مرحلة التحول والتطلعات السورية القريبة والبعيدة باريس ـ دمشق: عناوين التحوّل الكبير
سعاد جروس
اكثر من تحرك في «الوقت الضائع» في انتظار الادارة الاميركية الجديدة. ما يجري على مستوى العلاقات السورية الفرنسية مرحلة جديدة بالفعل تؤشر الى تحول كبير في التوجهات الفرنسية الاوروبية,
يفترض ان يتقاطع بعد اشهر مع التوجهات الجديدة للادارة الأميركية.
«الكفاح العربي» ترصد من الداخل مرحلة التحول والتطلعات السورية القريبة والبعيدة.
مع اقتراب نهاية ولاية الرئيس الأميركي جورج بوش, ودنو موعد الجولة النهائية للانتخابات, تشهد منطقة الشرق الأوسط تطورات سريعة في الوقت الضائع. وبينما تنحسر الرهانات على الدور الأميركي, تنشط الدول الأوروبية وبعض الدول الإقليمية لإعادة صياغة أدوارها في المنطقة. وسوريا كبلد يحتل موقع القلب في جغرافيا ملتهبة الأطراف, تتمثل في العراق وفلسطين والى حد ما لبنان, يمكن القول أنها تمكنت إلى حد بعيد من تجاوز مرحلة الضغوط لتبدأ مرحلة سياسية جديدة. المرحلة بدأت مع نجاح دمشق في عقد القمة العربية على أرضها, وتوضحت ملامحها مع التوصل إلى اتفاق الدوحة بالتزامن مع بدء المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل عبر الوسيط التركي, وتكللت مع عودة الوصل في العلاقات السورية الفرنسية.
سوريا لم تخف تفاؤلها بتلك التطورات, فقد عبر الرئيس بشار الأسد عن تفاؤله باتفاق الدوحة وبدء المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل بخصوص السلام قائلا: «إن المحادثات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل واتفاق الدوحة الذي تم التوصل إليه, والذي شكل خطوة ملموسة لتحقيق المصالحة الوطنية في لبنان, يدعونا إلى التفاؤل بمستقبل منطقتنا».
ومع أن زيارة الرئيس السوري إلى الهند غلب عليها الطابع الاقتصادي, إلا أن المواقف السياسية التي أعلنها الرئيس الأسد ووزير خارجيته وليد المعلم في نيودلهي كشفت بوضوح ملامح المرحلة السياسية الجديدة.
«التوجه شرقا» كان عنوان زيارة الدولة التي قام بها الأسد وعقيلته إلى الهند, بعدما سبق وقاما بزيارة مماثلة إلى الصين في العام 2002, ومن المنتظر أن يزورا اندونيسيا وماليزيا. والى جانب التعاون الاقتصادي, فإن الهند والصين بحسب ما قال الأسد «يمكن أن يلعبا دوراً هاماً في ميزان عملية السلام في الشرق الأوسط».
وفي ظل توتر العلاقات مع واشنطن التي تحاول دائما نصب «فخاخ» لسوريا, يرى الأسد أنه يمكن للهند أن تمارس دورا مهماً في تحقيق السلام. فهي يمكنها مثلاً أداء «دور مباشر بين سوريا وإسرائيل, وبين الفلسطينيين وإسرائيل, الأمر الذي سيدفع المنطقة نحو الاستقرار». يمكن للهند أيضاً أن «تمارس دوراً مهماً من خلال موقعها ووزنها في العالم». وقدرتها على «فتح الحوارات مع الولايات المتّحدة ثم أوروبا, بما يساعد الشرق الأوسط ليصبح أكثر استقراراً». وحين تتطلع سوريا إلى هذا الدور, فانها تضع نصب أعينها التطور الصاعد لدول آسيا €الهند والصين€ الذي يعد بتوازنات جديدة في العالم, وهو ما تعقد عليه دمشق آمالها, وهي تسعى الى حض تلك الدول على ممارسة دور فاعل في القضايا العربية, خصوصا في ما يتعلق بالسلام والاستقرار في المنطقة, لإعادة التوازن المفقود منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.
هذا التوجه لا يتناقض حسب وجهة النظر السورية مع التوجه نحو أوروبا , بل ان دمشق تولي اهتماما لتحسين علاقتها مع أوروبا التي تعاطفت مع سياسة الولايات المتحدة الأميركية في عزل سوريا, حيث ترى الأوساط السورية التغير الكبير في السياسة الفرنسية تجاه دمشق ودعوة الرئيس الأسد لحضور القمة المتوسطية في 13 تموز €يوليو€ في باريس وحضور احتفالات العيد الوطني, رسالة قوية إلى واشنطن بأن سياسة عزل سوريا «أثبتت فشلها», فالرئيس الأسد إذا قرر المشاركة في القمة المتوسطية ستكون سوريا بين أكثر من 44 دولة عربية وأوربية لإطلاق مشروع «الاتحاد من أجل المتوسط» والذي كان لسوريا ملاحظات كثيرة حوله, تم الأخذ بها بنسبة 90€, أما الجزء الباقي حسب مصادر مطلعة فانه «يتصل بكلمة «الاتحاد» من أجل المتوسط فيما تقترح سوريا أن تستبدل بكلمة «تعاون» من أجل المتوسط. ووفق معلومات أخرى أفاد بها وزير الخارجية وليد المعلم أن المعروض اقتصاديا ضمن المشروع «ولا ترغب سوريا المشاركة فيه بسبب عدم التوصل إلى سلام عادل وشامل في منطقتنا, سوف يعرض الاتحاد على سوريا مشروعا مماثلا بديلا يراعي الموقف السوري». وسيشارك المعلم في الاجتماعات التحضيرية للقمة المتوسطية التي ستنعقد في 3 4 تموز €يوليو€, بعدما تم الاتفاق على الترتيبات لإطلاق قمة الاتحاد من أجل المتوسط, بما يضمن عدم حصول احتكاك سوري إسرائيلي في المؤتمر.
وترى دمشق في اهتمام وسائل الإعلام بالحديث عن إمكان حصول مصافحة بين الأسد ورئيس الحكومة الإسرائيلية أيهود اولمرت, بأنه حملة للتشويش على الموضوع الأهم وهو وجود الأسد في باريس, كبداية لمرحلة جديدة ليس في العلاقات السورية الفرنسية فحسب, بل في العلاقات السورية الأوروبية, بعد عدة سنوات من الضغوط الشديدة, حيث رفض الأسد الحديث عن «لقاء محتمل مع رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود اولمرت في لقاء مع مجموعة من الإعلاميين في الهند, وقال إن «الأمر لا يتعلق بحفلة شاي والموضوع الأساسي هنا هو الأرض ويمكن أن نناقش موضوع اللقاء المباشر عندما نصل الى المرحلة النهائية من المفاوضات».
وترى مصادر سورية أن المراد من التركيز على مسألة المصافحة إضعاف الموقف السوري تجاه الرأي العام العربي, مشيرة إلى التجاهل المتعمد «للملاحظات السورية التي وضعت على مشروع «اتحاد من اجل المتوسط» الخاصة برفض أن يكون هذا المشروع خطوة نحو التطبيع مع إسرائيل قبل تحقيق سلام عادل وشامل».
إلا أن سوريا لم تظهر اندفاعا كبيراً في اتجاه المبادرات الفرنسية وتعاملت مع التطورات الحاصلة بحذر شديد, وتدارست بشأن المشاركة العربية في القمة المتوسطية مع الدول العربية في قمة طرابلس المصغرة, والتي وصفها الوزير المعلم في تصريحات بأنها «كانت من القمم العربية الناجحة», وقال انه «كان هناك تفاهم تام بين القادة, فالقمة كرست لبحث موضوع الاتحاد من أجل المتوسط وخرج القادة باتفاق الآراء» مؤكداً أن الاتصالات مستمرة بين الدول العربية المعنية, خصوصاً في ضوء زيارة المبعوثين الفرنسيين إلى دمشق ومحادثات الأسد «الإيجابية والبناءة معهما».
ويبدو أن فترة الضغوط وإصرار الولايات المتحدة الأميركية على استعداء دمشق, أكسب السوريين مناعة سياسية في التعامل معها, ومهارات في الاستفادة من الفشل الأميركي في المنطقة لتقوية الأوراق التي بين يديها واستعادة ما فقدته من أوراق في الفترة السابقة.
ويلاحظ أنه منذ تسلم سوريا رئاسة القمة العربية, راحت تسلك طريق التهدئة على الجبهات كافة بتجنب التصعيد وتبريد الملفات الساخنة. هذا التوجه بدا أكثر وضوحا في تعاطيها مع زيارة وفد الوكالة الدولية للطاقة النووية إلى سوريا للتحقيق في مزاعم الولايات المتحدة الأميركية عن بناء سوريا مفاعلاً نووياً بالتعاون مع كوريا الشمالية, كان على وشك الانتهاء قبل تعرض موقعه لقصف إسرائيل في أيلول€سبتمبر€ الماضي. وسوريا التي دعت الوفد للقيام بالتحقيق حصرت مهمته في إطار «تقني» بحت بحيث سحبته من التداول الإعلامي والسياسي مكتفية بإعلان تعاونها الكامل مع الوكالة الدولية قبل أسبوعين من بدء زيارة المفتشين, ليكون الهدوء التام الذي تعاطت به دمشق مع هذا الموضوع جزءاً من سياستها الحالية والتي برزت أيضاً في ملف علاقاتها المتوترة مع كل من السعودية ومصر, بإبدائها تجاوباً مع المبادرات العربية والاقتراحات التي طرحت من الجانب الجزائري ومن ثم الليبي, لإعادة المياه إلى مجاريها, إلا أن الطرفين الآخرين لم يظهرا التجاوب المطلوب, دون أن يؤثر ذلك في قيام الرئيس السوري بجولة عربية إلى الكويت والأمارات وليبيا بصفته رئيسا للقمة العربية, وتشجيع مبادرات الحلول لعدد من القضايا, فكانت داعمة لاتفاق الدوحة, وأيدت المبادرة اليمنية لتحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية بين فتح وحماس, ورحبت باقتراح السنغال القيام بدور في هذا الخصوص. في هذا كله يقول المعلم «إن سوريا ترحب بأي جهد يصب في هذا الإطار, والسنغال تترأس منظمة المؤتمر الإسلامي». كما ان دمشق استقبلت اتفاق التهدئة بين «حماس» وإسرائيل بارتياح, عبر عن ذلك تصريح المعلم بأن «سوريا تدعم كل ما من شأنه رفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني وعن الشعب في غزة» وأنه منذ انعقاد قمة دمشق طلب السوريون من قيادتي «فتح» و«حماس» «موافاة سوريا خطياً برؤيتهما حول كيفية انطلاق هذا الحوار وكيف تتحقق الوحدة الوطنية حسب وجهتي النظر». ومن المنتظر أن يزور محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية دمشق في السادس من تموز المقبل للبحث في هذا الشأن, وسيتم العمل على جمع محمود عباس مع خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس».
حيال تلك التحركات, هناك شعور في دمشق بأن الأوضاع العربية أفضل وأنها تحسنت كثيرا بعد التوصل إلى اتفاق الدوحة لحل الأزمة في لبنان, وهو السبب الأساسي وراء الارتياح السوري, والهدوء في التعاطي مع الملفات كافة, فالتوصل إلى هذا الاتفاق من وجهة النظر السورية, كما عبر عنه الأسد «دحض الادعاءات التي تصدر عن مسؤولين لبنانيين ومسؤولين آخرين في العالم بأن سوريا تتعمد خلق الفوضى في لبنان» وأن «اتفاق الدوحة المدعوم من سوريا» كان بمثابة «دليل على براءة دمشق من هذه الادعاءات», وأثبت أن لدى سوريا «رؤية من أجل لبنان آمن». أما العرقلة التي تواجه تشكيل حكومة لبنانية, فتحاول سوريا النأي بنفسها عن هذه الخلافات باتخاذ قرار «بعدم التدخل في الحوار الجاري بين الأطراف اللبنانية لتشكيل الحكومة», إذ إن اتفاق الدوحة كان واضحاً, ولا عودة عنه بنظر دمشق بسوى العودة إلى الاحتمالات السيئة.
وعلى صعيد المفاوضات غير المباشرة التي أنهت جولة ثانية منتصف شهر حزيران €يونيو€, التزمت سوريا بالاتفاق على أن تتولى تركيا بصفتها البلد المضيف والوسيط في هذه المفاوضات الإعلان عن بدء الجولات وعن انتهائها, في حين كان الإعلام لا يوفر اجتهادا من الاجتهادات في هذا الخصوص, إلا ويثير حوله الكثير من التكهنات, لاسيما الانتقال إلى المفاوضات المباشرة, آخرها وجود ضغط فرنسي على سوريا بدفع من إسرائيل للانتقال إلى المفاوضات المباشرة رغم النفي السوري لوجود ضغط كهذا, ورغم إعلان الرئيس الأسد في عدد من الأحاديث الإعلامية وخلال لقاءاته مع عدد من القادة «إنه قبل الاتفاق على أسس وعناصر السلام, من الصعب الانتقال إلى مرحلة المحادثات المباشرة», حسبما قال الأسد صراحة في حوار مع صحيفة «هندوديز» الهندية عشية زيارته إلى الهند 17€6 عن إن «المفاوضات غير المباشرة هي لجسّ نبض إسرائيل في نيتها لإعادة الجولان, هل هم جديون في ذلك أم هي مجرّد مناورة للسياسة الداخلية الإسرائيلية؟»., ومن ثم عاد وأكد أن المفاوضات غير المباشرة هي لتوفير بيئة عملية السلام ومستلزماتها… ولم يخف حاجة عملية السلام الى راع, لكن «الإدارة الأميركية الحالية غير مهتمة وللأسف علينا انتظار الإدارة الجديدة».
وفي انتظار الادارة الأميركية الجديدة, ستكون مشاركة الرئيس الأسد في القمة المتوسطية المرتقبة بمثابة فرصة لسوريا من جانب الاعتراف الدولي بدورها الايجابي, والخروج من عنق الزجاجة الأميركية, وهي فرصة لن توفرها سوريا لتدعيم مواقفها وموقعها الإقليمي.
وعلى صعيد آخر, سيشكل مؤتمر القمة المتوسطية فرصة لأوروبا عموما وفرنسا خصوصا لإعادة النظر في دورها في المنطقة بعيدا عن تأثير أجندة المشروع الأميركي, وسياسات العزل والضغوط التي تنتهجها إدارة بوش, وبحسب تعبير إعلامي سوري: «هل يريد الرئيس ساركوزي أن يلعب دورا فعلياً على مستوى المنطقة أم أنه يدرك في قرارة نفسه أن الدور الفرنسي يتحدد في الوقت الضائع بين إدارتين أميركيتين, وعلى أن يعود إلى خط التماس بعد أن تظهر إدارة أميركية جديدة, قد تبدو ملامح رؤيتها للمنطقة خلال الأشهر أو السنة المقبلة؟ مع العلم أن الانطباع المأخوذ عن ساركوزي أنه أطلسي أكثر من الأطلسيين, وما قراره بعودة فرنسا إلى حلف الناتو إلا مؤشر واضح على أنه حتى لو لعب دورا مستقلا على الصعيد الفرنسي, فلن يتجاوز الخطوط الأميركية المرسومة».
ولا يتجاوز ذلك أيضاً, كونه تكهنات متفائلة إلى حد ما في الزمن الضائع, في انتظار ما ستتمخض عنه الانتخابات الأميركية, وتتوضح أجندة الإدارة الجديدة, وما إذا كانت تنوي إتمام ما بدأته إدارة بوش, أم ستعمل على إصلاح ما تم إفساده في المنطقة. إلى ذلك الحين أمام سوريا عدة اشهر لإعداد الأرضية وتجميع أوراق من الشرق والغرب للانخراط في مرحلة جديدة سواء كانت تتجه نحو الانفتاح على أوروبا والدخول في عملية السلام او العكس.
سعاد جروس: الكفاح العربي 28/6/2008