صفحات مختارة

الحياة تُصنع في ميدان التحرير: ثورات الكتب الرقمية لعصر عربي جديد

علي حرب
ما يشهده العالم العربي، من انتفاضة تونس الى ثورة مصر، مروراً بما تشهده اليمن والاردن من تظاهرات واحتجاجات، هو أشبه بزلزال يقلب الأوضاع ويكسر الصورة السائدة. إنه حدث كبير بكل ما للكلمة من معنى. والحدث هو اليوم، في هذا العصر المعولم، عالمي بامتياز. إنه يشغل العرب، كما يشغل العالم أجمع، وبخاصة القوى المتصارعة والاستراتيجيات المتناقضة، من واشنطن الى طهران، ومن باريس الى بيروت، وكلٌّ يحاول قراءة الحدث وتوظيفه لحسابه. وإذا كان من المجازفة الحديث عن مآلات المجريات، فإنه، وأياً تكن النتائج، لا عودة الى الوراء. فالحدث، بتحولاته الكبيرة والمصيرية، يطوي صفحة ليفتح أخرى يدخل معها العرب الى طور جديد أو الى عصر جديد. فأيّ عصر سيكون؟ هنا قراءة في الحدث، كما جرى في تونس وفي مصر.
تغيير العلاقة مع الممكن
للحدث سمات تجعله يستحق اسمه.
الأولى: أنه مفاجئ وغير متوقع. لذا، فهو يصدم العقول الغافلة ويزعزع الثوابت الراسخة، لكي يقلب المشهد، ويُحدث تغييراً في مجرى الاشياء ومسار الافعال او في مصائر الذوات والجماعات. من كان يصدّق، قبل يوم واحد من اندلاع الانتفاضة في تونس، أن يهرب الرئيس التونسي الى خارج بلده، خوفاً من غضب شعبه.
الثانية: أن الحدث واقعة خارقة تخلق معطيات وحقائق تنفتح بها امكانات للتفكير والعمل لم تكن محسوبة أو محتملة. لذا، فهو يخرق الشروط ويخربط الحسابات بقدر ما يجعل المستحيل ممكناً، وعلى نحو تتغيّر معه قواعد اللعبة وعلاقات القوة أو نظام المعرفة وخريطة السلطة. من كان يتصوّر أن تنقلب الموازين، خصوصاً في تونس، والى حدّ كبير في مصر، بحيث يجرؤ الناس على قول ما كانوا لا يجرؤون على التفكير فيه او الهمس به.
الثالثة: أن للحدث فرادته، إذ هو ينبجس على نحو غير مسبوق ولا منتظَر، بقدر ما يجري على غير مثال، لكي يكسر قوانين الضرورة ويخالف النماذج السائدة. ولو كان مبرمجاً أو يجري وفقاً لخطة معلومة، لما كان مفاجئاً، ولما أتى بالمثير والخارق الذي تُجترَح معه امكانات تتيح قول ما كان يُمنَع قوله، او فعل ما لم يكن في المستطاع فعله والاتيان به. من كان يتصوّر أن يتحرك الشارع بأمواجه البشرية، وأن تخرج الجموع من سجونها الفكرية مندّدةً بآلهتها وطغاتها، مطالبةً بالحدّ الاقصى: رحيلهم او محاكمتهم.
الرابعة: أن الحدث لكونه يغيّر العلاقة بالممكن، فإنه يغيّر أنماط التحليل وشبكات القراءة، بقدر ما يحمل على إعادة ترتيب الاولويات او خربطة نظام الاسباب والمسببات، بحيث أن ما كنا نظنّه سبباً يغدو نتيجة، وبالعكس. فقد ساد الاعتقاد في العقود الفائتة أنه لا تنمية بلا ديموقراطية. ولكن ها هو جاك أتالي يقول إن الانخراط في نظام السوق، كما فعلت تونس، يخلق الإمكان لولادة الديموقراطية.
كذلك، كان الاكثرون، من عرب وغربيين، بينهم مفكرون كبار، يخشون على الهوية والخصوصية والحرية، من العولمة وثوراتها وتحولاتها، فإذا بها تفتح الإمكان الواسع لكسر القيود والتحرر من نير الاستبداد.
ولا عجب. فالاقتصاد الحديث، بنمط انتاجه وسلعه وأسواقه المفتوحة، يتيح حرية التبادل للافكار والاشخاص والاشياء، في حين أن الثورات بشعاراتها المقدسة وإيديولوجياتها الحديدية تعمل على تقويض الحريات واستعباد العقول. وهذا ما يفسّر كيف أنه، بعد مجيء تلك الثورات، تراجعت الحريات الموروثة عن عهود الاستعمار في العالم العربي.
الحدث يتجاوز صانعيه
الخامسة: أنه لا يمكن القبض على معنى الحدث أو استقصاء اسبابه أو حصر مفاعيله. لا يمكن انتاج معرفة به، تُطابق واقع الحال تمام المطابقة. أولاً لأن المعرفة بالواقع هي إدراك للاسباب أو بحث في شروط الامكان، فيما الحدث هو خرق للشروط؛ ثانياً، لأن المعرفة لاحقة على الحدث الذي يجري على نحو غير مسبوق ولا معلوم.
هكذا، فالحدث الحي يسبق البحث عن شروطه المسبقة، بقدر ما يجري على نحوٍ غير متوقّع، تماماً كما يسبق النموذج الناجح مَن يحلّل أسباب نجاحه، أو كما يسبق العمل الفني الناقد الذي ينتج نظريته. لذا، فإن كل معرفة به هي تأويل له، اي اعادة انتاج على مستوى الخطاب، بتشكيل لغته المفهومية او بناء نموذجه النظري او اختراع سيناريو وقوعه. هذا شأن الحدث، أكان حباً صاعقاً، أم حرباً طاحنة، أم ثورة مزلزلة، أم نصاً خارقاً، أم انفجاراً كونياً.
قد تكون المعرفة بالشروط ضرورية، لفهم المجريات وتدبّر الأزمات. لكنها ليست كافية لاستيلاد الحدث من جديد او تكراره. ما في وسعنا ان نفعله، بعد انبجاسه، هو أن نتعاطى معه لا كشرط لازم أو يقين جازم، بل كإمكان مفتوح، غني باحتمالاته، منسوج من التباساته ومفارقاته.
في هذا المعنى، يشبه الحدث النص، من حيث كونه يقبل أكثر من قراءة او تفسير، وكل قراءة تحاول استثماره، بخلق وقائع جديدة او بتوليد حدث آخر خارق وغير مسبوق. وإذا كان الحدث يجري على نحوٍ غير متوقّع، فإنه من غير الممكن التنبؤ بمآلاته أو السيطرة على مساراته. بل إن الحدث قد يرتدّ ضدّ فاعليه، او يتجاوزهم، كما هي مآلات الحروب، او كما هي مفاعيل النصوص.
مثال ذلك، أن الاطلاع على نموذج ناجح في التنمية، في اوروبا، او في ماليزيا، او في الصين، لا يكفي لخلق مثله في هذا البلد او ذلك، لأن النموذج الناجح هو حدث خارق يكسر الحتميات المقفلة، بقدر ما يجري على خلاف النماذج القائمة، تماماً كما أن المعرفة بالاعمال الروائية لا تكفي لإنتاج رواية مبتكرة. وما يمكن فعله، هو التعاطي مع النماذج والتجارب، لا بلغة النسخ والمماهاة، بل بلغة الخلق والتحويل والتجاوز، لتوليد نماذج جديدة، وفقاً لسيناريوات مغايرة.
الشرارة التونسية
على هذا النحو، انبجس الحدث التونسي. فالانتفاضة التي اندلعت، في السابع عشر من كانون الاول من العام المنصرم (2010)، لم تخطط لها نخب سياسية أو ثقافية، ولا قيادات حزبية أو نقابية، كما هي العادة، وإنما قام بها فاعل مغمور لم يَرِد في ذهنه أن ما سيفعله سوف يشكل ثورة لا سابق لها: شاب جامعي عاطل من العمل، سُدّت في وجهه ابواب الرزق، فآثر أن يحرق نفسه، احتجاجاً على وضعه البائس، في الساحة العمومية للمدينة التي يعيش فيها، فأشعل “ثورة الياسمين” في بلده.
هذا ما أقدم عليه محمد بوعزيزي في مدينة سيدي بوزيد، فكان عمله بمثابة الشرارة التي اندلعت بعدها التظاهرات والاحتجاجات الشعبية، العفوية، لكي تنتشر كالنار في الهشيم في مختلف المدن التونسية، ولكي تنتهي، بعد أقل من شهر بسقوط النظام ومغادرة الرئيس بن علي الى خارج تونس.
بالطبع كانت الارض مهيأة، والتربة عطشى. أعني أن النفوس كانت تغلي بعدما طفح الكيل من فرط الغضب والسخط، مما آلت اليه اوضاع البلاد والعباد من الاستبداد الغاشم والفساد الفاحش والبطالة المتفاقمة، اي كل ما يتهدد الناس في حرياتهم وعيشهم وكرامتهم (هذا ما لاحظته في زيارتي الاخيرة لتونس للمشاركة في يوم الفلسفة العالمي في 28/27 تشرين الثاني 2010. وأنا أعترف، كما هي عادتي عندما أزور أي بلد عربي، بأنني عندما ألتقي بأُناس معارضين وأتحدّث إليهم، أقول لمحدّثي لا تذعن للواقع، ولكني أنصحه بعدم الاستعجال. فقد علّمتنا التجارب، في لبنان، وفي سواه من بلدان العرب، أن الأوضاع عندما تنفجر، لا تعود الى طبيعتها، إلا بعد خراب البصرة. لكن ما حدث في تونس قد فاجأ، وفاق التوقعات).
لا شك أنه كان للمعارضة دورها، بعد عقود من النضالات ضد حكم بوليسي يتقن القمع وكتم الانفاس. لكنه لم يكن الدور الحاسم. فما حصل هو حركة عفوية شعبية انخرط فيها فقراء وعاطلون وبائسون وجماعات غير منظمة سياسياً او مؤطرة ايديولوجياً او مبرمجة حزبياً.
بالطبع شارك في الانتفاضة بعد اندلاعها، سياسيون، ونقابيون، ومثقفون، ودعاة، وناشطون في مؤسسات المجتمع المدني والاهلي، بحيث استقطبت في النهاية مختلف مكوّنات المجتمع التونسي وأطيافه. وهذا ما حدث في مصر، مع الفارق في حجم الحشود والجموع الهائلة، ومع الفارق بالطبع من حيث المسارات والمآلات.
هكذا، لم يصنع الحدثَ منظّرٌ ايديولوجي أو داعية عقائدي او مناضل ثوري، قومي او يساري او اسلامي. لم تحدث الانتفاضة في تونس، ولا الثورة في مصر، على شاكلة النماذج التي جسّدها لينين أو ماو تسي تونغ او غيفارا، ولا على شاكلة النموذج الذي جسّده الخميني. وهي أبعد ما تكون عن حركات التحرّر الوطني وعن الانقلابات الفوقية التي حدثت في العالم العربي على أيدي نخب عسكرية، تحت مسمّيات الوحدة والحرية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية.
في ما يخصّ تونس، لا شك أنه كان للجيش دوره في ما حدث، برفض الانصياع لأوامر بن علي بقمع الانتفاضة. لذا طلب قائده من الرئيس مغادرة البلاد، فكان ذلك أول جيش عربي لا يستولي على السلطة، بل يؤمّن انتقالها بصورة دستورية، سلمية، وهذا صنيع يُحسَب له، ويؤمل أن يستمر في موقفه.
كوابيس الطاغية
أن يتهاوى، بهذه السرعة، نظام استبدادي كان يبثّ الرعب ويزرع الخوف في النفوس بأجهزته الامنية وادواته القمعية، يعني أنه كان نظاماً هشاً، إن لم نقل كرتونياً، كما وصفه البعض. الاهمّ، أنه يعني أن الرئيس الطاغية كان يخشى من شعبه أكثر ما يخشاه شعبُه. والخوف، إذ ينتج أسوأ الحكومات، فإنه يلغم السلطة من داخلها، بقدر ما يشهد على خوائها.
لعلّ قراءة الاعمال الادبية كاشفة في هذا الخصوص، كما تمثلت لدى ماركيز ويوسا وآخرين، جسّدوا، في سردهم المبتكر، صورة الحاكم الطاغية الذي يقيم في رعبه ويتوجس من كل من يعمل معه، كما كانت نماذجه في أميركا اللاتينية. من هنا تثور اسئلة في الذهن: هل تأخر أهل تونس في التمرّد على نظام حكم كشف عن ضعفه وهزاله بالرغم من كل مظاهر القسوة والشراسة والبطش؟ هل خدعهم الرئيس أم كان يخدع نفسه؟
أياً يكن، فما تكشفه انتفاضة تونس أن الانظمة الاستبدادية هي أعجز أو أضعف من أن تصمد أو تتغلب على شعب كسر حاجز الخوف وأجمع على تغيير نظامه السياسي وواقعه الاجتماعي. لعلّ هذا هو الدرس الاول من الانتفاضة التونسية والزلزال المصري.
استعادة الدور العربي
من الطبيعي أن يكون لما حدث في تونس، بدايةً، اصداؤه في العالم العربي، خشيةً وتوجساً، او استلهاماً واحتذاء، سواء لدى الرؤساء والزعماء، أو لدى الشارع والشعوب.
فالمجتمعات العربية التي تعاني من ثالوث الاستبداد والفساد والبطالة، والتي تقاوم محاولات تحويل الجمهوريات الحديثة أنظمة وراثية او حكومات دينية، يتماهى بعضها مع البعض، ويتأثر الواحد منها بالآخر. وهذا ما حدث، خصوصاً في مصر، اكبر البلدان العربية واكثرها وزناً وأشدها أثراً، على المستويات الثقافية والسياسية والاستراتيجية.
هذا مع أن مصر كانت سبّاقة، طوال السنوات الفائتة، كما شهدت الاحتجاجات والتظاهرات من جانب المعارضة، سواء في نقدها للسلطة القائمة، أو في مطالبتها بإجراء اصلاحات على نظام الحكم، تشريعية وسياسية واقتصادية.
لعل ما يجري في العالم العربي، من فراغ استراتيجي، تسدّه الآن دول اقليمية تحت شعارات دينية، يعود في بعض عوامله الى ضعف مصر وفقدانها الديناميكية والحركة والمبادرة. أعتقد أن استعادة مصر لدورها الفعّال، سيكون له أثره، عربياً، على المستوى الاستراتيجي والقومي. في الاجمال، فإن الانتفاضة الجارية، إذا قُدِّر لها أن تنجح، سوف تفضي الى تغيير وجه العالم العربي، بحيث يستعيد فاعلياته وحضوره على المسرح الكوني.
غير أن ما جرى في تونس وما يجري في مصر، لا يعطي صدقية للأنظمة العربية التي تلجأ الى تفسير الانتفاضة او الثورة لحسابها، بنوع من المصادرة تحت شعارات، قومية مستهلكة او خادعة، تُستخدم كذرائع للتستّر على الآفات المستفحلة في الداخل، لأن هذه الانظمة مصابة بالعلّة نفسها، أعني داء التعسّف والاعتباط والفساد، أي ما من أجله ينتفض الشارع في تونس ومصر أو في الأردن واليمن.
الانتفاضة الخضراء
الاحداث الجارية، عربياً، لا تعطي الصدقية لنظام الحكم القائم في ايران. فانتفاضة تونس او ثورة مصر لا تشبهان ثورة الملالي في ايران عام 1979؛ وإنما هما نظيرتا الانتفاضة الخضراء التي قام بها الطلاب والشباب والمثقفون والناشطون في المجتمع المدني الايراني، احتجاجاً على الانتخابات النيابية التي جرت في حزيران 2009. هذا ما حدث بعد ثلاثين عاماً من اندلاع الثورة التي استهلكت نفسها تحت شعارات المقاومة والبرنامج النووي ومناهضة اميركا، وسواها من الذرائع التي تُستخدم لتغطية الفشل في حل المشكلات والهروب من الاستحقاقات المتعلقة بتوسيع مساحة الحريات أو بتحسين ظروف العيش ومستوى الحياة. وإذا كان ثمة من يملك الصدقية، لكي يسدي النصح للرئيس المصري، بالتنحي عن الحكم، فهو حاكم كأردوغان نجح في امتحان الديموقراطية والتنمية، وليس الذين فشلوا وأخفقوا.
الثورة تأكل أبناءها
أياً يكن، فالثورة الايرانية، بشعاراتها ورموزها وطقوسها ومفرداتها، وامتداداتها العربية، إنما هي ثورية ارتدادية نحو الماضي، بقدر ما تنتمي الى عصر ثوري سالف آخذ في الأفول، عصر الايديولوجيات الحديدية والأنظمة الشمولية. ولذا فهي تشبه من حيث منطقها وآليات عملها، ما سبقها من الثورات، كالروسية والصينية والكوبية، بالرغم من تناقض الشعارات والعناوين. الشبه قائمٌ في غير وجه، سواء من حيث عبادة الشخصية وتشكيل الحشود البشرية، او من حيث قولبة العقول والختم على الأجساد، أو من حيث منطق الاستئصال الرمزي او المادي للآخر، بمن في ذلك الذين وقفوا معها في البداية واشتغلوا في ترويج سلعها الرمزية.
ولا غرابة. فهذا هو مآل الثورات الجماهيرية/ النخبوية. فما يعلنه أربابها هو أنها تسعى لتحطيم الأصنام وكسر القيود لتحرير البشر من الظلم والقهر والاستعباد. ولكن ما تفعله هو شيء آخر: إنها تحطّم صنماً لتقيم آخر يصعب تحطيمه، وتكسر قيداً لتثبّت قيداً أوثق منه، لأن منطقها ليس منطق التحرير بل منطق الارهاب. ولذا، لا تستمرّ الثورات إلاّ في مواجهة أعداء تحاربهم، بل هي تخلقهم إن لم يوجدوا. من هنا فما تحسنه هو أن “تأكل أبناءها في الداخل وأن تصفّي أعداءها في الخارج”.
لعلّ الثورة الايرانية هي آخر الثورات التي تنتمي الى عصر الجماهير، حيث يسود الشعار الواحد والرأي الموحّد والزعيم الأوحد. هذا في حين أن ثورة النيل، في ميادين القاهرة وساحات المدن الأخرى، تصنعها الاجيال الجديدة. يصنعها نهر بشري متدفق، بكل ما ينطوي عليه من التعدد المثري والتنوع الخلاّق. يصنعها العاطلون، كما يصنعها العاملون، ليس عمال الطبقة العاملة، بل العاملون الجدد من عمال المعرفة ومن المشتغلين في قراءة المعلومة على الشبكة.
الشعب والجماهير
باختصار، نحن ازاء ثورات جديدة ناعمة، ذات هوية مفتوحة، تعددية، مركّبة تصنعها الشعوب ولا تصنعها الجماهير تحت عباءة الزعيم الاوحد او المرشد القائد أو البطل المنقذ. لذا، لا تختزلها قضية مقدّسة أو معتقد اصطفائي أو نظرية لا تخطئ. وشتّان ما بين الثورات الجماهيرية والثورات الشعبية، وما أبلغ الشاعر أُنسي الحاج في قوة العبارة بقوله: “إن أبشع كلمة في العربية هي كلمة الجماهير”، على ما ورد في معرض تمييزه النافذ والكاشف بين الشعوب والجماهير.
فالشعب غنيّ وقويّ بتنوّعه وحيويته، فيما الجمهور فقير وخاوٍ بأفراده الذين هم نسخ، بعضهم عن البعض الآخر، والشعب يتكوّن من أفراد فاعلين مستقلّين لهم عقولهم، فيما الجمهور كتلةٌ عمياء لا عقل لها تنتظر قائدها الذي يفكّر عنها. والشعب يُبدِع ويصنع حضارته، فيما الجمهور هو مادة الاستبداد وآلة الخراب. والشعب ينتفض ضد طغاته، فيما الجمهور يؤلّه مَن يفتك به ويقوده الى حتمه. وهذا ما يفسر كيف أن عصر الزعيم والجماهير أنتج ما عانته الشعوب والمجتمعات البشرية من التأله والتوحّش والخراب والهلاك. لذا، ليس من المستغرب أن تتحوّل الثورات الإيديولوجية، ذات الطابع الأحادي والشمولي والأصولي، الى منافٍ ومقابر. المستغرب هو التعامل معها كأنها أعياد وأعراس.
من جهة أخرى، ما يحدث من انتفاضات، في غير بلد عربي، لا يصب في مصلحة شرق اوسط اسلامي، كما تُقرأ الاحداث في ايران. أولاً، لأن مفهوم الشرق الاوسط، الذي هو مفهوم غربي اميركي، يقوم على استبعاد المصطلح العربي. في هذا المعنى، يلتقي الايراني مع الاميركي على استبعاد العرب من الفاعلية والدور. ثانياً، لأن ما يحدث سوف يكسر المعادلة السائدة، لكي يؤدي الى خروج العرب من عجزهم وهامشيتهم، ليمارسوا حضورهم الفعّال على المسرح، بما يعنيه ذلك من تراجع التدخّل الأميركي والنفوذ الايراني على السواء. لا يعني ذلك عودة الى الدور الاستراتيجي الذي مارسته مصر في العهد الناصري، لأن هذا الدور لا يشبهه، من حيث التشبيح النضالي والاستراتيجي، سوى الدور الايراني. في كل حال، سواء تعلّق الأمر بمصطلح إسلامي أم شرق أوسطي أم عربي، فالمأمول أن يتشكّل دور عربي جديد هو أقرب الى الدور الذي تمارسه تركيا، اليوم، بمفردات التوسّط والتوازن والتضامن والشراكة والتبادل.
المفارقة الفاضحة
بالطبع، إن المثقفين هم أول من تفاعل مع الاحداث على هذا الوجه او ذاك، ليس فقط بسبب حرفة الكتابة والصحافة، بل لأنهم يتصرفون دوماً بوصفهم الاوصياء والوكلاء الحصريين على القيم العامة المتعلقة بالحقيقة والعدالة والثورة والهوية والامة.
لكن الكثيرين من المثقفين لا صدقية لهم في ما يدّعون او يعلنون من المواقف. فهم ضد الاستبداد في مكان، لكنهم يقفون معه أو يسكتون عليه في مكان آخر. فهم ضدّ المجازر التي ترتكبها إسرائيل في غزّة، لكنهم يصفقون وينتشون للمجازر التي ترتكبها “القاعدة” في العراق في حق عراقيين. وهم مع الحرية والديموقراطية في تونس والقاهرة، لكنهم ضدها في لبنان، إذ هم مع محاولات تعريبه وأسلمته، على الطريقة التي تؤدي الى فقدانه ميزته، كبلد شكَّل ولا يزال يشكّل منبراً لحرّية الكلمة ومساحةً لممارسة الحريات الديموقراطية التي افاد منها كل الهاربين من جور حكوماتهم او من فقر بلدانهم.
هم الى ذلك، قد فقدوا الصدقية والمشروعية والفاعلية منذ زمن طويل، سواء من حيث نماذجهم في فهم العالم او من حيث برامجهم لتغيير الواقع. فالعالم، تغير ويتغير، بعكس تصوراتهم وخططهم. الاهم أنه يتغير على يد قوى جديدة، كانت مستبعدة او مهمشة، وربما محتقرة، من جانب المثقفين الذين يدّعون احتكار الوعي والعلم والمعرفة بأحوال العالم، فإذا بهذه القوى تبدو حية، ناشطة، فعالة اكثر مما يحسب دعاة التقدّم والتغيير.
هذه هي حال العاطلين عن العمل الذين كانوا يعملون بصورة سلبية أو عقيمة، فإذا بهم يساهمون الآن في تفجير الانتفاضة في غير مكان من العالم العربي. وهذه هي خصوصاً حال الأجيال الجديدة من الشباب والمدوّنين والعاملين على الشبكات. من المفارقات، أن فلاسفة العرب ومفكّريهم لا يزالون يثيرون أسئلة النهضة ومشكلات الحداثة، فيما الفاعلون العرب الجدد تجاوزوا الحداثة الى ما بعدها، بانخراطهم في الحداثة الفائقة والسيّالة للعصر الرقمي والواقع الافتراضي. وها هم يتصدّرون الواجهة ويصنعون الحدث الذي سارع المثقفون الى تلقفه والتعيّش عليه، للحصول على شهادة حسن سلوك ثوري او تحرري او تنويري. أقول التعيّش، لأن مجتمع المثقفين لبس ملكوتاً للفضيلة ولا هو مملكة للحرية والعدالة، بل هو الأسوأ داخل المجتمع الكبير، كما تشهد علاقات المثقفين بعضهم مع البعض.
لنعترف بفشلنا وافلاسنا، وبأن جيلنا قد أورث الاجيال الجديدة كل هذا التردّي والتراجع. مؤدى الاعتراف، أننا الوجه الاخر للأنظمة التي ندينها وننتشي لانهيارها، من حيث مقولاتنا المستهلكة ومناهجنا العقيمة وعقولنا القاصرة.
صدمة النُخب
بذلك يثبت المثقفون من اصحاب المشاريع الايديولوجية والثورية والتحررية، أنهم يأتون بعد فوات الاوان، لكي يعترفوا بأن الاحداث تسبقهم او تصدمهم او تفضح عجزهم وهشاشتهم وجهلهم بالنفس والآخر والمجتمع والعالم.
لذا نراهم الآن يكرّرون ما كانوا يرفضونه من قبل. كانوا يقولون إن المثقف هو خط الدفاع الاخير عن الثقافة والامة والهوية، وكانوا متشبّثين بشعارات التحرر الوطني، فإذا بالاحداث توقظهم من سباتهم، لكي يقولوا إن انتفاضة تونس أو مصر تصدم النخب والانظمة، او يعترفوا بأن الاحداث الجارية لم يصنعها المنظّرون والمثقفون، أو يجزموا بسقوط حركات التحرر الوطني، مع أن هذه انهارت منذ زمن، بعد انهيار المعسكر الاشتراكي ونهاية المثقف النرجسي النبوي الرسولي. بالطبع هي بقيت شغّالة، ولكن بعدما نخرها الفساد والعجز، تماماً كما بقي المثقف يغرق في تهويماته الإيديولوجية ويتشبّث في أفكاره المحنّطة.
في كل حال، ما جرى في تونس ويجري في مصر، وما يمكن أن يجري في بلدان عربية تنتظر دورها، يفكك ثنائية النخبة والجماهير، بقدر ما يكسر عقلية الوصاية على القيم والمجتمعات، بعقل نرجسي وفكر أحادي.
السلطة مسؤولية جسيمة
للشعب التونسي، كما للمصري، ان يفرح بما حدث، بعدما أزيح الكابوس وانكسر جدار الصمت والخوف، لكي تنطلق القوى من عقالها، ويستعيد المجتمع، في مختلف حقوله وقطاعاته، حيويته وحريته ومبادرته للمشاركة في اعادة ارساء النظام وتشكيل خريطة السلطة على أسس وقيم جديدة، بالمحافظة على المكتسبات، والعمل على تطويرها وتوسيعها واثرائها، بعقول مرنة، مركّبة، تداولية، تأخذ في الاعتبار، تنوع المجتمع وتعقيد الواقع وتشابك القضايا وتداخل المستويات، بحيث تدار الشؤون العامة وتجرى اعمال الانماء، بمفردات التركيب البنّاء والتحويل الخلاّق والتجاوز المنتج والتبادل المستمر، اصلاحاً ونهوضاً، أو تطويراً وتحديثاً، أو انماءً وازدهاراً.
تلك مسؤولية جسيمة يؤمل أن يحملها أهل تونس، وكذلك أهل مصر. لأن الثورة ليست مجرد افراح واعراس، كما علّمتنا التجارب، خصوصاً لدى حركات التحرّر الوطني وفي دول العالم الثالث، حيث أعيد انتاج الاستبداد والفساد والتفاوت بأردأ اشكاله.
ثمة درس آخر مستفاد من الحدث التونسي، أنه لا مجال، بعد الآن، لأن تُدار الدول بعقل مركزي فوقي، أو سلطوي بوليسي، او استبدادي شمولي، يحوّل المجتمعات والسلطات والثروات سجوناً أمنية أو اجهزة مخابراتية أو احتكارات مالية. ففي عصر القنوات والشبكات، حيث تنتشر المعلومات وتتعولم الافكار وتتشكل الهويات العابرة والمتداخلة، تنفتح الحكومات الناجحة والفعّالة على الحراك الاجتماعي بكل دوائره ومستوياته، بقدر ما تعمل بمنطق أفقي ديموقراطي تبادلي.
أخيراً، فمن الدروس أنه، ليس لأحد أن يتعامل مع بلده بوصفه مشروعه الخاص، لكي يحتكر شؤون الحقيقة والسلطة والثروة، كما ليس لأي فئة او قوة سياسية، معارضة أم موالية، أن تحتكر الوصاية على العدالة والتنمية والحرية او على الهوية والامة والمقاومة، وسواها من القيم العامة. فهذه ليست ملكاً لأحد، لأن لكلّ مواطن صلة بها، بقدر ما يشارك في بناء بلده بعمله واختصاصه وانتاجه او ابداعه. إن عصر الايديولوجيات الثورية والاصوليات الاصطفائية التي يدّعي اصحابها امتلاك الاجوبة النهائية والحلول القصوى للمشكلات، أفضى الى الاخفاق او الى الكوارث، مما يعني أن إدارة الامور، بصورة ايجابية وبناءة، إنما تتم بمفردات التسوية والتوسط والتعدد والشراكة.
وهذه عملية متواصلة لا تتوقّف، وسيرورة نامية من الخلق والابتكار، يعاد بناؤها باستمرار، في مواجهة التحديات والتحولات، مما يقتضي التخفف من الادعاءات والمنازع الفردوسية والطوباوية والمثالية، للعمل بمفردات اليومي، والميداني، والقطاعي، والعابر. إن العالم لا تصنعه فقط الافكار الكبيرة والقيم السامية، وإنما تصنعه ايضاً، وربما خصوصاً، الاطماع والنزوات والعداوات والاحقاد. من هنا، فإن علاقة البشر مع الحرية او العدالة او الحقيقة تشبه علاقة سيزيف مع صخرته التي تقع كلما حاول رفعها، ولذا فهي تحتاج لأن تُرفع باستمرار.
الفاعلون الجدد
ما حدث في تونس وترك اصداءه المدوية وآثاره العميقة في النفوس، لا يعني أنه سوف يحدث بحرفيته في بلدان عربية اخرى تعاني من الفساد والفقر والاستعباد. وإذا كان الحدث لا يتكرر، بل ينبجس، على نحو غير مسبوق، فإن معنى ذلك أن كل بلد عربي يعاني من القهر والعبودية، إنما يصنع نموذجه ويغيّر واقعه على طريقته. ربما يحتاج الامر الى “ولعة” كي تندلع الشرارة ويتداعى البناء، ويحتاج الى حدس مفاجئ لكي يشتعل الفكر المتكلّس ويتحرّر العقل المستعبد، ويحتاج الى خيال خصب وسيناريو خلاّق لكي تنطلق القوى المعطلة والطاقات المشلولة. فلا تغيير من دون خلق او ابتكار.
الأهم، أن ما حدث في تونس، ويحدث في غير بلد عربي، وبخاصة في مصر، هو وليد لثورة المعلومات والاتصالات التي أتاحت البث والاتصال للصور والمعلومات بسرعة البرق والفكر، بقدر ما هو ثمرة للقوى الجديدة الصاعدة على المسرح، التي باتت من معطيات الواقع العالمي الراهن. هناك أولاً صعود بلدان كانت على الهامش، بل وراء العرب، فإذا بها تصبح أمامهم، كالصين والهند والبرازيل وماليزيا وتركيا، مما عنى كسر أحادية النموذج والقطب والمركز في التنمية والسياسة والمعرفة.
على صعيد آخر يسجَّل صعود المرأة، خصوصاً في ميدان السياسة، على نحو يكسر خرافة الفحولة وقيمومة الذكورة. من هنا فالمرأة العربية هي اليوم جزء من الثورات الجارية بحيويتها وفاعليتها.
وأخيراً، هناك صعود الاجيال الجديدة، الشابة، الفتية، التي تفلت من عقال الايديولوجيات الإسمنتية والمنظمات الجهادية الارهابية. لهذه العوامل، وبخاصة الشباب، ووسائل الاعلام، الدور الاكبر في حصول الثورة الجارية، التي هي ثورة سلمية، مدنية، لا تشبه ما سبقها.
ثورة ناعمة
من المفارقات الفاضحة أن يتوجّس تشومسكي أو جيجيك ونظراؤهما العرب من العولمة والليبيرالية الجديدة، فيما هي فتحت الامكان الواسع لولادة نظام عربي جديد ديموقراطي، بكسرها الحواجز والحدود، على النحو الذي يتيح بثّ الصوَر والحصول على المعلومات بسرعة البرق والفكر.
طبعاً، إن الثورات الجارية لا تلغي مكتسبات الثورات التنويرية والسياسية والتحررية، العالمية او العربية، لكنها تتجاوز ما استهلك منها، وتتعلم مما اخفق وفشل، بقدر ما تختلف عما سبقها في رموزها ولغتها وعناوينها وقواها وأدواتها، وبخاصة في أساليبها. إذ هي ثورة ناعمة لا تحاول تغيير الأوضاع بالعنف وسفك الدماء. هي ليست اشتراكية ولا ناصرية ولا جهادية، كما يتمنى أو يحنّ او يحلم ديناصورات العقيدة والفلسفة والسياسة والثقافة. لإنها إبنة عصر العولمة بأدواتها الفائقة وليبيراليتها الجديدة التي تتيح فضح المستور وكشف الأسرار. فالعولمة هي، كأي شيء آخر، يمكن أن تُستخدم بصورة فاحشة أو وحشية كما يستخدمها النموذج الإرهابي أو من يُمارس النهب المنظّم، كما يمكن أن تُمارَس بصورة إيجابية وبنّاءة، كما يستثمرها عمّال ثورة النيل و”ثورة الياسمين”.
نحن ازاء انتفاضات تطرح عناوين ملموسة، تتصل بحياة الناس وهمومهم، التي تبتلعها الشعارات الكبيرة والقضايا المقدسة التي هي مصدر الحجب والتضليل أو الاستعباد والارهاب. لذا، فالمنتظر أن تكون متواضعة بلغتها وأساليبها، بحيث تكسر القاعدة القائلة إن الثورة تخنق الإمكان وتصادر الحريات، بقدر ما تنتهك شعاراتها وتأكل أبناءها. ما يُؤمل أن تفتح الآفاق والفرص، للدخول في عصر جديد، او لبناء عالم مختلف تصنعه لغات وافكار وقوى وأساليب جديدة، حيّة، فعالة، سلمية، بناءة، ايجابية.
ثمة صورة لافتة وسط المشهد، هي صورة وائل غنيم، أحد المشاركين في انتفاضة مصر، لا يهدّد بحرق البلاد والعباد تحت شعار “أنا أو لا لأحد”، بل يبكي بعد خروجه من السجن، معترفاً بأنه ليس بطلاً بل هو واحدٌ ممن يشاركون في صنع ما يحدث. هذا نموذج لا يشبه النماذج الثورية السابقة. لا يشبه نماذج الحاكم الديكتاتوري ولا السياسي الفاشيّ، كما لا يشبه نماذج المنظّر العقائدي، الحداثي، أو التراثي. ربما نجد شبهه لدى غاندي أو لدى مانديلا، وأياً يكن، فإنه نموذج الفاعل الجديد الذي يشارك في صنع عالم جديد ومختلف. هكذا فإن ثورة الكتب الرقمية هي التي ستغيّر وجه العالم العربي وليس ثورات البيروقراطية الثقافية.
لا أريد أن أحلم أو أبالغ، لكن ما يؤمَل من الانتفاضات الجارية، او التي يمكن أن تجري، هو أن تنجح في امتحانات الديموقراطية والتنمية والعدالة والكرامة، لكي تصنع مستقبلاً جديداً فتنكسر الصور النمطية السلبية عن العرب، لكي تتشكّل صورة جديدة مشرقة، بوصفهم من بُناة الحضارة ومن صنّاع المعرفة والحداثة والتقدّم، للمشاركة مع بقية الجماعات والأمم في رسم مستقبل أفضل للبشرية ¶
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى