عشوائيات بِسعة وطن!
خيري منصور
غالبا ما يرد مصطلح العشوائية في سياقات اجتماعية ذات بعدين أحدهما اقتصادي والآخر عمراني، وحين تصنّف تضاريس المدينة العربية يتوهم من يقومون بهذا التّصنيف ان الاحياء التي توصف بالراقية والتي تصل اليها الخدمات بأنها غير عشوائية، وهذه مناسبة لفحص خطأ شائع يكرسه اعلام قاصر وثقافة هي ايضا عشوائية بامتياز .
فالعشوائية الآن ليست عمرانا او تعبيرا عن هوامش عالقة بالعواصم التي تمتد على نحو سرطاني بلا أي تخطيط او فهم عميق لما هو منهجي او عكس ذلك، وما يسمى الاحياء غير العشوائية في المدن العربية وبالتحديد العواصم، هو عشوائيات مضلّلة لأنها ترتدي أقنعة ملونة، ويتم طلاء قصديرها المغمور بالصدأ بمساحيق تجميل عمرانية حيث تخفي الواجهات الأنيقة اطلالا وخرائب. ان العشوائية كمفهوم ليست وقفا على احياء تشكّلت على نحو خرافي، فهي ايضا وصف دقيق يمكن اطلاقه على شكل الدولة العربية الحديثة، او بمعنى ادق دولة ما بعد الاستقلال، هذا على الرغم من ان معظم ما يسمى دولا ليس سوى تشكلات تنتمي الى ما يسميه بيير كلاستر ما قبل الدولة، وما قبل المواطنة. وحين يقال لتلاميذ المدارس في الوطن العربي الذي تحول الى منفى قومي أن تعداد السكان هنا او هناك هو عشرة ملايين او خمسون مليون نسمة، فإن كلمة ‘ نسمة’ هذه ادقّ لوصف العربي من كلمة مواطن، فالرعايا ليسوا مواطنين، والمواطنة ليست بطاقة تصرفها دوائر الاحوال المدنية. انها انجاز مدني لا ينفع معه احراق المراحل او اعادة انتاج الوقائع بكل ما تعج به من رعويات اعلاميا، وبهذا المعنى فالدولة العربية عشوائية كبرى، ويكفي ان يتقشّر الطلاء عنها كي تبدو على حقيقتها، فالحزب يعود الى جذره الاجتماعي بوصفه قبيلة، والفرد يلوذ بطائفته او هويته الفرعية الصّغرى كي ينجو ويشعر بالامان، واجهزة الامن تتكشف عن انكشارية من طراز عجيب، وهكذا تتضح الحقائق دفعة واحدة، وقد لا يحتاج الامر الى اكثر من نصف اسبوع!
المناهج التعليمية التي تزاوج على نحو سفاحي وقسري بين قديم فقد صلاحيته وشبه حديث مفرغ من محتواه وفاعليته هي مناهج عشوائية، لهذا علينا ان لا ننتظر منها ان تكون الا حاضنات لتفريخ اذهان عشوائية ايضا، ولو قام اي مثقف عربي بتفحص مكوناته الثقافية وما يتراكم في ذاكرته لوجد انه يعاني من عشوائية مزمنة، فلا هو هنا او هناك وليس تقليديا كما انه ليس حديثا، وما يتوهم انه التعايش بين القديم والحديث او الاصيل والمعاصر ليس في حقيقته الا مهارة في التلفيق الانتقائي على طريقة خذ ما ينفعك واترك ما لا ينفعك. من هنا كانت الحداثة العربية في كل مجالاتها بدءا من الادب حتى السياسة وبرامج التنمية مجرد تراكمات تخلو من السياق وتفتقر الى الانساق ولا تمتلك اية رؤى تحيط بالمجال الذي تنتمي اليه بانوراميا ومن كل الزوايا ..
* * * * * * * * * *
لقد نأت بنا المساجلات المجانية والتأنّق النظري بعيدا عن دوامات الواقع التي تبتلع اقدامنا وكان شغفنا ولا يزال في مُقاربات معرفية تهتدي بما أنجز آخرون، مختلفون تاريخا وسايكولوجيا ومناهج تفكير، لأنهم لم يسقطوا في كمائن ما نسميه حرق المراحل، وكان نموهم عضويا لهذا استصلحوا وفلحوا كل شبر من الارض التي يعيشون عليها، وبالمقارنة الأولية نجد اننا نبني اعتابا بلا بيوت، ونظن ان أقانيم الدولة المعاصرة هي مخفر شرطة ومبنى تلفزيون ونشيد، ثم نكتشف عند اول اختبار ان داحس والغبراء يهجعان داخل الخوذة وبنطال الجينز والنشيد الوطني، وان الغزو المتبادل كنمط انتاج جاهلي اعيد انتاجه بحيث استبدلت الادوات فقط، فالبعير تحول الى دبابة والهراوة تحولت الى بندقية، وكان الشاعر الجاهلي قد عبّر عن هذا النمط من الغزو باعتباره نمط انتاج مقدس عندما قال انه سوف يغزو اخاه ( بكر) اذا لم يجد احداً آخر كي يغزوه!
ما العشوائيات ان لم تكن هذه الظواهر الاجتماعية التي تحتاج الى استدعاء الانثروبولوجيا ميدانيا كي تقرأ حبل غسيل على سطح فيلا يغطيها القرميد، فداخل البيت العربي الواحد تعيش عدة ثقافات متجاورة ولا علاقة بينها او جدل، وقد يبدو الامر كما لو كان اختلافا في الأمزجة والذائقات والحساسيات الجمالية لكنه في الحقيقة غير ذلك، لأن التحديث لم يكن منجزا جماعيا ومن يعانون الاغتراب حتى بين ذويهم هم الذين انتجت حداثتهم تجارب معاشة او مقروءة في مجتمعات أخرى، لهذا قد يجتمع القرن التاسع عشر والقرن الحادي والعشرون تحت سقف واحد، وهذا ما يفسر لنا كيف تحولت اللغة الى وسيلة لتعميق سوء التفاهم بيننا وليس العكس، فهي الان بالفعل تلك المغنية الصلعاء في مسرحية يوجين يونسكو.
ان فقدان السياق العضوي في اي تطوّر من شأنه ان يباعد بين وعي وآخر وبالتالي لا تعني مفردات اللغة الدلالات ذاتها، وحين قرأنا ذات يوم ما كتبه مثقف ألماني عن تشكل لغتين المانيتين في زمن السور الايديولوجي ، لم نفهم ما قاله ذلك المثقف، فالألمانيتان الشرقية والغربية ما قبل هدم الجدار كانت لهما لغة واحدة لكن الدلالات هي المختلفة، فما تعنيه كلمة الشرقي هو نقيض ما تعنيه هذه الكلمات لدى توأمه الغربي… الان نفهم تلك الاطروحة ميدانيا فما تعنيه كلمة الدولة لحاكم عربي هو نقيض ما تعنيه لمثقف أعزل قرأ ارسطو وهيغل ولوكاتش وغرامشي وابن خلدون، وما تعنيه كلمة مواطن للشرطي ليس هو ذاته الذي تعنيه لطالب في الجامعة قرأ شيئا ولو يسيرا عن الماغناكارتا البريطانية او العقد الاجتماعي لروسو …
* * * * * * * * *
عشوائيات لا حصر لها في حياتنا مسكوت عنها، وكأن بعض تلك الضواحي الأشبه ببثور متقيحة على جلد المدينة هي ما يحتكر العشوائية ودلالاتها … ان العشوائية كمفهوم هي في الصميم من فعاليات ثقافية موسمية ومن معارض كتب وعلاقات انسانية داخل الاسرة وخارجها، اما الذي نتصوره تعايشا سلميا بين الأضداد والنقائض فهو عكس ذلك تماما، لأن هذه الاضداد تنتظر فرصة ما للاندلاع من مخابئها، وان كانت هناك دلالة دقيقة لما أعنيه بالعشوائية كمفهوم فإن نقيضه هو الاستراتيجيات على اختلاف مواقعها، ومن يعيشون حياتهم من يوم الى يوم او من وجبة الى أخرى لا علاقة لهم بالاستراتيجيات او اي حدّ ادنى من التفكير المستقبلي، فالدول لا تفكر فيما هو أبعد من ديمومتها حتى لو كانت على خازوق، وقد تضطر الى التفريط بأمنها القومي ومصائر احفاد الاحفاد اذا تطلب مجرد الاستمرار ذلك.. وقد انتقلت العدوى الى الافراد ايضا، فالسايكولوجيا السائدة هي سايكولوجيا التسوّل على الأقل بذلك المعنى الذي اشرت اليه وهو العيش من وجبة الى أخرى فقط، وشعارها هو أحْيـِني اليوم وأمِتني غدا، وهو الشعار المرادف لما يسمى ما يسقط من السماء تتلقاه الارض.. لكن ما سقط من السماء سواء كان قذائف من طائرات مغبرة او سحابات غبار ودخان لم تتلقه الأرض بل سقط على رؤوس الناس وأصابهم بهذا الدوار الذي فقدوا معه البوصلة.
* * * * * * *
ستة عقود على الأقل من تاريخنا العربي المعاصر بحاجة الى حفريات تكشف الجص واعشاش الدود تحت الرخام، وهي بحاجة الى ويكيليكس من طراز آخر لا يفتضح اسرار الدبلوماسية وصفقاتها بل يفتضح المسكوت عنه في تاريخ سري، اشبه بالمياه الجوفية، فالتاريخ المدوّن أملاه السلاطين بالساطور والجزرة معا!
ان دولة يجري تفكيكها وبعثرة احشاء متاحفها في الشوارع وتفتيت هويتها الام بحيث تصبح حزمة نارية من هويات صغرى مشتبكة في اسبوع او شهر هي دولة عشوائية …
ومثقف يستدير مئة وثمانين درجة في اقل من اربع وعشرين ساعة كي يضمن حصته من العلف هو عشوائي ايضا …
والعشوائية الان مناخ مبثوث في كل تفاصيل النسيج العربي، في التعليم والتربويات وشكل الدولة وطقوس التعبير عن المناسبات سواء كانت دينية او دنيوية..
اما ما نسميه العشوائيات من تلك الأحياء العالقة بضواحي العواصم فقد يكون اقل عشوائية من الاحياء الباذخة فالحفلة تنكرية بامتياز قومي!!
الخليج