات عباس بيضون جرّاء تنقّله الدائم بين حياتين، واحدة مُنحت له وأخرى عليه تعلُّمها.
يحلل صاحب «تحليل دم» مزاجه، وطريقة عيشه، وتفكيره على مرأى من نفسه، ومن القارئ أيضاً. ما نقرأه يقترب في لحظات كثيرة من كتابة خاصة، يمكن القول إنها «سردٌ عيادي» منجزٌ من كائن معتلّ لا من الطبيب المعالج، حيث يمكن سحب صفة الاعتلال على أغلب مرويات بيضون في هذا الكتاب. في طفولته، أُجبر على تناول كل ما هو أحمر بسبب نحوله، وأُجبر على تغيير لهجته الريفية في يوم واحد عقب انتقاله للدراسة في صور، وأُجبر على تعلّم الفرنسية في تولوز كي يُريح غربته المعجمية هناك، وأُجبر على تسريع إيقاعه الجسدي للحاق بمواعيد تخلّف عنها ـــــ رغم ذلك ـــــ أو وصل متأخراً. أضف إلى ذلك أنه تعلم أشياءً أخرى بمحض إرادته أو بحكم الحاجة. في الحالتين، تعب بيضون من صنع نفسه، لكنّ ذلك كله لم يؤمِّن له طمأنينة مماثلة لتلك التي انتُزعت منه.
لا يُنكر صاحب «حجرات» أن حياته كانت مجموعة من التجنّبات، وأن ما هو عليه اليوم حصيلة ما تحاشاه. والأهمّ أنّه فعل ذلك في الشعر أيضاً، فتحاشى معظم ما تعلق به أقرانه ومجايلوه. استبعد البلاغة واحتفظ بتماسك العبارة. نبذ العاطفة ومدح الحيادية والجفاف. فضّل اللغة الدقيقة والملموسة وتفادى الرخاوة والميوعة. بطريقة ما، يمكن الزعم أن الكتابة نجَّت عباس بيضون من اعتلالاته الأخرى التي تحوّلت ـــــ بفضل سخريته وتهكّمه عليها ـــــ إلى نكات محبّبة وخصوصاً في حياته اليومية. حياة غير خالية من نسيانات وعثرات راح عباس يتندّر بها أمام أصدقائه، بل إنّه جهر بها مرات عدة في كتابات منشورة وموثقة.
الأرجح أن «مرايا فرانكنشتاين» هو تدوين آخر للكيفية التي ربّى بها عباس بيضون نفسه، متجولاً، هذه المرة، في طيّات ومطارح أكثر تعقيداً وتنوّعاً مما عُرف عنه شفاهاً. في نص Maladresse، يروي بيضون عدداً من عثراته: سكب كأس نبيذ على طاولة عشاء، مشقّة تعلّمه للمشية العسكرية، تطويحه لجسده بدلاً من الرقص، تلويثه لفساتين نساء بضغطه على زجاجة القَطر من دون أن ينزع سدادتها …، مقترحاً على نفسه صفة Maladroit، ومفضّلاً ترجمتها بالـ«أعْثر».
في «الوقت يتأخر»، يروي سيرة تأخره المتكرر عن المواعيد. في «الصرخة»، يكتب عن أزمته العصبية في فرنسا، وخضوعه للعلاج في مصحّ للأمراض النفسية. إنها سيرة للضعف والعطب والهشاشة، حيث البطولة ممنوحة لبراعة عباس بيضون في الكتابة عنها لا في تعدادها والاعتراف بها.
بعد كل خطأ، كان يجد مشقّة كبيرة في استرداد ثقته (المهدّدة) بنفسه. مقابل ذلك، طوَّر بيضون «آلة كلامه»، و«حوّل أحاسيسه وأفكاره إلى جمل». كان هذا «فنه الشخصي» لمجاراة عالم منتظم واظب هو على إفساد بعض معاييره ومقاساته. هكذا، بات التفوّق في التفكير والخيال سلاحاً لائقاً في مواجهة التعثر في الواقع، وباتت الكتابة طريقة مُثلى لترجمة «طبع» الكائن، لا «تطبّعه» الذي صار جلداً ثانياً فوق جلده. صاحب «بطاقة لشخصين» يهنّئ نفسه لأنه استمرّ ونجح بـ«جسد هزّاز وعقل طيّار». والأرجح أن هذه التهنئة التي تمرّ عرضاً في إحدى الصفحات، هي تمهيد لتهنئة أنفسنا نحن القرّاء على كتاب قادر على إدهاشنا بمكوّناته، وبالجودة الآسرة التي كتبت بها هذه المكوّنات.