ثورة مصر

الانقلاب العسكرى….

شريف يونس
تدور شائعات عن انقلاب عسكرى مقبل، خصوصا بعد تصريحات عمر سليمان بأن بديل الإصلاحات بقيادة مبارك هو الانقلاب، وكذا حوار جرى مع رئيس الوزراء. وبالفعل، الإصلاحات المحدودة من داخل النظام كما أُعلن عنها تتطلب وجود مبارك لإصدار القرارات وفقا للدستور القائم.

ولكن هذه الفكرة خادعة إلى أبعد حد، لأن الإجراءات الدستورية المطلوبة لا تتطلب رئيسا فقط، بما يبرر لدى البعض مطالبة الانتفاضة بالتخلى عن مطلبها الرئيسى، بل تتطلب أيضا انتخابات واستفتاءات، وكلاهما ليس فى مستطاع النظام الآن. كذلك لا تبدى النخبة الحاكمة أى استعداد لمنح مشروعية للمطالب الديمقراطية العنيفة للانتفاضة، فتكتفى بالقول بأن ثورة الشباب مشروعة فقط بوصفها مظاهرة لها مطالب معيشية وإصلاحات سياسية عامة، وتتجنب الاعتراف بأن النظام السلطوى يجب أن يزول. فوق ذلك أوضح عمر سليمان فى حديث تراجع عنه مؤخرا لقناة إيه بى سى قبل يومين، أن الشعب غير مؤهل للديمقراطية، متمسكا بالعقيدة السلطوية الأساسية للنظام.

لذلك كله، تبدو خطة الإصلاح مشكوكا فيها؛ فلا النية موجودة، ولا الإصلاحات المطروحة تلبى الحد الأدنى من المطالب، ولا هى قابلة للتنفيذ فعليا.

البديل الآخر هو الانقلاب: أن ينحاز الجيش جزئيا إلى الانتفاضة ويفرض إجراءات تتمثل فى شرعية مؤقتة بإعلان دستورى يستند إلى ما يمكن تسميته مبادئ الانتفاضة لتعقبه إجراءات تطهير للعناصر الأكثر فسادا فى النظام تمهيدا لإقرار دستور جديد. الانقلاب العسكرى هنا يعنى انقلاب قصر عسكرى على مبارك، بهدف التعامل مع الوضع بغير القيود الدستورية القائمة. ويبدو لى أن هذا الخيار يعنى بالضرورة تحقيق توافق ما بين المجموعات الكثيرة التى لم تشارك فى الانتفاضة، ولها مكاسب ما من الوضع القائم وبين قوى الانتفاضة.

مشكلة هذا الخيار بالنسبة للمجموعة الحاكمة معقدة. فمن جهة قد تكون ثمة قوى وقيادات داخل النظام يتعين مواجهتها، لا تقتصر على شخص مبارك. ويزداد تعقيد المشكلة فى ظل حالة من التوجسات المتبادلة داخل القيادات. والمشكلة الأخرى أن إسقاط الدستور الحالى وإعادة تأسيس الدولة المصرية بدستور جديد يتطلب بالضرورة دخول الجيش فى قلب المواجهة الأصلية بين جماعات المنتفعين بالنظام وقوى الانتفاضة، فضلا عن فتح باب التنافس السياسى لأن الجيش لا يستطيع أن يحكم بغير حكومة مدنية، لم يعد تشكيلها ممكنا بمعزل عن رضا الانتفاضة، أو قوى أساسية فيها.

فى الحالتين تبقى الانتفاضة هى المحرك الحقيقى للأحداث، وهى انتفاضة عصية على الملاحقة بسبب عبقريتها التى تمثلت فى اندلاعها مع غياب الحد الأدنى من التنظيم السياسى. لا توجد قيادات يمكن القبض عليها لقمع الانتفاضة، ولا هيكل تنظيمى يمكن ضربه. ولكن هذه أيضا نقطة ضعف الانتفاضة. باستثناء مطلب سقوط مبارك لا توجد نقاط إجماع كثيرة تبين متى ستعتبر قطاعات معينة التنازلات كافية للانسحاب. ولكن يبدو أن ثمة حد أدنى يفرض نفسه: حريات سياسية تسمح بتبلور لاحق لقوى سياسية جديدة، وحق غير محدد تماما بإسقاط القيادات القديمة التى فرضها النظام على الجمعيات والنقابات والأحزاب وغيرها من الأشكال التنظيمية.

فى حالة أن قرر النظام عدم الاستجابة وتقديم التنازلات الضرورية التى ستؤلم قطاعات منه، سيكون البديل هو أن يقوم الجيش بتنفيذ مذبحة على نطاق أوسع من مذبحة الأربعاء، أو حتى بالتواطؤ بالصمت عليها. ولكن هذه العملية أيضا تعتبر مخاطرة، لأنها قد تفشل وقد تؤدى إلى انقسام الجيش. وحتى فى حالة نجاحها ستكون قد نزعت آخر ورقة توت عن عورة النظام. لن يستطيع الجيش فى هذه الحالة أن يدعى براءته حتى لو لم يشارك بجنوده، وسيكون النظام قد أسفر عن وجهه صراحة كقوة احتلال، كاستعمار داخلى، مستباح معنويا لكافة أشكال العنف من داخله (بانقلابات مضادة) أو من خارجه، فضلا عن أنه سيكون قد عرض البلاد لمستقبل أسود من عمليات العنف التى ستزداد مشروعية. فالنظام سيكون قد وضع قاعدة مؤداها: العنف هو السياسة والسياسة هى العنف.

تأتى هذه الخيارات المطروحة الآن على خلفية تمتد إلى أكثر من ثلاثة عقود. فمنذ منتصف السبعينيات يواجه النظام الخيار بين تشديد قبضته الديكتاتورية بما يؤدى إلى تزايد العنف، وإرخائها لإتاحة متنفس للمعارضة والقوى الاجتماعية الساخطة، بما يجعل عمليات العنف السياسى تتراجع أملا فى نشاط سياسى سلمى. الاختيار الأول أدى إلى عمليات الإرهاب قديما والعنف المجتمعى المتزايد فى السنة الأخيرة. والثانى أفضى إلى إراقة ماء وجهه إيديولوجيا، وصولا إلى انتفاضة يناير 2011.

وقد حاول النظام فى السنوات السابقة على الانتفاضة أن يلعب السلاحين معا، بأن يتولى بنفسه قيادة وتنظيم العنف المجتمعى باستخدام البلطجية، إلخ، وصولا إلى التلاعب بالملف الطائفى بشكل غير مسئول، وهو ما وصل إلى قمته فى عملية التفريغ والفزع الأمنى الإجرامية التى تمت فى 28 يناير وما بعده. وفى نفس الوقت حاول أن يتلاعب بالمجال الإعلامى من خلال شراء وتوجيه الصحف والقنوات الفضائية الخاصة وبث أنصاره فيهما لإحكام القبضة الأمنية على المجتمع.

كان من شأن هذه الخطة الإجرامية الحفاظ على تحالفات النظام، بما فيها الحزب الوطنى الفاسد ورجال أعماله، ودفع الثمن المتمثل فى تدمير المجتمع على المدى الطويل. وترافق مع ذلك شيوع إيديولوجيا سرية للنظام تقوم على احتقار بالغ للمصريين بما يبرر هذا التلاعب، والتعامل معهم كقطيع لا يصلح للحكم ولا قيمة له عموما.

قطع نجاح الانتفاضة الطريق على هذا الخيار، وأثبت أن الذكاء التكتيكى من هذا النوع، والذى تلقوا التدريب عليه ولا شك على يد جهاز المخابرات الأمريكى الإجرامى، لا يكفى ولا يصلح. فى النهاية ألاعيب الحواة لا تصلح وحدها لإدارة الشعوب، والمجتمعات المؤسسة منذ آلاف السنين لديها من الذكاء الفطرى ما يطيح بمخططين محترفين للسياسة القائمة على الرعب والتلاعب بالرأى العام فى أجهزة المخابرات فى واشنطن وغيرها.

بهذا الفشل انكشفت الخرائط السياسية والاجتماعية بشكل أكثر وضوحا، وأنقد قطاع كبير من المجتمع نفسه بالانحياز للديمقراطية والحريات، ضد الديكتاتورية والفساد والتلاعب. هذا اللاعب الجديد الملئ بالحيوية والتحضر والجمال هو الذى أدخل الجيش طرفا فى المعادلة بالشكل القائم حاليا، وهو الذى حدد اختياراته التى ناقشناها، ليواجه، باعتباره خط الدفاع الأخير لكل من النظام والدولة خيارات صعبة تطرح عليه قضية شرعية الدولة المصرية فى أعمق تصور لهاباختصار، تدخل الجيش، أيا كان شكله، سواء بالانقلاب أو بالتواطؤ مع النظام، يأتى ليتدخل على خريطة مشكلات واستحقاقات عميقة تطول شرعية النظام نفسها، ولا يصلح في شأنها الذكاء التكتيكى الضيق وحده.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى