النظم العربية كلها… فلترحل
سلامة كيلة
هـذه ليــست مرحلة استقرار النـظم، بل مرحـلة رحيــلها. فقد حكمت اكثر مما يجب، وقامت بكل ما يدمر المجتمع ويفقر الطبقات الشعبية. ومارست التبعية المفرطة للامبريالية الأميركية، بحيث أسهمت في تكريس الهيمنة الامبريالية الصهيونية، وفي نهب الاحتكارات الامـبريالية لهذه المجتمعات، وفي تفكيك المجتمعات وتدمـير التعليم والــقوى المنتجة، لتــؤســس اقتصــاداً لا يخـدم سـوى الطغـم الامــبريالية. هذه الطغم التي أصبحت معنيـة بتصـدير السلــع الى أقصى مدى نتيجة فيض الإنــتاج لديهــا، الذي يســبب لها أزمة عميقــة ومستــمرة، وتشغيل المــال المضــارب في كــل ما يؤدي الى تدمــير الاقتصــاد المحـلي، من خلال النشاط في القطاع المالي والعقـاري والســياحي فقط. وهــو الأمـر الذي أدى الى نشوء ظاهرة البطالة الواسعة، والإفقار الشديد والتهميش.
لهذا لم تعد المسألة هي مســألة شــكل نظام الحكم، أو من يحكم من في هذه الطبقة المافياوية الطــابع، أو كيف تبقى السيـاســة ملحقة بالمشروع الامــبريالي الصهــيوني فــحسب. لا، لقد اصبحت المسألة تتعلق بتغيير هذه الطبقة وتدمير حكمها. فالطبــقات الشعــبية لم تعد قادرة على أن يستمر الوضع على ما هو عليه، لأنها وصــلت الى مرحلة لا تستطيــع العيــش فيها. فليس هــناك شغل، ومن يعمل لا يكفِه الأجر الذي يتحــصل عليه حتى لسداد رمق العــيش. بينما تعيش قلة ضئيلة بترف لا مثيل له، جراء النهب الذي تمارسه لمقدرات البلاد. هذه القلة هي التي تحكم، وتخضع كل شيء لما يحقق مصالحها، بدون اعتبار لأي شيء، أو حساب لأي ظرف.
المسألة باتت تتعلق، بالتالي، بتغيير نمط اقتصادي جرت صياغته خلال العقود الأربعة الماضــية، وأفــضى الى نشوء تمايز طبقي واســع من جــهة، لكنــه كذلك أفضى الى عدم مقدرة كتلة أساسية من الطبــقات الشعــبية على العيش نتيجة البطالة أو تدنــي الأجور في وضع كان ارتفــاع الأسعار في تصاعد متسارع من جــهة أخــرى. وهو نمــط صيغ بالتبعية للطغم الامبريالية، وبالتالي باستتباع سياساتها المعادية لكل الشعوب، وللطبقات الشعبية خصوصاً. ولهذا لم يعد قابلاً للاستمرار في أي شكل، ولم يعد ممكناً استمراره، خصوصاً أن النمط الرأسمالي ذاته يعــيش أزمة عمــيقة لا تجعله قادراً على الضبـط، على العكس تدفــعه هــذه الأزمة الى نقلها الى الأطــراف من خــلال زيادة نهــبها باشكال مختلفة، وخصوصاً أيضاً أن أزمة المال المتراكــم التي تفـرض الميل الشديد الى المضاربة، تفرض ارتفاعاً مستمراً، وكبيراً، في اسعار السلع الأساسية، والنفط، وهو الأمر الذي يزيد من أزمة العيش في الأطراف بشكل جنوني، وهو بذلك يزيد من فرص الثورة، ومن استمرارها الى حين تحقيق التغيير العميق في النمط الاقتصادي.
هذا الوضع هو الذي جعل الطبقات الشعبية بهذه القوة والجسارة، والاصرار على التغيير، كما ظهر في تونس ومصر، ويتزايد في اليمن والأردن، وسيشمل كل الوطن العربي، الذي خضع للسياسات الاقتصادية ذاتها المفروضة من قبل الطغم الامبريالية وبالتبعية لها.
إن الأزمة أعمــق من أن تحل من خــلال هذه النظــم، وباستمرار سيطرة الطبقة المافياوية، فهي تحتاج الى نمط اقتصادي بديل، الى إعادة بناء القوى المنــتجة، الى زيـادة الأجور وضبط الأسعار، ومن ثم ضــبط العلاقة مع السوق العالمية، أي قطع العلاقة مع النمط الرأســمالي لتجاوز آثاره المدمرة على الاقتصاد المحلي. وهــو الأمر الذي يعــني بناء سياسة مختلـفة مناهضــة للرأسمالية ولمشــاريعها الامبريالية، وفي صراع مع الدولة الصهيونية، وتهدف الى التحرر والوحدة.
إن جوهر الأمر يتمثل في طبيعة النــمط الاقتصــادي الذي يجب أن يجري بناؤه من أجل استقرار الوضع. فهو أساس الانتفاضــات التي جــرت وستجري، والذي سيبـقيها قائمة ما دام لم يتغير. فدون حل أزمات الفــقر والبطالة والتهميش والسكن والتعليم والصحة، لن يكون ممكناً تحــقيق الاستــقرار، أو أن يحكم أيّ كان. هنا المفصل، حيث يجب حل أزمة المجتــمع من أجل الاستقرار، واي قفز عن ذلك سوف يبقي الصــراع مفتوحاً.
ان هذه النظم يجب أن ترحل، وإن هذه الطــبقة المافياوية يجب أن تصادر أموالها وأن تحــاسب على كل النهــب والتــخريب الذي مارسته، وأن يجــري العمل على انتصار بديل جذري يحمل مشروع الطبقات الشعبية، ويعــمل على تحقيق مصالحها. وهو لذلك سيكون في تناقض عميق مع النمط الرأسمالي، ومع السياسات الإمبريالية، فهو يفترض تجاوز هذا النمط والصراع ضد تلك السياسات لكي يتحقق، ويتجسد فعلياً، وينتصر.
مــع انتــفاضة تونــس ثــم مصر، ودخــول اليــمن والجزائر والأردن على خط الحراك الشعبي، نحن في مرحلة جديــدة ولا شــك، ســوف تنقــلب فيهــا كل الــجمل الفــارغة التي جرى حشــوها طيلة العــقدين الماضــيين، لكننا بالأساس في مرحلة التغيير العميق لمصلحة الطبقات الشعبية.