صفحات مختارة

رغم المعادين للتغيير ستظلّ الديموقراطية قابلة للتحقّق

فريد زكريا
في لقاء فرانك ويزنر، الديبلوماسي وموفد الرئيس الأميركي باراك أوباما، والرئيس حسني مبارك يوم الثلاثاء في الأول من شباط- فبراير، كان المشهد مألوفا لكلا الرجلين. ذاك أنّ ثلاثين سنة انقضت على دخول الدبلوماسيّين الأميركيين قصور هليوبوليس الباذخة، بجوار القاهرة، حيث يحكم حسني مبارك مصر. الرئيس المصري يستقبل زائره بحرارة، ثم يبدأ معه الكلام عن العلاقات الأميركيّة المصريّة ومصير سلام الشرق الأوسط. بعد ذلك، وبلطف مُدارٍ، يطرح الأميركي مسألة الإصلاح الداخلي في مصر. الرئيس مبارك، إثر ذلك، سيردّ محتدّا: “إذا فعلت ما تطلبون سيستولي المسلمون الأصوليّون على السلطة”. ثم يعود الحديث إلى حيث كان انقطع في مسألة عمليّة السلام.
من المرجّح أنّ هذا السيناريو ينطبق على ما جرى في لقاء الثلاثاء ذاك. كان مبارك، وبحكم المؤكّد، قد حذّر ويزنر من أن رحيله سيجعل مصر فريسة لراديكاليّة الأخوان المسلمين. كان قد سبق لمبارك مرارا أن ذكّر زائريه بحماقة الولايات المتحدة سنة 1979 حين أوقفت بلادهم الدعم عن شاه إيران، الحليف القويّ، لتجد النظام وقد انتقل إلى أيدي الثيوقراطيين المعادين لهم. لكن، هذه المرّة، كان في جعبة الزائر جواب آخر: لقد حان الوقت لأن يبدأ انتقال السلطة.
وهذه هي الرسالة التي كان قد بلّغها أوباما لمبارك حين تحادثا هاتفيّا في الأوّل من شباط. ” كانت محادثة خشنة”، قال أحد رسميّي الإدارة الأميركيّة. موظّفو الأمن القومي الكبار كانوا يستمعون متحلّقين حول مكبّر الصوت في المكتب البيضاوي. وكان أوباما قد أوضح إلى أيّ حدّ كانت الإنتفاضة صعبة عليه، شخصيا، وهو، رغم ذلك، أصرّ على الرئيس المصري أن يمتنع عن استخدام القوّة ضدّ مئات الألوف الذين نزلوا إلى الشوارع. لكن، في اليوم التالي، تحوّلت هذه الشوارع، التي كانت تجري التظاهرات فيها مسالمة، إلى العنف. في القاهرة راح مؤيّدو مبارك، بعضهم على ظهور الخيل، يقتحمون المكان مغيرين على المتظاهرين.
كان ذلك إيذانا بتلاشي أيّ تصوّر واضح لما ستتّخذه الثورة المصرية في الأيّام والأسابيع المقبلة. لقد اتخذت الصدامات بين المؤيّدين والمعارضين أبعادا جديدة . هناك كثيرون متعيّشون من النظام وهم سيقاتلون من أجل الحفاظ على بقائه. ومن جهة أخرى كانت المعارضة قد اشتدّت وقويت، والعالم ، كما الولايات المتحدة، قد وضع حسني مبارك على اللائحة.
مهما حدث في الأيام القليلة الآتية لن تتبدّل السيرورة المركزيّة للثورة المصريّة. سيكتب المؤرّخون أنّ يوم 25 كانون الثاني- يناير هو بداية نهاية حكم مبارك الذي امتدّ لثلاثين سنة. وإنّنا، الآن، سنختبر تلك النظرّية التي لطالما تداولها السياسيّون والدارسون: هل ستوصل ديمقراطيّة مصر إلى حكم إسلامي راديكالي؟
قليلون يرون أنّ ذلك لن يحدث أبداً. لطالما كان يُنظر إلى مصر بكون مجتمعها مراعيا للسلطات، وذات دولة قويّة وبيروقراطيّة يمكن لها أن تكون متخلّفة وفاسدة لكنّها ممسكة بالأمن رغم ذلك. “هذا بلد مشهود له بالإستقرار السياسي” كتب فؤاد عجمي في مقالة سنة 1995، مشيرا إلى أنّ مصر، على مدى القرنين الفائتين، لم يتداول حكمها إلا نظامان اثنان: الملكيّة التي بدأ حكمها في 1805، وحركة الضباط الأحرار التي انقلبت على السلطة تلك في 1952 بقيادة جمال عبد الناصر. (فرنسا، على سبيل المثال، شهدت، للفترة ذاتها، ثورة، وأمبراطوريّتين، وخمس جمهوريّات وشبه فاشية واحدة). في المخيّلة الشعبيّة، المصريّون سلبيّون، قابلون أو راضخون للدين وللتراتب السلطوي. لكن في نهاية كانون الثاني ذاك غصّت شوارع القاهرة والإسكندريّة ومدن أخرى ببشر مختلفين: جموع نشطة صلبة الإرادة من رجال، ونساء أيضا، تسعى إلى أن تصنع قدرها بنفسها وتمسك مصيرها بأيديها.
ما الذي تغيّر؟ أولا، لم يكن المصريّون يوما على الصورة التي رسمتها عنهم سمعة القعود تلك. المجتمع المصري حفل بنشاطيّة سياسية، بدءا بالإسلام الراديكالي مرورا بالماركسية والقوميّة العربيّة والليبرالية. لكن إبتداء من الخمسينات أطبق النظام على المجتمع المدني، محظّرا عمل الأحزاب، مغلقا الصحف، مرسلا الناشطين السياسيين إلى السجون، راشيا القضاة ومُسكتا المثقّفين. لم تكتب إلا كتب جادّة قليلة في العقود الثلاثة الأخيرة، وقد أُحكمت الرقابة على الجامعات، والتزمت الصحافة الخطوط المسموح بها فصار الناس ينطقون بما يقرأونه أو ما يسمعونه. في السنوات العشرين الأخيرة أدّت الحرب على الجماعات الإسلاميّة إلى أن يزيد نظام مبارك إطباقا على المجتمع المصري، بحجة الأمن.
الإصلاح والثورة
تحقّق لنظام مصر بعض النجاح، وقد نتج عن واحد من عناصر ذلك النجاح ذلك، ولسخرية القدر، ذلك الإرهاص بالتغيير. خلال العقد الأخير عملت مصر على إصلاح إقتصادها. منذ التسعينات رأت مصر أنّها، من أجل أن تتمكن من الإقتراض من البنك الدولي، عليها أن تتخلّى عمّا هو غير فعّال في نظامها الإقتصادي، الإشتراكي إلى حدّ ما. في السنوات الأخيرة، مصغيا إلى ما راح يقترحه إبنه جمال، أجرى مبارك إصلاحات أساسيّة على عمل حكومته بغية إعادة بناء الإقتصاد المصري، فخفّض الضرائب والرسوم وقلّل من الإنفاق على المؤسّسات المحميّة من الدولة. مصر، الغارقة في سباتها منذ زمن طويل، عرفت نموّا مشهودا. من 2006 إلى 2008 نما الإقتصاد بنسبة 7 بالمئة في السنة، وحتى في السنة الماضية، بعد الأزمة الإقتصادية، حقّق النموّ نسبة 6 بالمئة. بالترافق مع ذلك حقّق الشعب المصري تواصلا أكبر مع العالم الخارجي باستخدامه الوسائل التكنولوجية الحديثة، وذلك بعد عقود من ارتفاع جدران “الحماية” حوله.
كيف يمكن للتقدّم الإقتصادي أن ينشئ معارضة؟ النموّ يزحزح الأشياء عن مواضعها، يقلق النظام المستقرّ الراكد وينتج اللامساواة وانعدام اليقين. كما أنّه ، من ناحية أخرى، يولّد التوقّعات والآمال. لم تشهد تونس نموّا كالذي شهدته مصر، لكنّ الفساد المستشري إنكشف أمام الناس وبات على النظام أن يعالج ما يصعب احتواؤه. كان ألكسيس دو توكفيل قد أشار مرّة إلى أنّ “أكثر اللحظات خطرا للحكومة السيّئة هي لحظة ما تبدأ هذه الحكومات بإصلاح نفسها”. هذه ظاهرة لم تغب عن ملاحظة علماء السياسة “الثورة هي نتيجة تصاعد التوقّعات”. يصعب على الديكتاتوريّات مماشاة التغيير لأنّ بنيان السلطة الذي أرسته لا يمكنه الإستجابة للمتطلّبات الجديدة والديناميكيّة لشعوبها. هكذا كان الحال في تونس، وهكذا هو حال مصر أيضا. عطالة الشبّان وارتفاع ثمن الغذاء ربّما كانا سببين راهنين، لكن خلف ذلك يكمن إتّجاه متنام للتغيير متوافق مع هبوب الرياح الآتية من العالم (لاحظ كيف أنّ بلدانا أكثر ركودا مثل كوريا الشماليّة وسوريا ما زالت على استقرارها).
حسني مبارك واكب التقدّم الحاصل في الإقتصاد بخطوات متراجعة وحادّة في السياسة. وإذ كان قد سمح ببعض التحسينات في الإنتخابات النيابيّة لسنة 2005، عاد في انتخابات 2010 ليسير في إتّجاه المعاكس مقلّصا حصّة الأخوان المسلمين من 88 نائبا إلى صفر نائب. أيمن نور، الذي ترشّح للرئاسة ضدّ الرئيس مبارك في 2005، جرى اعتقاله بناء على تهم مختلقة، فسجن وعُذّب قبل أن يُطلق سراحُه في 2009. هذا وكان مبارك قد أتاح بعض الحريّة للإعلام والتجمّع في أثناء إنتخابات 2005 تلك، لكنّه عاد ليعدل عن ذلك، تاركا رجال سلطاته يقمعون القضاة والمحامين الذين وقفوا معارضين لنظامه.
في ما يتعلّق بموضوع تداول السلطة خيّب مبارك بحدّة آمال الكثير من المصريين، بمن فيهم عدد من وزراء حكومته الذين ظنّوا أنّ إنتخابات 2011 ستجري من دون أن يكون هو مرشّحا فيها. (لا يخفى أنّ عددا من معاونيه أملوا في أن يتبوّأ منصب الرئاسه إبنه جمال مبارك، وذلك في مناخ سياسي موجّه ومسيطر عليه). لكن في السنة الفائتة أشاع مبارك الأب أنّه ينوي الترشّح لدورة سادسة، على الرغم من مشكلاته الصحيّة وبلوغه الثانية والثمانين من العمر. كان ذلك دليلا على أنّ الإصلاح السياسي ليس في وارده إطلاقا، رغم ما تحقّق على الصعيد الإقتصادي.
لو كان أعلن في السنة الماضية عن عزوفه عن الترشّح، بدلا من أوّل شباط الفائت، لكان لقي ترحيبا من المصريين واعتبر مهتما بإدخال بلدهم في مرحلة إصلاح. اليوم، فات الأوان. لكن، رغم ذلك، سيظلّ ما يحدّد سمعة مبارك نوع النظام الذي سيعقب نظامه. إذا ما غرقت مصر في الفوضى أو أمست في ظلّ حكم ثيوقراطي، مثلما هو الحال في إيران، عندها يمكن للناس أن يتوقوا إلى زمنه. أما إن أفلحت مصر في إقامة ديمقراطية فاعلة فسيكون مشكلا إرث الديكتاتورية الذي خلّفه.
على أيّ الحالين سترسو مصر؟ لن يخلو من تسرّع وطيش كلّ توقّع واثق لمآل الأمور. مصر بلد شاسع ومعقدّ وفي وسط تحوّلات غير مسبوقة. هناك بالتأكيد ما يدعو إلى القلق. حين قام مركز بيو للأبحاث بمسح العالم العربي في نيسان-إبريل الماضي تبيّن أنّ 82 بالمئة من المصريين يؤيّدون الرجم كعقاب لفعلة الزنى، 84 بالمئة يؤيّدون الحكم بالموت على المرتدّ عن دينه، وفي النزاع بين الأصوليين والتحديثيين وافق 59 بالمئة هؤلاء الأخيرين.
يكفي هذا لكي يقلق المرء من احتمال قيام نظام على النمط الإيراني، لولا أنّ هناك عناصر أخرى احتوتها إحصاءات أخرى. في مسح أجري عام 2007 تبيّن أنّ 90 بالمئة من المصريين يناصرون الحرّية الدينيّة و88 بالمئة لقضاء غير متحيّز و80 بالمئة لحريّة الرأي و75 بالمئة أدانوا الرقابة. في ما يتعلّق بتقرير 2010 أبدت أكثرية واسعة تفضيلها الديموقراطية على أيّ نوع من أنواع الحكم.
ما زلت أعتقد أن الكلام عن الحكم الديني مبالغ فيه هنا في مصر. إيران الشيعيّة ليست مثالا يحتذى في مجتمع سنيّ ، كما هو حال المجتمع المصري. لقد عرف البلد حسني مبارك ونظام رجال الدين الإيرانيين وهو لا يريد أيّا منهما. ربما كانت “الديموقراطية غير الليبرالية” أقرب إلى الإحتمال، حيث تجري الإنتخابات بحريّة ونزاهة معقولتين، لكن لكي تقيّد الأكثريّة المنتخَبة الحريات والحقوق الفرديّة، وتطبق على المجتمع المدني وتستخدم الدولة أداة لسيطرتها. الخطر، بكلام آخر، قائم في التجربة الروسيّة أكثر مما هو قائم في المثال الإيراني.
أملي أن تتفادى مصر هذا المعبر. وإني لا أستطيع الجزم بأنّها ستتمكّن من ذلك. لكن هناك دلائل على أن الديمقراطيّة في مصر يمكن لها أن تنجح. أولا، الجيش، الذي سيبقى مدنيّا بحزم، وحائلا دون محاولات قيام نظام ديني. قد يقاوم الجيش المصري جهود الديمقراطيين لإسقاط بعض عناصر الديكتاتورية العسكرية- طالما أنّ بعض نخب القوّات المسلّحة أفادت منها- لكنّ شعبيّته وقوّته ستمكّنانه من التزام بعض الحدود. في مصر، كما في تركيا، للجيش فرصة أن يؤدّي دورا في تحديث المجتمع وتقنين تسرّبات السياسات الدينيّة إليه.
المجتمع المدني المصري غنيّ ومعقّد وهو عرف محاولات تحرّر مثابرة. منذ حملة نابوليون على مصر في 1798 لم يتوقّف المصريّون عن التأثّر بالغرب. التيّارات الليبراليّة في الفكر والسياسة كانت تزدهر بين فترة وأخرى، خصوصا في ثمانينات القرن التاسع عشر وفي عشرينات القرن العشرين وخمسيناته. قانون 1882 الأساسي كان سبّاقا ومتقدّما عن جميع دساتير آسيا والشرق الأوسط في ذلك الوقت.
وفي مصر أسلاك أساسيّة لنظام دستوري ليبرالي في طليعتها القضاء الذي سبق له أن قاوم تدخّلات الدولة لعقود. في كتاب مدهش صدر عام 2008 “مصر بعد مبارك” يعدّد بروث روذرفورد أشكال النضال المثابِرة للقضاء في سعيه لتحقيق استقلاليّته، حتى في ظلّ الديكتاتوريّة العسكريّة. التحرّكات الأخيرة نحو إقتصاد سوق مفتوح أدّت، هي أيضا، إلى تكوّن نخبة من رجال أعمال ذوي مصلحة بنظام ليبرالي دستوري.
من المحتمل بالطبع أن تتوقّف الإصلاحات الإقتصاديّة. فكما في بلدان كثيرة، تؤدّي سياسات إبطال الشركات المدعومة من الدولة والصناعات المحميّة إلى معارضة شديدة من قبل أوليغارشيّي الأعمال. لكن أخذا بالإعتبار أنّ مصر في حاجة إلى تنمية إقتصادها، سيكون صعبا تحويل مجرى الإقتصاد الذاهب في اتجاه تحرير الأسواق. إن سياسات كهذه (تحرير الأسواق) تتطلّب قوانين ومحاكم أكثر كفاءة، كما تتطلّب جهودا لوضع حدّ للفساد، بما يقتضي تعزيز التعليم. ومع الوقت سيؤدّي هذا إلى نشوء طبقة وسطى أكثر استقلالا عن الدولة.
إغراء الإسلام وحدوده
التحدّي الحقيقي يبقى في الدور الذي سيلعبه الإسلام، الأصوليّة الإسلاميّة والأخوان المسلمون. في مصر، كما في العالم العربي الأوسع، الإسلام حاضر بقوّة، لكن علينا أن نعرف لماذا. لقد حكمت الديكتاتوريّة هذه الأرض حكما مجحفا وقمعت كلّ نوع من أنواع النشاط السياسي. المكان الوحيد الذي لم يكن بمقدورها إقفاله هو المسجد، الذي تحوّل بسبب ذلك إلى أن يكون مركز التحرّكات السياسية، وأن يكون الإسلام لغة الرفض والمعارضة.
هذا لكي لا ننكر ما يراه مصريّون كثيرون من أنّ “الإسلام هو الحلّ”، بحسب الشعار الذي يرفعه الأخوان المسلمون. لهذه الجماعة مكانة في المجتمع المصري لكونها حُظّرت وقُمعت طوال عقود. لكن حين يتعلّق الأمر بالمنافسة في سوق الأفكار يمكن للناس أن يخلصوا، كما هو الحال في عدد من الدول الإسلاميّة، إلى التفكير في مسائل من قبيل الفساد وأهلية الحكم والتطوّر الإجتماعي بدلا من الأحكام الإيديولوجية الكبيرة.
هذه المسائل كانت في صلب اهتمام المعارضة، ليس فقط في مصر بل في تونس أيضا. كان من المدهش رؤية “الشارع العربي” الأسطوري ينهض أخيرا بتلقائيّة وفوريّة. بدا الأمر غير مستهلك بعمليّة السلام في الشرق الأوسط والفلسطينيين. الإسرائيليّون تلقّوا برعب ذلك الإنتفاض، مدركين أنّه يهدّد أمن بلدهم. وهذا صحيح إلى حدّ ما. لم يكن السلام بين مصر وإسرائيل سلاما بين شعبين بل بين حكومتين. ربما ينبغي على إسرائيل أن تتساءل عن السبل التي تمكّنها من إقامة السلام مع مصر ديمقراطيّة. إن قدّمت إسرائيل عرضا يقبل به الفلسطينيّون ربما يقنع ذلك المصريين بأنّها عزفت عن سلب الفلسطينيين جميع حقوقهم.
التحدّي الذي تواجهه إسرائيل هو ذاته الذي يواجه الولايات المتحدة. صيت الولايات المتحدة مسمّم بمساندتها الدكتاتوريّات وإمداد إسرائيل بالدعم غير المحدود. على الولايات المتحدة أيضا أن تبدأ التفكير بعلاقات أفضل، ليس مع النخبة العسكرية المصرية فقط بل مع الشعب المصري. كما عليها أن تتجنب، وينطبق هذا على إسرائيل، الإسراع في اعتبار كلّ محافظة على الصعيد الإجتماعي خطوة نحو إعلان الجهاد. أن يطلب إلى النساء ارتداء الحجاب أمر مختلف عن جعل الرجال يتزنّرون بالأحزمة الناسفة. إذا واجهت الولايات المتحدة كلّ ميل إلى التدين بالرفض ستجد نفسها غير قادرة على التعامل مع شرق أوسط ديمقراطي جديد.
أكثر ما يلفت في إحتجاجات مصر وتونس هو حضور أميركا المحدود في مخيّلة الناس. أولئك الذين في الشارع لم يظهروا عن اهتمام أساسي بالولايات المتحدة، وقد احتل أوباما ذلك المكان البارز في الصورة حين أعلن عن رغبته بتنحي مبارك ورحيله. في تونس لعبت الولايات المتحدة دورا أقلّ. ربما كان هذا متصلا بسياسة جورج بوش وبمقترب أوباما للمنطقة. بعد 11 سبتمبر سلّط بوش أضواء ساطعة على الديكتاتوريات العربية ما أدّى إلى صعوبة تجاهلهم وغضّ النظر عنهم. لكنّه خسر قضيّته باعتماده سياسة خارجية غير مقبولة على الإطلاق في العالم العربي (حرب العراق، دعم إسرائيل إلخ…). ولنذكر أنّ مبارك، في 2005 واجه معارضيه السياسيين متّهما إياهم باتباع أجندة أميركية لمصر.
أوباما، بخلاف سلفه، انسحب من الدور الأميركي المعادي ما سمح لليبراليين والديمقراطيين المصريين بالإعلان عن أنفسهم من دون أن يوصموا بالتبعية للولايات المتحدة. ( حتى مؤخّرا، حذّرت الجماعات المؤيّدة لمبارك من “قوى خارجيّة” تعمل على زعزعة الإستقرار، لكن ذلك لم ينفع).
التظاهرات في مصر، كما في تونس والأردن والبلدان الأخرى، تساوقت مع جماهير العالم العربي العريضة لأنّها انبثقت من الداخل، ونمت محليّا، واهتمّت بما يشغل المواطن العربي العادي.
على مدى خمسة عقود أُتخم الشرق الأوسط بخطاب سياسي قائم على إيديولوجيات كبرى. للمحتجّين الإيرانيين، أميركا لم تكن بلدا أو قوة عظمى، بل “الشيطان الأكبر”. ما يجري في مصر وتونس ربما يشكّل عودة إلى سياسة أكثر عاديّة وعقلانيّة، متمثلّة حقائق العالم الجديد، ومنسجمة مع الحاجات الخاصّة بكلّ بلد. بهذا المعنى ربما يكون ما يجري الآن أوّل إنتفاضات ما بعد أميركيّة.

(عن الإنكليزية: حسن داوود)
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى