نظرتــان إلــى مســتقبل أوروبــا
أوروبا حظ لكنها بحاجة إلى من يعارض ساستها قصار النظر
اسكندر حبش
هل جاء الوقت بإعادة التفكير بالوحدة الأوروبية؟ من يقرأ المجلات الفكرية – وحتى الأسبوعية أو الصحف اليومية الأوروبية – لا بدّ أن تجدّ اليوم، عشرات المقالات والتحقيقات والنقاشات التي تتطرق إلى هذا الموضوع، بخاصة في ظل ما تعرفه مختلف البلدان الأوروبية حاليا من مشكلات اقتصادية واجتماعية. «أي مستقبل لأوروبا؟» سؤال طرحه موقع «برس أوروب» على عدد كبير من مثقفي وكتاب وفناني أوروبا، الذين تناولوا القضية، كل على طريقته ولغته. من هذا الملف، نختار هنا إجابتين (لنترجمهما)، الأولى للمفكر والفيلسوف الإسباني فرناندو سافاتير، والثانية للكاتب المغربي – الفرنسي الطاهر بن جلون. وما الخيار إلا محاولة إطلالة على ما يشغل اليوم ثقافة الآخر وفكره.
فرناندو سافاتير (اسبانيا):
لنتحلّى بالإيمان، بدون تعصب
في أحد الأعمال الأوبرالية لروسيني، «الرحلة إلى ريمس»، وهي من أكثر أعماله إدهاشا وسخرية، نجد عددا كبيرا من المنحدرين من مختلف البلدان الأوروبية، وهم يرغبون في الذهاب إلى تلك المدينة التاريخية من أجل حضور احتفال أميري على درجة كبيرة من الأهمية، إلا أنهم يجدون أنفسهم عالقين داخل نزل، ومضطرين على التعايش (مع بعضهم البعض) بسبب النقص في الخيول التي تتيح لهم متابعة رحلتهم.
أجد العمل هذا بمثابة استعارة ممتازة، وقبل أوانها، حول التشوش النسبي الذي يجد فيه الاتحاد الأوروبي نفسه اليوم. لا حلّ آخر أمام البلدان الأوروبية، راهنا، إلا في البقاء معا، بسبب العديد من الجوانب الأساسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، إلا أنها تبدو غير مؤهلة للذهاب إلى ابعد من ذلك والتقدم صوب أهداف أكثر طموحا على الرغم من أنها ليست أهدافا أقل ضرورة على المدى البعيد. من حيث الظاهر، يتراءى أنه تنقصها الخيول التي لا غنى عنها والمتمثلة بالمشاريع المشتركة – لا المشاريع الثانوية – والقناعات والقيم الديمقراطية المشتركة.
إن التعيينات في المناصب الأهم في الاتحاد الأوروبي تظهر لنا بأن هذه الدول ليست مستعدة لأن توكل هذه المؤسسة المشتركة إلى زعيم قوي. إذ تمّ تفضيل وجوه عادية ومعتدلة، يمكن لها أن توجد التسويات… أو أن تتخلى عنها. كما أنهم أعلنوا عن أولياتهم المتمثلة في أن المواطنين الأوروبيين لا يرغبون في تشكيل وحدة ذات شكل حيوي يسم بشكل كبير.
بالنسبة إلى العديد من الأسبان، من أبناء جيلي، من الصعب عليهم أن لا يروا في هذا الموقف فشلا مريحا ومصدرا للكبت. الذين كانوا في مرحلة الشباب عهد دكتاتورية فرانكو وجدوا (في الوحدة) حماسة مؤربة (من أوروبا)، ساذجة ربما، وما يلخص ذلك الجملة المنسوبة للفيلسوف خوسيه أورتيغا إي غراسيه: «إسبانيا هي المشكلة وأوروبا هي الحل». بيد أن هذا الحل بقي، بشكل ما، بعيدا عن كل الطموحات الكبيرة المنوطة بها. نعرف اليوم بأن أوروبا، الاتحاد الأوروبي، تشكل حلا لا نزاع عليه، لكن ليس أوروبا وليس أي اتحاد: هو اتحاد يجمع شروطا تبدو توفيقية بشكل جدي، بالأحرى متباعدة بشكل نهائي.
ما زلت مؤمنا بأن أوروبا التي تستحق العناء هي تلك التي تدافع عن مواطنيها وتمثلهم، لا تلك التي تمثل أراضيها. تلك التي تحمي بشكل كبير الحقوق السياسية (والواجبات بطبيعة الحال) والضمانات القانونية حيث أن الامتيازات والتقاليد المقعرّة التي تختفي عادة من أمام الأجانب. أوروبا التي تؤمّن اندماج الدول ذات القانون الديمقراطي الراهن في مواجهة المطالبات الاتنية المنحلّة، الرجعية والكارهة للأجانب دائما. أوروبا التي تستحق العناء هي أوروبا الحرية المتحالفة مع التضامن لا أوروبا المغلقة أمام أولئك الذين يطرقون بابها بسبب التعذيب السياسي والحاجة الاقتصادية. ليست أوروبا المختفية وراء أرباحها، بل أوروبا المنفتحة، الراغبة في التعاون، في المساعدة والاقتسام. أوروبا المضيافة العقلانية.
هذا الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى «الأوروبيستاس» (الأوروبيين المناضلين)، المؤهلين لمعارضة الساسة الأوروبيين ذوي النظر القصير. في كل البلدان – وقد شاهدنا ذلك في الجمهورية التشيكية كما في عدد من بلدان الشرق، وأيضا في انكلترا وإيرلندا وحتى في فرنسا – انبثق زعماء ومجموعات قومية، محازبون لحماية قاسية تجاه الخارج وليبيراليون متطرفون تجاه الداخل، متمنطقون بذهنية الهوليغانز (المشاغبين) أصحاب القيم العديمة الحساسية، الذين يتسمرون خلف انغلاقهم الأكثر تفردا كي يمنعوا مرور هذا الآخر الكبير الذي يخشون منه أن يكون على الموعد. بمعنى آخر، هناك أوروبيون لا يبرهنوا عن تشددهم إلا ليستفيدوا من مصالحهم الضيقة جدا و«المسيحية جدا». ثمة في ذلك، أصولية تحدد الجذور الأوروبية بشكل انتقائي، مفضلة بذلك وجهة النظر الأكثر تحفظا وتعجل في نفي تراث يتأتى غناه – مع ذلك بالضبط – من النقاش فيما بين هذه التناقضات.
هناك أيضا خطر آخر، خطر الاستهتار من الوعي الحسن للتعدد الثقافي الذي يتعارض مع المسيحية الخاصة، لا باسم العلمانية الديمقراطية، بل من أجل الدفاع عن دوغمات دينية تقدم نفسها أيضا بصفتها أعلى من القوانين المدنية وحتى أعلى من النسخة الأوروبية لحقوق الإنسان. أوروبا المشتهاة، هي أوروبا التي نجد فيها المعتقدات الدينية والفلسفية التي تشكل حقا للجميع لكنها ليست واجب أحد، كما أنها، وبشكل اقل، ليست فرضا عاما من المجتمع بصفته وحدة مجتمعة. يجب أن يكون هناك فضاء سياسي راديكالي وبالتالي علماني – وهذا لا يعني أنه فضاء لا ديني – حيث نجد فيه القوانين المدنية تعلو فوق أي اعتبار إيماني وإتني وثقافي وحيث هناك تمييز واضح بين ما يعتبره البعض بمثابة خطيئة وبين ما يجب أن نعتبره كلنا بمثابة جريمة. على هذه الأوروبا أن تملك فضاء أكاديميا وجامعيا يسمح بحركية الطلاب والساتذة المهنية، على أن لا تكون الجامعة في خدمة مصالح الشركات أو المردودية الآنية. أوروبا ذات المواهب التي بدون حدود حيث لا رواتب ومصالح. بالطبع، وبالتأكيد، نحن بحاجة إلى خيول تحملنا لكننا بحاجة أيضا إلى سائقي عربات يعرفون إلى أين نريد الذهاب. أعتقد أنه لم يتأخر الوقت بعد من أجل ذلك كله.
الطاهر بن جلون:
إنها ليست لحظة الانغلاق
كان فيكتور هوغو قد حلم بأوروبا؛ في عصره كان الأمر عبارة عن طوباوية: «سيأتي يوم ستحل فيه، مكان المدافع والقنابل، عمليات الاقتراع والتأييد الكوني للشعوب، والتحكيم الجليل لمجلس شيوخ أعلى… سيأتي يوم نرى فيه الولايات المتحدة الأميركية والدول المتحدة الأوروبية، الواقفة بمواجهة بعضها البعض، وهي تمد أياديها من فوق البحار، لتتبادل منتجاتها وتجاراتها وصناعاتها وفنونها وعبقريتها…». أوروبا هذه موجودة هنا، وقد عاشت في الفترات الأخيرة أولى أزماتها الكبيرة. ومهما يكن عليه مخرج هذه الأزمة، لا تبدو أوروبا فكرة افتراضية، طوباوية. إنها واقع معقد، غير مكتمل، متغير، كينونة تبني نفسها وهي بحاجة أكثر إلى الإرادة وغلى الشجاعة.
أوروبا هي حظ. إن فكرة اتحاد عدد من البلدان على قاعدة جغرافية وتاريخية كما على قاعدة قيم الديمقراطية والحرية لأمر إيجابي تمخض عن الحرب العالمية الثانية. لكن من يذكر ميلاد هذا الاتحاد الذي انتقل من سبع بلدان إلى سبع وعشرين؟ لدي الانطباع بأن هذه الكينونة – التي لم تنجح بالكامل والتي تبقى مهددة بالانبجاسات – مأهولة بالأطفال الفاسدين. لا ينتبه بعض الشبان الأوروبيين إلى حظهم بولادتهم هنا، في فضاء الحرية هذا الذي نتجول فيه بدون مشكلات، حيث لا نجد فيه سوى عملة واحدة (بالتأكيد ما عدا المملكة المتحدة والسويد)، حيث لا حروب ولا مجاعة وحيث تراقب الدولة البطالة.
أعطي فرنسا مثالا على ذلك لأنني أعرفها بشكل أفضل: فهذا البلد، وعلى الرغم من كل ما يمكن أن نقوله، يتمتع بأفضل نظام صحي في العالم كما أفضل نظام اجتماعي في العالم مع بعض الصعوبات بالتأكيد فيما يخص المتقاعدين. إنه البلد حيث يمكن لأي مواطن أن يدخل إلى أي مستشفى من دون أن تُطلب منه بطاقة الائتمان ليعالج حتى وإن كان لا يعمل أو لم يسدد رسوم الضمان الاجتماعي. لا تميز المستشفى الفرنسية بين المرضى. يعامل الجميع بنفس القدر من المساواة. علينا قول ذلك وترداده لأنه يشكل ميزة أساسية في هذا البلد.
يظن بعض الأوروبيين بأن ذلك كله أمر مكتسب، وبأن وضعهم لا يتقدم إلا بتحسينه. لذلك – تقريبا – لا يقومون بأي مجهود. يضخمون أنانيتهم، يرفضون أن يطرحوا الأسئلة على أنفسهم، أن يروا على سبيل المثال ما يجري في إفريقيا وآسيا، في العالم العربي؛ «دائما يرغبون في المزيد» كما لاحظ صحافي مراقب للمجتمع الفرنسي هو فرانسوا دو كلوزيه. يتضاءل مفهوم التضامن، يتراجع أكثر فأكثر. في الماضي، في السبعينيات، كان الأوروبيون ينزلون إلى الشارع ليتظاهروا ضد دكتاتوريي أميركا اللاتينية، ضد النظام العنصري في جنوب إفريقيا، ضد التمييز العنصري في قلب أوروبا نفسها. كان عصر عرف المثقفين الذين كانوا يعطون شارة التحرك: جان بول سارتر، ميشال فوكو، جان جينيه، كلود مورياك، موريس كلافيل… أما اليوم فلم يعد هناك من «معلمي الفكر»، ما من تظاهرات كبيرة ما من تضامن حقيقي مع الشعوب التي تتعذب.
لقد فقدنا شيئا جميلا. تحولت أوروبا المتضامنة والأخوية إلى أوروبا أنانيات الدول والمواطن. بعض رجال السياسية، وبخاصة من اليمين، لعبوا على فكرة الخوف وجعلوا منها صناعة انتخابية. لقد تطور الاقتصاد الأوروبي في جزء منه بفضل اليد العاملة الأجنبية، أي المهاجرين. قلة هم رجال السياسة الذين يعترفون بذلك ويحييون هذه الشعوب التي جاءت من البعيد. اليوم، نجد أن أولاد هؤلاء الملايين من المهاجرين هم الذين يسببون المشكلة. ماذا نفعل بهؤلاء الأوروبيين ذوي البشرة الجافة أو السوداء أو الخلاسية؟ كيف علينا أن تعلم العيش مع ثقافة أخرى، مع دين آخر؟
على أوروبا أن تتعلم كيف تنظر إلى نفسها في المرآة: فصورتها وطبيعتها الإنسانية لم تعودا بيضاء ومسيحية. هذه هي نتيجة التمازج، المشكل من عدة عوامل. نرى ذلك في الطرقات، لكننا نقول لأنفسنا، إنهم أشخاص عابرون؛ سيعود أولئك إلى قراهم، إلى بلادهم. خطأ! هؤلاء الأشخاص هم من الأوروبيين، بلادهم أوروبا، جنسيتهم أوروبية، ثقافتهم مزدوجة وحتى ثلاثية. وهذا ما يشكل مثالا عن العولمة بمعناها الإنساني، لا الصناعي أو الاقتصادي. الإنسان هو رأسمال العالم لا التقنية.
كتب الفيلسوف الفرنسي إتيان باليبار في كتابه «اقتراح المساواة – الحرية» التالي: «ليست أوروبا غاية بحد ذاتها، بل يجب الاعتراف بها بأنها أداة تحول خلال العولمة». لم نأخذ في الحسبان بعد، تحول أوروبا وما يصنع مستقبلها. من هنا، هل إحــالة أوروبا إلى بياضها غير الممسوس، إلى ثقافتــها التقليدية، أمر لا يزال ممكنا؟ هل ما تزال قابـــلة للحياة؟ لا أظن ذلك.
السفير