صفحات سورية

أوراق سوريا وأمنيات أمريكا

null
الحسين الزاوي

تعرف العلاقات السورية  الأمريكية تغيرات غير مسبوقة، منذ مجيء الإدارة الأمريكية الجديدة التي تحاول أن تظهر للعالم وجهاً أقل بشاعة وقبحاً من الوجه الذي أبرزته الإدارة السابقة، ليس على مستوى سجل حقوق الإنسان فقط، ولكن وربما بدرجة أكبر على مستوى السياسة الخارجية التي أراد الرئيس باراك أوباما أن تكون أكثر ودية تجاه العالمين العربي والإسلامي، على الأقل على مستوى التصريحات التي أطلقها في أكثر من مناسبة، وآخرها إلقاؤه خطابه الموجّه إلى العالم الإسلامي انطلاقاً من جامعة القاهرة.

ذلك لأنه، وبالرغم من حالة القطيعة شبه الكاملة، التي ميزت السنوات القليلة الماضية، العلاقات السورية  الأمريكية خاصة خلال الفترة الرئاسية الثانية لبوش، وما واكبها من أزمات كثيرة عرفتها المنطقة خاصة بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، فإن الطرفين السوري والأمريكي حاولا التعبير عن رغبتهما في فتح صفحة جديدة من العلاقات الثنائية بشكل يخدم مصالحهما المتبادلة، فالجانب السوري لا يقبل أن يدخل في مفاوضات غير مباشرة بشأن الجولان من دون ضمانات جدية من الجانب الأمريكي، وأمريكا لا يمكنها أن تنجز أية تسوية في المنطقة من دون توظيف جزء من الأوراق السياسية التي يمتلكها الطرف السوري. وقد سبق للقيادة السورية أن أكدت في أكثر من مناسبة أنها ليست على عجلة من أمرها، وأن الأوراق التي تمتلكها تعتبر باهظة الثمن ولا يمكن مقايضتها بأنصاف الحلول أو بالوعود الافتراضية التي أثبت التجارب السابقة عدم جديتها، بل واستحالة ترجمتها إلى تطبيقات عملية تُرضي كل الأطراف الفاعلة بالمنطقة.

وهكذا، عاد المبعوث الأمريكي إلى دمشق بعد فترة وجيزة من زيارته لها خلال 14 يونيو/حزيران الماضي، ليؤكد من خلال زيارته الثانية الدور الاستراتيجي الذي تلعبه سوريا في المنطقة، بعدما تمكنت من كسر طوق العزلة الذي حاولت القوى الغربية، وفي مقدمها الولايات المتحدة الأمريكية، أن تفرضه على القيادة السورية، بعدما سقط التصنيف العشوائي وغير الأخلاقي الذي أقامه بوش ببلاغة بذيئة بين محوري الخير والشر. واتضح بذلك للجميع وباعتراف وسائل الإعلام الغربية نفسها، أن الرئيس السوري الشاب تمكن وخلال فترة وجيزة أن يعيد إلى بلاده الحيوية الدبلوماسية التي ميزت سنوات حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد، لتعود بذلك سوريا لتشكّل من جديد رقماً صعباً في معادلة المنطقة، يصعب على صناع القرار في العالم تجاوزه.

لم تكتف القيادة السورية، حتى الآن، بإصدار ردود الأفعال السريعة والمحسوبة بل سعت، إلى ممارسة الفعل الناضج في أكثر من مناسبة من أجل اختراق جدار الصد الغربي، وقد مثّل حضور الرئيس السوري في اللقاء التأسيسي للاتحاد من أجل المتوسط أبرز محطات المشاركة السورية في النشاط الدبلوماسي الدولي، واستقبلت دمشق بعد ذلك العديد من اللقاءات الدولية والإقليمية، أفضت بعضها إلى استعادة الوئام بين سوريا وبعض البلدان العربية، خاصة مع المملكة العربية السعودية، الأمر الذي سيجعل سوريا تتفرغ للملفات الحساسة في المنطقة حتى تصل إلى توظيف أوراقها بكل ثقة، بعيداً عن الصراعات الهامشية التي تضر بالمصالح العربية الكبرى. وقد جاءت الدعوة التي وجهها الرئيس السوري بشار الأسد لنظيره الأمريكي من أجل زيارة سوريا، لتؤكد للملاحظين الثقة الكبيرة بالنفس التي تميز القيادة السورية التي تنظر إلى الآخر بمنظار الندية، بعيداً عن كل ألفاظ التعظيم والتضخيم والتهويل التي تؤدي في العادة إلى التفريط في الحقوق من دون الحصول على مكاسب حقيقية.

لا شك في أن القيادة السورية تعلم جيداً أن الطرف الأمريكي، ومن ورائه الطرف الصهيوني، لا يملك رغبة جدية في تحقيق سلام واقعي على الجبهة السورية، خاصة أن الصهاينة لا يريدون التخلي عن الجولان بسهولة كما قال رئيس كيانهم، لكن الطرف السوري عوّد نفسه، ومنذ سنوات طويلة على أن يواجه أمنيات وتمنيات، بل ومخططات الخصوم من خلال توظيف متبصر ومتعقل للأوراق التي يمتلكها، لأن الثبات والواقعية السياسية من شأنهما أن يُفسدا كل المناورات والدسائس التي يحيكها الخصوم والأعداء.

ويمكن القول، من جهة أخرى، إن أمريكا تعرف جيداً أن أية تسوية على المسار الفلسطيني ستتطلب الاستعانة بالدور السوري، وبالتالي فحتمية ارتباط المسارات لا تمثل بالنسبة للقيادة السورية حلماً يتوجب البحث عن آلياته التطبيقية، بل هي تمتلك بشكل فعلي وسائل سياستها في هذا المجال، كما تملك بالقدر نفسه إمكان الرد على أية مناورة تريد خلط الأوراق بشكل يضر بمصالحها الوطنية والقومية، لأنها لا تؤمن بالاستراتيجيات التي يتم وضعها انطلاقاً من خرائط ورقية، بل تعمل على تشكيل عناصر قوتها انطلاقاً من معطيات حقيقية يدعمها الواقع، لكي يتوافر لديها بذلك مخزون من الأوراق الفعلية والفاعلة وليس ركاماً من الأمنيات الشاردة.

الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى