سياسة ساركوزي في الشرق الأوسط: أقرب إلى حصاد الهشيم
صبحي حديدي
يخال الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أنه قادر على حمل معظم، وربما جميع، بطيخ الشرق الأوسط بيد واحدة، سواء أكانت فرنسية خالصة من حيث المظهر الخارجي والأغراض القريبة المعلَنة، أم كانت تنوب عن اليد الأمريكية من حيث الدواخل والأهداف البعيدة الخافية. تارة يتعهد إعادة تأهيل النظامين الليبي والسوري في ناظر ما يُسمّى “المجتمع الحرّ”، لمرامٍ شتى تتراوح بين عقد قمّة الإتحاد المتوسطي بأيّ ثمن، وتشجيع الإعتدال، والنأي عن التطرّف، وتوقيع العقود؛ فتنتهي الحال إلى تمنّع العقيد معمر القذافي إزاء العقود والمشروع المتوسطيّ على حدّ سواء، وإلى حيرة بشار الأسد بين أحمدي نجاد وإيهود اولمرت. وطوراً يطرح ساركوزي فرنسا ضامناً، مسرحياً تماماً (بدلالة زيارته الإستعراضية إلى بيروت بعد انتخاب ميشيل سليمان، صحبة قادة الأحزاب السياسية الفرنسية + الروائي اللبناني الفرانكوفوني أمين معلوف!) للسلام الأهلي اللبناني وللمحكمة الدولية، فتنتهي زيارته إلى ما يشبه إسدال الستار على فصل ناقص، أو معلّقة نهايته عند اندلاع الجولة التالية، بعد جولة اجتياح بيروت في 7 أيار (مايو) الماضي. وما خلا المسرح، كيف يمكن لهذا الضامن أن يضمن الآن، بعد أن راكم فشلاً ذريعاً فوق إخفاق فاضح طيلة محاولات التدخل المتكررة، التي بدأت منذ ما قبل الجلسة الأولى المقرّرة لانتخاب رئيس لبناني، أواخر أيلول (سبتمبر) الماضي، وتواصلت حتى ما بعد انتخاب ميشيل سليمان؟
وبالطبع، كانت زيارة ساركوزي إلى إسرائيل والضفة الغربية هي آخر عروض حمل بطيخ وافر في يد واحدة، حيث استطاب ربط أمن إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية ديمقراطية، ورأى أنّ وقف عمليات الإستيطان رهن بوقف عمليات الإرهاب، كما أطلق للسانه العنان كلّ العنان في التغنّي بالقِيَم الكونية الإنسانية التي تمثّلها إسرائيل الدولة اليهودية. والحال أنّ أحداً لا يضمن، إذْ لا أحد أصلاً يفقه، التعريف الإسرائيلي لمفردة “الإرهاب”، وبالتالي فإنّ ارتهان أية سيرورة بمقتضيات هذا التعريف يجعلها في حكم المؤودة في المهد، أو المكبّلة المشلولة المقعدة. وثانياً، حين يرفض ساركوزي الحوار مع “حماس” لانه يصنّفها في خانة الإرهاب، ألا يقول ضمناً إنّ شرط الديمقراطية الفلسطينية الأوّل هو أن لا يحمل الناخب الفلسطيني أغلبية حمساوية إلى المجلس التشريعي؟
كان لافتاً، كذلك، أنّ ساركوزي اعتبر قيام الدولة الفلسطينية “أولوية فرنسية”، لكنه تحاشى السفر إلى رام الله وفضّل أن يلتقي الرئيس الفلسطيني محمود عباس في بيت لحم، لأسباب روحية ـ مسيحية كان محتماً لها أن تجبّ الأسباب السياسية ـ العلمانية، تلك التي كانت تقتضي من ساركوزي أن يزور رام الله مقرّ الدولة، قبل بيت لحم مهد السيد المسيح. هل كان حرج وضع إكليل من الزهور على قبر الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، الذي قضى في مشفى باريسي في نهاية المطاف، في عهد الحكومة اليمينية ذاتها التي كان ساركوزي أحد أقطابها، هو العائق الخفيّ؟ وهل يشرّف فرنسا أن تكون وزيرة الداخلية ميشيل أليو ـ ماري (لماذا الداخلية، تحديداً؟) هي ممثّلة ساركوزي في هذا الإجراء، ذي الدلالة الأخلاقية والرمزية الخاصة في ضمير الشعب الفلسطيني ولدى الدولة الفلسطينية على حدّ سواء؟ وكيف يمكن لفرنسا أن تجعل الدولة الفلسطينية أولوية، إذا كانت تأبى مراعاة أبسط المظاهر البروتوكولية لأية دولة؟
ثمة، إذاً، ما يغري بالقول إنّ ساركوزي لا يواصل طبعة جديدة معدّلة، على هذا النحو او ذاك، من ذلك الإرث السياسي والدبلوماسي الذي حمل ذات يوم اسم «السياسة العربية لفرنسا”، بل هو في الواقع يسعى إلى طيّ تلك الصفحة نهائياً، واستبدالها بأخرى جديدة ذات شخصية مختلفة وستراتيجيات جيو ـ سياسية متعددة السمات، لكنها في العموم اقرب إلى الرؤية الأمريكية والأطلسية لشؤون الشرق الأوسط وشجونه. والحال أنّ سياسة فرنسا العربية بدأت في صيغة أسطورة، وتواصلت هكذا في الأذهان والأبحاث والفرضيات… ليس أكثر! وباستثناء عبارة الجنرال شارل دوغول الشهيرة عن الدولة العبرية بوصفها «شعب النخبة، الواثق من نفسه، والمهيمن»، وقراره حظر بيع الأسلحة إلى الأطراف المتحاربة، فإنّ سجّل العلاقات العربية ـ الفرنسية ليس حافلاً بالكثير من الوقائع التي تشيّد سياسة متكاملة مترابطة، من نوع يستحقّ صفة «السياسة العربية» التي ظلّ البعض يتشدّق بها طويلاً. هنالك سلسلة مبادرات بالطبع، لعلّ أشهرها كان حديث فرنسوا ميتيران المبكّر، منذ ربيع 1982، من سدّة الكنيست الإسرائيلي، أمام مناحيم بيغن وإسحق شامير وسواهم من صقور الليكود، عن ضرورة الدولة الفلسطينية؛ واستقبال ياسر عرفات في باريس، وكانت تلك أوّل زيارة رسمية للقائد الفلسطيني إلى قوّة عظمى غربية.
غير أنّ هذه، فضلاً عن مشاركة فرنسا في إخلاء فصائل المقاومة الفلسطينية بعد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، كانت مبادرات مسجّلة باسم ميتيران شخصياً، ولم يكن من حقّ اليمين الفرنسي تجييرها لصالح أسطورة السياسة العربية لفرنسا كما شاع أنّ الجنرال دوغول رسمها. هي، في الآن ذاته ودونما مفارقة، ليست جزءاً من تراث السياسة العربية للحزب الإشتراكي الفرنسي، بدلالة السجال الذي أثارته تصريحات ليونيل جوسبان في ربيع 2000، وكان آنذاك رئيس الوزراء الإشتراكي، حين استخدم مفردة «الإرهاب» في وصف عمليات «حزب الله» ضدّ جيش الإحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان. (في المقابل، لم يتجاسر أيّ من لائميه، في صفّ اليمين الديغولي خاصة، على اعتبار تلك العمليات مقاومة مشروعة).
وأمّا الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك (صاحب الموقف الشهير من «روائح» المهاجرين التي تدفع الفرنسي إلى الجنون!) فإنه ـ منذ تولّيه الرئاسة الأولى سنة 1995 وبعد خطبته الشهيرة في جامعة القاهرة، وزيارته الأشهر إلي القدس الشرقية حين تشاجر مع مرافقيه من عناصر الأمن الإسرائيليين ـ لم يفعل الكثير لتوطيد السياسة الديغولية تجاه العالم العربي، بل لعلّه جمّد النهج باسره، وأسبغ عليه مقداراً من الشخصنة لا يليق بالسياسة الخارجية لقوّة عظمى. ما الذي فعله شيراك من أجل ترسيخ مبدأي «التوازن» و«الحياد»، اللذَين كانا أثيرين عند ملهمه ومعلّمه الجنرال دوغول؟ ما الذي فعله بصدد رفع الحصار عن الشعب العراقي، طيلة سنوات، أو بصدد تطبيق اتفاقيات أوسلو، أو بصدد التعاون العربي ـ الفرنسي وتطوير التنمية في بلدان الشرق الأوسط؟
المفارقة، مع ذلك، أنّ شيراك اليوم (الذي يعلن مقاطعة احتفالات فرنسا بالعيد الوطني لأنّ بشار الأسد قد يكون على المنصّة، كما يُفهم القرار ضمناً وليس تصريحاً) هو نفسه شيراك الأمس القريب: الذي دعا بشار الأسد (ولم يكن الأخير يشغل آنذاك أيّ منصب رسمي، ما عدا رئاسة الجمعية المعلوماتية السورية!) إلى قصر الإليزيه، بترتيب مباشر من رئيس الوزراء اللبناني القتيل رفيق الحريري، وهنا الشطر الثاني من المفارقة. وإذا كان معظم ساسة إسرائيل ينحون باللائمة على شيراك في تفضيل علاقاته العربية على تلك الإسرائيلية، فإنّ سجلّ الرجل في خدمة الدولة العبرية ليس خاوي الوفاض تماماً، بل لعلّ الكفة فيه تميل إلى إسرائيل أكثر من أية دولة عربية.
وفي مطلع ولايته الثانية حرص شيراك على تنظيم اجتماع وزاري خاصّ، موسّع ورفيع المستوى، لمناقشة الإجراءات الواجب اتخاذها من أجل مكافحة العداء للسامية في فرنسا. وجاء هذا الإجتماع الخاصّ في أعقاب إحراق مدرسة دينية يهودية في بلدة “غانيي” شرق العاصمة باريس، وتتويجاً لسلسلة النقاشات الواسعة التي تدور بين مفكرين يهود ومسلمين (ألان فنكلكروت، أندريه غلوكسمان، برنار هنري ـ ليفي، ضدّ الداعية والأكاديمي المسلم طارق رمضان). آنذاك، كان السفير الإسرائيلي في فرنسا، نسيم زفيلي، قد أسبغ طابعاً دراماتيكياً على هذا النقاش حين قال في مقابلة إذاعية إنّ “اليهود الفرنسيين يتساءلون عن مستقبلهم في هذا البلد”. كذلك كان زمن قصير قد انقضى على التصريح الذي أطلقه آنذاك نائب وزير الخارجية الإسرائيلي ميكائيل ملكيور، حين اتهم فرنسا بأنها اليوم “البلد الغربي الأسوأ في ميدان العداء للسامية”.
وسواء عزا المرء الأمر إلى مزاج ساركوزي المنحاز فطرياً إلى إسرائيل، لأسباب شتى متنوعة سال في وصفها حبر فائض، أو حاول تلطيفه وتجميله فعزاه إلى “سلّة” إصلاحات يعتزم الرجل المجازفة بإدخالها على الحياة السياسية الفرنسية (وبينها، بالطبع، السياسة الخارجية)، فإنّ حصّة فرنسا من كعكة مصالح الشرق الأوسط، وتوازنات القوى فيه ومن حوله، ستكون أقرب إلى حصاد الهشيم. وفي كلّ مناسبة ذات طابع دولي، في أوروبا كما في الشرق الأوسط وروسيا وأمريكا، يحرص ساركوزي على البرهنة الدؤوبة المنهجية بأنه خير خليفة لرئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، في التحالف الأعمى مع السياسات الامريكية هنا وهناك في العالم. وخطابه بالأمس أمام الكنيست الإسرائيلي كان يستعيد الرياضة الساركوزية ذاتها التي شهد العالم بعض فقراتها، بالأمس القريب، في خطابه أمام الإجتماع السنوي للجمعية العمومية للأمم المتحدة، قبل أشهر معدودات.
آنذاك دافع الرجل بحرارة بالغة عن قضايا شعوب الجنوب النامية أو الفقيرة، وتناول الملفات الثقافية قبل تلك السياسية، وناشد الأمم المتحدة أن “تعالج مسألة توزيع الأرباح، ومكاسب البضائع الجديدة والموادّ الخام ومنافع التكنولوجيا، على نحو أكثر عدلاً. وأن تعالج قضية إدخال أخلاقية جديدة إلى الرأسمالية المالية، بحيث توضع في خدمة التنمية”. كذلك أطلق ساركوزي سلسلة من المتطلبات الكونية الكبرى، الأشبه بالشعارات والأقوال المأثورة: “العدالة تعني توفير فرص النجاح ذاتها لكلّ طفل فقير في العالم، تماماً على غرار ما يتوفر من فرص لكلّ طفل غني”؛ و: “ارتباط المرء بعقيدته الدينية، بلغته وثقافته، وبأسلوب عيشه وفكره ويقينه، كلّ هذا طبيعي وشرعي وإنسانيّ بالمعنى العميق. وإنكار الامر هذا يزرع بذور الإذلال. إنه يشعل نيران التعصب القومي، والتشدّد المذهبي، والإرهاب الذي نزعم أننا نحاربه”؛ وأخيراً: “ولا يمكن تفادي صدام الحضارات عن طريق إجبار الجميع على اعتناق اليقين ذاته، والتنوّع الثقافي والديني ينبغي أن يكون مقبولاً في كلّ مكان ومن الجميع”…
ولأنّ القدرة الشرائية للمواطن الفرنسي المتوسط أكثر حساسية عنده من ألعاب الإليزيه في واشنطن وموسكو وبرلين والقاهرة والرياض وبيروت وتل ابيب بيت لحم… فإنّ شعبية ساركوزي ليست آخذة في الانحدار والتآكل فحسب، بل إنّ كلّ ما ينبغي أن يبدو طريفاً في ألعابه السياسية الخارجية لا يُترجم في الداخل الفرنسي إلا إلى تقليب شفاه، أو استهجان، أو قلّة اكتراث. غير أنّ حصّة الهشيم الفرنسية، التي لا يلوح أنها ستأتي قبل الحصاد الأمريكي، تنخز جيب المواطن الفرنسي قبل آمال وآلام الفلسطيني في غزّة، وقبل أوهام وهواجس الإسرائيلي في مستوطنة سديروت، وقبل اللهيب الذي تشهده اليوم خطوط التماس بين جبل محسن وباب التبانة في شمال لبنان. وبالطبع: قبل أن ينجلي غبش الصورة في بصيرة معتقل سياسي مثل رياض سيف، النائب السابق ورئيس مكتب الأمانة العامة لـ “إعلان دمشق”، فيميّز بوضوح أقصى الفارق بين باريس الثورة الفرنسية وحقوق الإنسان، وباريس الساركوزية الذرائعية التي تحتفل بالثورة… صحبة الطغاة ورؤوس الدكتاتوريات.
القدس العربي