الثورتان التونسية والمصرية وولادة فاعل تاريخي اسمه الشعب
حسن شامي
هناك شبح يحوم حول المنطقة العربية. يطرق بقوة على حديد الأبواب الموصدة، فيقضّ مضاجع كثيرين ويرعد فرائصهم، في المنطقة وخارجها، فيما يستفيق على طَرقه كل الذين أقاموا على انتظار محموم لقدومه. يبدو أنّ الثورتين، التونسية فالمصرية، أياً يكن مآلهما، لم تكتفيا بإلقاء حجر كبير في البحيرة العربية الآسنة. فهما أخرجتا إلى النور فاعلاً تاريخياً غيّبه الاستنقاع والركود طويلاً. هذا الفاعل يحتل موقع المبتدأ في جملة رددتها حناجر كثيرة: «الشعب يريد إسقاط… ». الفاعل هذا كان مفعولاً به طوال عقود. إنه الشعب. من المؤكد أننا أمام كائن اصطلاحي غريب، بقدر ما هو طارئ، ومألوف في آن.
ليس الآن مجال التدقيق في تاريخية المصطلح هذا، وإن كنا نقدّر تبلوره وترسّخه في قاموسنا السياسي الحديث في الفترة المضطربة التي تلت الحرب العالمية الأولى وأخرجت جماعات كثيرة، خصوصاً في المشرق العربي، من كنف السلطنة العثمانية إلى كنف أوطان لا تنتظم صورتها ولا حراكها الوطني في مخيلة سياسية وحقوقية مشتركة. وهذا ما يجعلنا نرجّح، وسط اضطراب دلالي يجرجر أذياله منذ النهضة، ألا يكون هناك بالضرورة تطابق بين الدال والمدلول. وينطبق هذا على مصطلح الشعب كما على مصطلحات أخرى تضرب بجذورها في قاموسنا اللغوي العربي القديم والمعرّب مثل «الأمة» و «الوطن» و «الحضارة» و «الثورة»… ليس أمراً مستبعداً أن نكون إذاً حيال صورة (الشعب) أكثر منها مفهوماً ناجزاً. وهي صورة تختلط فيها عناصر لا تنتمي إلى مرجعية دلالية واحدة وجامعة. ففيها نجد الوجه الحديث المقتبس عن الغرب كما نجد ما يرد إلى «العامة» و «الجمهور» (قبل ترجيح صيغة الجمع أي «الجماهير») و «الأهالي» بالتقابل مع «الخاصة»، وإلى «السواد» مقابل «النخبة» و «الصفوة».
ما تختبره الثورتان هو إمكانيات تحقق «الشعب» في تعبير سياسي وحقوقي، واستجماع الشروط التي تتيح العثور على ترجمة ملموسة لهذا التحقق عبر قوانين وقواعد لعمل المؤسسات تكون محترمة ومعترفاً بها من الجميع. وهذا بالتأكيد منعطف تاريخي، أو، بلغة أكثر تواضعاً، بداية انعطافة ستعترضها من دون جدال عوائق وأثقال وتقلبات ونزاعات لا حصر لها. ذلك أنها بارتسامها كوثبة هائلة تتشوّق إلى أن تكون منصّة إقلاع تاريخي لمجتمعها، لا تكتفي بلفظ شبكة العلاقات السلطوية التي يفرضها النظام على جملة المجتمع. فهي تضع كذلك على محك الاختبار تمثيلات وصوراً وأفكاراً عن مثال المجتمع الذي تتطلع إلى بنائه، وعن ترجمته السياسية في دولة وطنية. ويعني هذا بالضرورة إعادة صوغ الموقع الذي تحتله الدولة الوطنية هذه وتعديل أدائها داخل منظومة العلاقات المعقدة والمتشابكة إقليمياً ودولياً.
غني عن القول إن هذا التقدير لحمولة التبدل ولسعة مداه ينطبق ربما على مصر أكثر مما على تونس، بالنظر إلى موقع مصر المفصلي في استراتيجيات السيطرة قديماً وحديثاً، خصوصاً منذ حملة نابليون. لا ننتقص من قيمة الثورة التونسية إذا قلنا إنها أصبحت في موقع خلفي بعض الشيء، مقارنة بالصدارة التي تحتلها الانتفاضة المصرية عربياً وإقليمياً ودولياً بالنظر إلى وزنها الديموغرافي ودورها الريادي في تاريخنا الثقافي الحديث. وهذه الدوائر المتصلة بالموقع الجغرافي – السياسي لمصر مطروحة اليوم، في صورة عملية على الأرجح، على بساط البحث في «ميدان التحرير» في قلب العاصمة المصرية.
ثمة على الأرض ما يتشكل وما يجري اختباره بطريقة شعورية أو لا شعورية، بما في ذلك قيم التضامن والأخوة وتقاسم المصير الوطني. وهذا في حد ذاته، ومن دون رهانات رومنطيقية أو توظيفات عاطفية، يرشّح مصر لأن تكون من جديد، وإن في ظروف ومعطيات أعقد من السابق، قاطرة العالم العربي.
للتدليل على المكانة الاستثنائية للحدث المصري الجاري على قدم وساق، ليس هناك أبلغ من السيولة الهائلة التي تسم تعاقب الحوادث وتسارع إيقاعها وتقلباتها الداخلية كما تسم بالقدر ذاته تقريباً، وبالتوازي، مسلسل التصريحات والنصائح والتوجيهات الصادرة من عواصم كبرى عموماً، ومن واشنطن خصوصاً. ومن مفارقات الأمور أن تعبر هذه التوجيهات عن ارتباك في فصاحتها وسيولتها. لقد صدرت مواقف أميركية متباينة، وأحياناً متناقضة وفي تصريح واحد. وفي انتظار ما ستقرر واشنطن، بدت الدول الأوروبية أقرب إلى التلعثم وتقطيع الوقت بكلام لا يقول شيئاً. وحدها حكومة نتانياهو اقتصدت على غير عادتها في الكلام، وطلب رئيسها من كل الوزراء عدم الإدلاء بتصريحات قد تؤثر في مجرى الأحداث، مكتفياً هو نفسه بالتلميح إلى خطورة حصول سيناريو يشبه ما حصل مع الثورة الإسلامية في إيران. واللبيب من الإشارة يفهم. على أن الصحافة الإسرائيلية تحدثت عن رسائل من نتانياهو إلى الحكومات الغربية يحذر فيها من أخطار عدم التمسك ببقاء الرئيس مبارك في السلطة. وقد ذكرت «لوموند» الفرنسية، استناداً إلى مصدر ديبلوماسي، أنّ الحكومة الإسرائيلية بعثت برسالة إلى الأميركيين والأوروبيين تطلب فيها عدم التضحية بسرعة بمبارك خشية الوقوع في وضع يصعب التكهن بنتائجه. ويمكننا أن نفهم كل ذلك.
مصر قاطرة العالم العربي. عندما تتعطّل القاطرة يتعطّل القطار أنّى كانت وجهته. لا مبالغة في هذا الكلام. ثمة من يريد للقطار أن يبقى معطّلاً كي لا يحصل انتقال أو تقدم. وقد نجح إلى حد بعيد في ذلك. فهناك عالم عربي، على رغم تعاظم الظنون باعتبار العربة المتوقفة مملكة منفصلة لا يربطها بالعربة الأخرى سوى قدرية الجوار الصماء، والقابلة لأن تكون لعنة أحياناً. كيف نفهم عدوى انتقال الثورة التونسية إلى مصر وجملة الحراك في غير بلد عربي (اليمن والأردن والجزائر حتى الآن) لو لم يكن هناك مدى أو فضاء مشترك تتصادى فيه التجارب الكبرى. وقد ارتفعت بالفعل، بالأحرى رُفعت، فزّاعتان لدى اندلاع الثورتين: خطر صعود الإسلام السياسي وخطر استئناف العروبة السياسية، وإن كانت هذه مؤهلة لاحتواء ذاك، إذا تعهدت شروط ومتطلبات أهليتها وطنياً وديموقراطياً. وهذا بعض ما يُعقد اليوم على مآل الثورة المصرية.
والتلويح بالفزاعة الإسلامية بات في الغرب مادة ابتزاز منظّم ومصدر شرعية أخيرة لحكّام يحسبون إقليمهم جزيرة ووقفاً عليهم. وهذا ما يجيز في عرفهم استخدام الشرطة ورجال الأمن كميليشيا، ناهيك عن «البلطجية» والقمع السياحي والاستشراقي بعض الشيء (مشهد الجمال والخيول المجلوبة من منطقة الأهرامات).
قد نكون دخلنا حقبة أخرى لدى نشر هذه السطور. المؤكد أننا لا نريد النظر إلى الحدث الكبير من ماضي الأيام الآتية ولا من مستقبل افتراضي لماضٍ بعيد. فقط أن نشهد هنا والآن.
الحياة