رحيل عمر أميرالاي: السـينما أيضـاً جـرح
عباس بيضون
كان آخر عهدي به حديث دقيقتين على التلفون. الآن حين أفكر به لا أعرف من أين أبدأ. أول ما دريت بعمر أميرالاي كان في فيلم. أي فيلم لا أذكر فأفلامه لا تبقى بعناوينها في ذاكرتي، أظنه فيلمه عن الشهيد الرئيس الحريري. أتذكر انه تقريباً يبدأ بحديث مع أمه اللبنانية عن الرئيس. حين توفيت الوالدة زرت أميرالاي في بيته في بيروت ففهمت منه ان والده مات في شرخ شبابه وكرست والدته نفسها لتربيته مع أخيه. كان في تلك اللحظة ذلك الطفل الذي
ربته. كان غير قادر على الخروج من حزنه، وفوجئت بأن يكون ذلك الرجل المديد القامة الستيني، طفلاً في سريرته. فهمت من تلك اللحظة من أين يصدر ذكاء أميرالاي وملاحظته المفرطة للمفارقات وسخريته التي تلامس الخبث، فهمت انها جميعها تصدر من حنان غائر وجرح طفولي، بل أزيد فأقول انه بسخريته هذه كان يموه التزاماً وولاء مطلقاً لقيمه وبلده وأصدقائه. لا بد من ان الأيام حررت أميرالاي من دوغمائية الشباب وتطرفه، لكن الرجل بقي هو هو. انه نبل لا يسمح لصاحبه بالسخف. نبل يتأرث مع العمر ويتحول مع السنين الى نزاهة مفرطة وتحرر من مواضعات المجتمع اعرافه. إنه صدق يغدو مع الأعوام اشفاقاً على الذات والآخرين والأحياء جميعاً. انه الذكاء الذي يجعله أكثر فأكثر مفتوح العينين والبصيرة مثابراً على ذلك العهد المأسوي مع الحقيقة. لم تكن أفلامه ترويني وكنت أخرج منها اكثر عطشا، ذلك ان القول الذكي يتحسب لما بعد، وعمر كان يصنع أفلامه لتغدو نماذج ولتتردد طويلاً بعد رؤيتها. كنت أفهم دائماً انني لست أمام أي فنان، كان عمر أميرالاي يعمل باحتراف كبير لكنه يعرف متى يستل المفاجأة، متى يلتفظ الطرفة التي تتعدى الحرفة. كان حين يعمل يدير جهازاً كاملاً من الاستعارات والمجازات والمواربة والايعاز والإلغاز واللمح والترميز، كل هذا الفن كان يجعل أعماله وخاصة الأخيرة قريبة من الصمت. لقد كان عملاً على الايقاع بحيث ان الفيلم يشبه أن يكون قطعة موسيقية تنتهي بخاتمة حاسمة وتظل تتردد في ما بعد في ذاكرة المتلقي ووجدانه. كنت كلما انتابني ذلك العطش الذي يوقظه الفيلم ويؤرثه، أفهم أن هذا هو الفن وأن عمر يرتقي أكثر فأكثر نحو مثاله الفني، وأن لحظة الصمت الكامل، أي الايحاء الكامل غير بعيدة، لكنني ما كنت أدري أن هذه اللحظة لن تأتي من الفن لكن من الحياة، من حياة عمر نفسها. والبارحة حين قرأت على جهازي النقال رسالة فواز طرابلسي تقول لي «اني أقوم بعبء هذه المهمة المحزنة، لقد مات عمر أميرالاي»، فهمت أن عمر أميرالاي بلغ الآن لحظته المثالية. لقد وصل الى الصمت الكامل لكن هذا يفرض علينا ان نتأمل حياة عمر أميرالاي كواحد من أفلامه، من لنا الآن بشخص في شجاعة عمر أميرالاي وفنه ليصنع هذا الفيلم، سيروي هذا الفيلم حياة للجيل الأكثر حيرة ومعاناة وربما نبلاً في تاريخنا. انه جيل القطيعة العظيمة والاتصال العظيم، وها نحن في وداع عمر نفهم ان كنز الذكاء والقيم والشجاعة يفارقنا، واننا معه نتذكر أيضاً أحلامنا التي كان راحلونا الكبار شهودا عليها.