عمر أميرالاي فارس السينما التسجيلية.. فنّه الرفيع روى حكاية شعب
نديم جرجورة
«الثمانوستيون»
في اللغة الفرنسية صفة منحوتة من رقم 68 صارت تطلق على كل من شارك في حركة الطلاب التي اندلعت عام 1968 في معظم أنحاء أوروبا. وهذه الصفة، «الثمانوستيون»، ليست مجرد لعبة لغوية، بل هي عقلية وطريقة حياة وسلوك طبع كل الذين شاركوا في تلك الحركة وتميزوا برفضهم لكل الثوابت والمعايير السائدة، وبإعادة النظر بكل القيم البالية ناظرين خلفهم في غضب للمؤسسات والبنى السائدة. عمر أميرلاي كان منهم لأنه شارك فعلياً في تلك الحركة حين كان يدرس في فرنسا وتشبّع بآرائها وعايش منظريها فكان دائماً منسجماً مع قناعاته هذه في أعماله الفنية وفي طريقة تفكيره.
لكن عمر أميرلاي كان مع كل ذلك دمثاً لطيفاً يحبه كل من عرفه، وكان كريماً بآرائه ونصائحه يعطيها للآخرين دون حساب. ساهم في تدريب جيل كامل من الشباب السينمائيين، وعمل دائماً على نشر ثقافة سينمائية مغايرة من خلال مراكز التدريب التي عمل بها أو سعى لتأسيسها. وقد حلمنا معاً وعكفنا فعلياً خلال عام 2008 على حفظ ذاكرة السينما السورية من خلال تأسيس نواة متحف لآلات الشهبندر المتميزة؛ كما بدأنا معاً وبصحبة أسامة محمد وهيثم حقي دراسة جدّية لتأسيس معهد للسينما، وكانت آراؤه وأفكاره الأساس الذي انطلقنا منه في حلم لم يتحقق للأسف، بالإضافة إلى أحلام أخرى بصيغ جديدة لدور سينما تعرض أفلاماً مميزة وتكون مركز إشعاع لفكر نظيف.
قد يبدو رحيل عمر أميرلاي الآن مثل إعلان لنهاية حقبة كادت تتلاشى مع حلول النظام العالمي الجديد لولا بريق أمل جديد أعاد للشباب دورهم الجديّ في ساحات تونس والقاهرة. أشعر بحزن عميق وكبير لرحيل عمر، وسأفتقد دائماً قامته الجميلة وابتسامته الحلوة وأناقته الطبيعية، وسيظل في الذاكرة مثل شهاب انطفأ قبل الأوان لكن بريقه كان مضيئاً لامعاً لا ينسى.
حنان قصاب حسن
^ حكاية جيل
كنّا مجموعة يساريين مستقلّين حالمين: عمر أميرالاي وقيس الزبيدي ومحمد ملص ونبيل المالح وآخرين. ولأننا عايشنا نكسة 67، ونحن من وُلد في سنوات ضياع فلسطين، فقد جعلنا التحرير غايتنا، مع المحافظة على حلمنا الأساس: «وطن العدالة الاجتماعية». كان عُمر أكثرنا مبدئية ووضوحاً في الرؤية، لذا اختار الفيلم التسجيلي وسيلته الأساسية في التعبير عن وجهة نظره، التي كان يراها المسؤولون عن الثقافة في سورية وجهة نظر شديدة التطرّف، فكان أولنا في محنة المنع من العرض، التي ستطالنا جميعاً. ولعل أبرز ما ميّز عمر هو ليس أنه صاحب موقف سياسي فقط، بل لأنه أيضاً، وقبل كل شيء، موهبة حقيقية أفصحت عن نفسها منذ فيلمه الأول «محاولة فيلمية عن سدّ الفرات»، وتجلّت في واحد من أجمل الأفلام السورية «الحياة اليومية في قرية سورية».
أرغب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، وبعد الرحيل الصاعق لعمر، وقبل أن نرحل جميعنا، في أن أسجّل الملامح العامة لقصّة هذه المجموعة، ولسيرة عمودها الفقري عمر أميرالاي. وسأحاول أن أرسم صورة عمر كما عرفته عبر ما يقارب الأربعين عاماً.
أول ما كان يلفت النظر في شخصية عمر الشاب، التصميم على قول الحقيقة من دون خوف أو مجاملة. لذا، كان بعض اليسار المدجّن يراه متطرّفاً وشديد الثقة بنفسه، إلى حدّ اعتبار من لا يعرفه أنه مغرور مترفّع عن الناس. لكن العمل الذي قمنا به كمجموعة تحاول نشر الوعي السينمائي عن طريق النادي السينمائي والمنتديات الثقافية، أبرز عمر صاحب الرأي لكن المتمرّس بالديموقراطية. فهو الوحيد بيننا الذي لم يكن خرّيج دولة اشتراكية، والوحيد الذي كان شهد وشارك في ثورة الشباب في فرنسا في العام 1968. لذا، كانت زاوية رؤيته أوسع. كان عمر حاضراً بقوّة في صدامنا الأول مع إدارات القطاع العام السينمائي، وأقصد «المؤسّسة العامة للسينما» و«دائرة الإنتاج السينمائي» في التلفزيون السوري، اللتين كنا نعمل فيهما. كنا ننظر بتشكّك، وأستطيع أن أقول بازدراء، إلى إنتاج القطاع الخاص السينمائي، الذي كان يغلب عليه التهريج والابتذال. لكن عمر كان على صلة طيبة بالموزّعين وأصحاب الصالات، الذين ساعدونا وفتحوا لنا صالاتهم، عندما أغلقت «المؤسّسة العامة للسينما» في وجهنا صالة «الكندي» التابعة للدولة، كإدارة للنادي السينمائي في دمشق غير مرضي عنها.
في العام 1976، حقّقنا نقلة نوعية في صراعنا من أجل خلق صناعة سينمائية، بإقامة المؤتمر التحضيري اليتيم للسينمائيين السوريين. وشاركنا، عمر وأنا، بعد المؤتمر في لجنة صوغ مشروع «المجلس الوطني للسينما» و«الصندوق الوطني للسينما»، اللذين كانا من توصيات المؤتمر التحضيري. كما شاركنا، عمر وأنا، في جلسات حضرها من يحملون المشروع ومن لا همّ لهم إلاّ إسقاطه، وقد نجحوا في ذلك طبعاً. لكني لا أزال أذكر أني كنت أقضي هذه الجلسات ضاحكاً بسبب سخرية عمر المريرة، وحسّ الفكاهة السوداء التي كانت تميّز هذا السينمائي المتألّق. إذ كان في شخصية عمر جانبٌ خَلَق دائماً جواً من المرح أنّى تواجد، هو حسّ النكتة العالي وسرعة البديهة التي تحوّلت فيما بعد إلى صفة ملتصقة بهذه المجموعة، التي انضمّ إليها أسامة محمد أواخر السبعينيات.
ميزة عمر وهذه المجموعة أنها كانت تحمل الهمّ الثقافي العام، وأنها استطاعت أن تجمع حلقة من كل أطياف اليسار، من المسرحيين والشعراء والكتّاب والتشكيليين والصحافيين وكبار المثقفين، حول مشروع ثقافي عام، كان «النادي السينمائي» أحد تجلّياته وليس كلّها. فإذا نظر المرء إلى نشاط السبعينيات، الذي أعتقد أن هناك تقصيراً كبيراً في الحديث عنه، سيجد عمر وهذه المجموعة في قلب النشاطات الثقافية كلّها، وفي وسط الصراعات كلّها، للبحث عن ثقافة وطنية تساعد في تحقيق حلم السوريين في التحرير والتحديث. وفي نهاية السبعينيات، بدأت مجموعة من الإجراءات في مؤسّسة السينما والتلفزيون الهادفة إلى إيقاف عمل مجموعتنا، خاصة عمر أميرالاي، الذي نُظِر إليه على أنه الأشدّ إخلاصاً لمبادئه، وغير القابل لأية تنازلات. فكان من أواخر إنتاجات «دائرة الإنتاج السينمائي»، التي أُغلقت في وجوهنا، بعد فيلمي «ملابسات حادثة عادية» و«فرات» لمحمد ملص، هو فيلم عمر أميرالاي المتميّز «الدجاج»، الذي ظهرت فيه ميزة عمر في تحويل الحدث المؤلم إلى مادة للسخرية، تصل إلى حدّ الكوميديا السوداء في فيلم تسجيلي. لكننا لم نيأس، وقدّمنا، عمر ومحمد ملص وأنا وعدد من السينمائيين، برنامجاً هاماً أسميناه «النادي السينمائي»، كنا نعرض كل أسبوع فيلماً مهمّاً، ثم ندير حوله حواراً مع نخبة من أبرز شخصيات الثقافة السورية. لكن، حتّى هذا الباب أُغلق بعد فترة، وكانت جرأة عمر ومبدئيته أكبر من أن يستوعبها تلفزيون الدولة.
للأسف، انتهت تلك المرحلة، بحلوها ومُرِّها، بأحداث عامي 1979 و1981 .فكان علينا البحث عن بدائل فردية، بعد أن سُدَّت في وجوهنا الطرق كلّها. ذهبتُ أنا إلى الدراما التلفزيونية، وهاجر عمر إلى فرنسا ليقدّم بحرية أكبر أفلامه التي لم يغادرها الهمّ العربي. ففي استمراره بالبحث عن المناطق الثورية، قدّم قبل هجرته فيلم «عن ثورة» عن ثورة ظفار، تبعها بعد الهجرة العديد من الأفلام، بدءاً من «مصائب قوم» و«عطر الجنة»، ليختمها بفيلمه الذي أثار عليه من جديد غضب المسؤولين عن الثقافة، ألا وهو «الطوفان».
هكذا هاجر عمر، لكنه لم يهجر هموم بلده. كان شريكاً في النشاطات كلّها التي صمّمت على استمرار خط السبعينيات في خلق ثقافة وطنية ديموقراطية. ازداد عمر، على مرّ السنوات، نضجاً فنياً وسياسياً، ونضجنا معه من دون أن تفرِّقنا وحشة السنين، وعدنا إلى بلدنا، ولا نزال نحمل حلم «وطن العدالة الاجتماعية». وسيظلّ السوريون دائماً مدينين لهذا السينمائي الموهوب، بأن وضعهم على الخريطة السينمائية للفيلم التسجيلي عربياً وعالمياً، محقِّقاً نجاحات جعلته بحقّ السينمائي التسجيلي الأهم في هذه الخارطة، التي حوت العديد من الموهوبين الذين كانوا دائماً يعترفون بفضل عمر على إبداعهم.
هيثم حقي
^ يسمع صوت الإنسان العادي يمرّ في شرايين الحياة
لم تربطني صداقة شخصية وثيقة بالعزيز عمر أميرالاي. لكن ذلك ليس مهمّاً. معظم من نستمدّ منهم الموقف والمبدأ والمعرفة والقضية والشجاعة، هم شخصيات لم نلتق بها مطلقاً، وإذا التقينا بعضها، فإن الظرف والوقت لا يسمحان لهذا اللقاء أن يتكرّر.
عمر أميرالاي، كأي مبدع سينمائي حقيقي، صنع من رؤاه موقفاً تعمَّم واكتسب جدارته من لحظة خروجه. أفلامه ليست من النوع الذي كان على المرء العودة إليه لاحقاً لتقديره، بل كان قادراً على ترك البصمة السريعة على وجدان المُشَاهد لأنه كان صادقاً، يعمل بمقتضى مفهوم واضح. مفهوم من وجد أن عليه رسالة، ولديه موهبة، وكلاهما وجه واحد لعملية صوغ الدور الذي على الإنسان أن يلعبه.
لم يكن، كما الحال في فيلمه المبكر «مصائب قوم»، يكتفي بالتعليق على وضع ما، بل كان يتخلّل ذلك التعليق تأليف المخرج للشكل الأنسب لحمل أغراض أو مضامين العمل. ذلك الفيلم، بالمناسبة، فيه الكثير من اللغة السينمائية لعمر: بساطة الفكرة وقوّة العرض معاً. بساطة جوهر الموضوع وعمق دلالاته في آن واحد. إذ تناول فيه شخصية رجل مهمّته تحضير الجثث للدفن، شخّص من خلاله جانباً من الحرب اللبنانية واقعياً: سيادة حالة من استسلام الناس لمصائبها، أو التنازل عن الحلم والأمل في سبيل الإبقاء على المكان والحفاظ على الاستمرار المحدود كيفما اتفق. تحدّث عن تجّار البلد، الذين كانوا يملكون دكاكين نشطة في «سوق الطويلة» وجواره، ثم تساقطت القنابل الأولى للحرب اللبنانية عليهم، فهربوا إلى «الروشة» محوّلين الكورنيش، الذي كان سابقاً مسلكاً سياحياً للبيروتيين، إلى سوق مكتظّ. خلال تعامل صُوَره مع الوضع الفوضوي الماثل أمامه، سجل ما يعتبره انفصال الوعي الاجتماعي عن التيارات السياسية، وسيادة حالة من استسلام الناس لمصائبهم، ومحاولتهم مقاومة ما يحدث بالسعي إلى البقاء أحياء. الحاج علي، محضّر الجثث للدفن، علاقة بين حياة ميّتة وأمواتها. محطة عبور بين واقع مؤلم وآخر هامد، لن يتألّم لأنه ما عاد في كنف الواقع.
بينما كان المخرج يُصوِّر فيلمه هذا في العام 1981، حدث انفجار «الروشة» الذي كان يُعتبر شهيراً خلال تلك الفترة. أما الآن، فقد دخل نفق التاريخ، حيث لا أحد سوى أهل القتلى المجانين يتذكّرونه. يرد الحادث في فيلم أميرالاي، لكنه لا يستغلّه كفرصة ذهبية لتسجيل سبق سينمائي. بقي الفيلم عملاً سياسياً غير مباشر، لكن من دون الهمّ السياسي المباشر. فسّر ذلك كيفما تريد، فالأهم لم يكن الماثل فقط، بل كم ذلك الحزن الشديد الذي لفّ ذلك الفيلم وشخصياته، وهو حزن متأتٍ من عشرات الدوافع في أزمة حياة ومصير لكل منّا، وله هو.
كيف يُمكن لأميرالاي أن يبقى محايداً (محايداً حتى لا أقول مؤيداً) أمام حالات يجد فيها أن صوت الإنسان العادي يمرّ في شرايين الحياة من دون أن يُسمَع؟
أعتقد أن هذا كان محرّك أعماله كلّها. كان يرى أن واجبه هو رسالته، ورسالته كانت تحتّم عليه أن يحقّق الفيلم الذي هو بمثابة الصوت. لم يهمّه أن يصرخ. كان يريد فقط أن يُسمّع. فيلمه اللاحق «الطوفان» هو أكبر أصواته. تحفة سينمائية في فن الفيلم التسجيلي، شارك في كتابته كل من أسامة محمد ومحمد الرومي (الثاني صوّر الفيلم)، جاءت بمثابة منعطف في حياة المخرج الزاخرة حتى ذلك الحين. فيلم يوجّه نقده مباشرة وبلا مواربة، كما لم يفعل من قبل. لكن، إذا كان النقد مباشراً، فإن الفيلم بقي أبعد من أن يكون هكذا. حمل لقطات أقلّ ما يمكن القول فيها إنها لوحات من شعر ينساب كصفحات المياه التي يصوِّرها. تلك اللقطات البعيدة لحياة صغيرة فوق قارب في بحيرة اصطناعية كانت غطّت المنطقة وقراها. ينتابك شعور بغرابة الموقف: حيّ وحيد يعيش فوق قاربه، وتحته قرية مدفونة. ومع أن المخرج ينطلق لاحقاً للربط بين السدّ وبين السدود الاجتماعية العازلة لكل ما هو طبيعي، كاشفاً الجهل والتسلّط والخضوع، إلاّ أنه يعود قبل نهاية الفيلم إلى تلك الحياة الماثلة على صفحة الماء. الماء الذي يستطيع أن يكون سبب حياة وسبب موت.
على جودة أفلام عمر أميرالاي، لم تُتح الفرصة كاملة أمام نشر أعماله على شاشات عالمية. أجد أن مخرجين صينيين تطرّقوا إلى الموضوع نفسه، بالجدارة نفسها. لكن العالم استمع وشاهد منهم أكثر مما استمعوا وشاهدوا منه. ذلك هو العبء الكبير الذي يحمله كل مخرج جيّد فوق كاهليه: كيف يوصل رسالته إلى الناس.
ضمن ما يقع من أحداث آنية نجد فيها مواجهة الشعوب لطغاتها، يجيء رحيل هذا الفنان على نحو غير مناسب. هل كان كثيراً عليه أن يعيش ليرى أن العالم العربي سيتغيّر كما أراد وتمنّى؟
بدأت بالقول إنه لم تربطني به صداقة شخصية وثيقة. لكن كلّما التقينا، وآخر مرّة كانت في إطار مهرجان دبي قبل الأخير (2009)، كان لدينا الكثير لنتبادله. لم يخرج يوماً عن السينما. لم ينته ولا مرّة. كنتُ أحب وجهه المبتسم والمرتاح، وسأحب وجهه المبتسم والمرتاح طالما حييت.
محمد رضا
^ نصب تذكاري لبطل سوري
لاسمه رنين. لحضوره رنين. لصمته رنين. ولغيابه رنين. هو أخي وصديقي… عمر.
بطلٌ سوري أنيق وغاضب لا يبيع أسئلته لأحد. مبدع السخرية. مبدع البنية الفيلمية. ومبدع الصورة. وفي كلّها وفي كل منها ينشد الحرية وينشدها. أخي وصديقي عمر.
إن كل هؤلاء الذين تعاقبوا على منع أفلامك وحاولوا تشويه فنك ونبلك.. أشبه بممتطي الجمال (أو بالجمال الممتطاة) الذين أو التي داهمونا في ميدان التحرير، لهم دينهم ولك دينك. عمّور النائم الآن في الغرفة الباردة.
أعتقد أنَّ الأجيال المتعاقبة من شباب سوريا سوف تفخر أنك مررت على هذه الأرصفة، ولسوف تنحتُ من الضحك العميق والجسارة والأناقة التي في سينماك.
ستنحت لك تمثالاً من الحب والفخر والعرفان… نعم إنه النصب التذكاري لبطل سوري خجول ومهذب وبطل. نصب افتراضي حقيقي تبثه المخيّلة فيتردد في الشهيق والزفير في كل ساحات دمشق… غداً بالتأكيد ودائماً بالتأكيد. نعم يا عمر. بعد ربما عام أو مئة عام، مثلما غداً، سيتجمّع خمسة شباب وصبيتان في دمشق أو في القامشلي، في طرطوس وفي الجولان الـ… ويتفرّجون على سينماك. سيدهشون لأصابع القدم الفراتية الصارخة تلحس العدسة العريضة، للجثة في صحراء اللقطة الواسعة، لشرب الشاي بالخبز في إيقاعٍ هو الأبد والظلم والكابوس في بوتيومكين الحياة اليومية للدهر والعطار وما أفسد في سيروم سعد الله ونوّس ولـ.. كيف الإضاءة في الطوفان تظهر بطله فتحيل الكلام إلى بورتريه للمرحلة. للغرفة المقفلة على كومبيوترات مقفلة في كراتين مقفلة. سيحزنون ويضحكون ويضحكون وسوف يشعرون بسريان الحب في عروقهم، تماماً كما حصل البارحة، تماماً كما يسري الحب. ستكون أنت فوق دمشق في مقبرة المهاجرين، وسأكون في مقبرتي تحت زيتونتي مع نعمى في اللاذقية. (أنت لم تنسَ يوم دعوتك لندفن هناك معاً، فأجبت: يا ريت.. بكل سرور. شو بدو الواحد أحلى من هيك). سنسمع ضحكهم وسعاداتهم… وسأهمس فخراً… هذا البطل صديقي.
هذا البطل هو عمر أميرالاي. وسيهزّ الهواء جذعها وتأتي بالزيت.
في آخر لقاء قلت مودعاً: «إسمع يا عمر، إذا هبّت الثورة ولم تتلفن لي، ستنتهي صداقتنا». قال لي: «أنا ذاهب الآن. سأنتظرها خلف النافذه، ولن أغادر أبداً».
أسامة محمد
^ سينما اختراق الممنوع
يُخيّل إليّ أن الكتابة في رحيل المخرج السينمائي السوري عمر أميرالاي تمرينٌ إضافي على مواجهة الموت. تمرينٌ آخر على استنباط معنى الموت، بالنسبة إلى سينمائي أعاد ابتكار الحياة وفقاً لمعاييره الخاصّة بالصورة، والعيش على التخوم الحقيقية للتحدّي. أو ربما في قلب التحدّي. يُخيّل إليّ أن البحث في اختبار الموت، من خلال رحيل أميرالاي، تدريبٌ على كيفية الاصطدام بالتنانين المسيّجة واقعاً وحياة ومساراً تاريخياً وإنتاجاً إبداعياً وحراكاً إنسانياً، بهدف تحطيم تماثيلها المعلّقة عند كل زاوية، وفوق كل رصيف. هكذا أرى موت أميرالاي. بل هكذا أرى مساراً حياتياً صنعه أميرالاي منذ بداية اشتغاله السينمائي مطلع السبعينيات المنصرمة، أو بالأحرى منذ سفره إلى باريس لدراسة المسرح، قبل عام واحد فقط من «ثورة» أيار 1968.
ذلك أن اتّخاذ عمر أميرالاي السينما الوثائقية (التي سُمّيت في فترة النضال الثقافي الميداني «تسجيلية») أداة تعبير ومواجهة وتعرية، نابعٌ من وعيه أولوية الصورة وأهميتها في ولوج الواقع الإنساني الحيّ، في بلده أولاً، قبل أن يذهب بكاميراه إلى محطّات عربية وأجنبية، ساعياً إلى الاشتغال على الحالات المختارة أو الشخصيات المنتقاة بعناية، كي يُعيد ترميم الحكاية، وتأريخ مضامينها. وهذا جعله مشاكساً ثقافياً وفنياً وإنسانياً، لأن الواقع الإنساني الحيّ في بلده مقيم في غليان داخلي وحصار متنوّع الوجوه. فإذا بهذه الكاميرا نفسها تخترق الممنوع، وتتحايل على الجدران المرتفعة في الأمكنة كلّها. كأن الكاميرا تلك خرجت من إطارها التقني في تأريخ اللحظة، كي تساهم في كتابة تاريخ بلد ومجتمع وناس. وهي، بهذا، باتت كتابة تاريخ شخصي أيضاً لمخرج، بلغت مشاكسته أعلى مراتبها الجميلة. فالشخص حاضرٌ بقوّة في الأفلام الوثائقية التي بدأ إنجازها في العام 1970. والذات فاعلةٌ بشدّة في صناعة الصورة المتحرّكة، التي أرادها المخرج انعكاساً صدامياً للواقع الإنساني الحيّ. أي أن كاميرا أميرالاي انتقلت من مجرّد عدسة تلتقط ما تجده أمامها، إلى عين تمزج الأرشفة بالتحليل الإيديولوجي، من دون السقوط في فخّ التنظير والخطابية. الأرشفة منفتحة على إعادة رسم الملامح العامّة أيضاً، انطلاقاً من حساسية المخرج، وحيويته الثقافية والفكرية، ونظرته الثاقبة في التحديق إلى المخفيّ أو المبطّن في الأشياء. أما الذات الفاعلة بشدّة في صناعة الصورة المتحرّكة، فظلّت غالباً عفوية بالمعنى الإنساني الشفّاف، إذ لم يتردّد أميرالاي عن أن يكون واضحاً بارتباكه، أحياناً، أمام شخصية أو مسألة، لأنه مقتنعٌ تماماً أن العفوية أجمل، إذا احتلّت مكانها الطبيعي في النصّ البصري. أو ربما بدت العفوية أو الارتباك أقرب إلى البساطة الذاتية المؤسِّسة طريقاً إلى تعرية الشخصية المختارة أو المسألة المنتقاة لأفلامه.
المثل الأبرز على ذلك كامنٌ في مواجهته السينمائية شخصية عامّة كالراحل رفيق الحريري، في «الرجل ذو النعل الذهبي» (1999): هنا، تجلّى أميرلاي في تثبيت ثنائية المثقف والسياسي (بإضافة صفات أخرى للحريري، كرجل الأعمال والثري والمسؤول الرسمي)، في حوارات لم يُخف المخرج فيها ارتباكه الفكري والثقافي أمام قامة كبيرة كتلك، في لحظة سياسية وتاريخية كشفت عمق الخلاف حولها. سابقاً، أراد أميرالاي إنجاز فيلم عن شخصية شبيهة بتلك القامة السياسية والاقتصادية اللبنانية، هي بنازير بوتو. رئيسة وزراء وابنة عائلة سياسية معروفة وثراء مهمّ، بدت بوتو، في نهاية ثمانينيات القرن الفائت، هدفاً قابلاً لأن يكون، من الموقع الشخصيّ البحت، مدخلاً إلى فهم تفاصيل العيش في الرهان الدائم على عصبية العائلة والمال والسياسة. يومها، لم يستطع أميرلاي لقاء بوتو، فابتكر حيلة لإنجاز فيلمه «إلى السيّدة رئيسة الوزراء بنازير بوتو» (1990)، سارداً محاولات الوصول إليها، وراسماً شيئاً من الملامح الخاصّة بها وببلدها.
هذا صدق بديع مع الذات. الحيلة وسيلة أساسية في مقارباته السينمائية أحوال بلد وناس. العفوية صنو الحيوية والحماسة، وهي أشياء دفعته إلى إعلان ثقته المطلقة بالتغيير الإيجابي، بتحقيقه فيلمه الأول « تجربة فيلمية عن سدّ الفرات» (1970). غير أن هذه التجربة لم تنفصل عن قناعته بأن أمراً مهمّاً حصل في دمشق يومها، فذهب إلى الفرات ليرى بعينيه إمكانية النهوض بالبلد. هذه الثقة بالتجربة البعثية لم تبقَ طويلاً. فبالنسبة إلى الفرات نفسه، عاد عمر أميرالاي إليه بعد ثلاثة وثلاثين عاماً، ليُعلن خيبة أو وجعاً أو انكساراً لهذه الثقة، كما لهذه الأحلام العظيمة التي حملها السينمائي ورفاقاً كثيرين من أبناء جيله، ومن أصدقائه المقرّبين. في «الطوفان» (2003)، الذي تُرجم إلى اللغة الفرنسية بـ«طوفان في بلاد البعث»، أمعن أميرالاي في تفتيت الصورة القديمة، بمقاربته الحالة الإنسانية التي أدركها أبناء المنطقة تلك، على ضفاف الانهيار والفوضى والمتاهة المقيمين فيها. هذا ما أردتُ قوله سابقاً: العفوية التي تمتّع بها أميرالاي لا تعني تبسيطاً أو تخفيفاً للمستوى الانتقادي لأفلامه، بل صدقاً في مقاربة المسائل، من دون أن يمنعه عن ذلك أي شيء، حتّى وإن اصطدم بما لم يكن يتوقّعه. فعلى مقولة «اصطدامه بما لم يكن يتوقّعه» أحياناً، بنى عمارة سينمائية وثائقية ساهمت بجرأة ومتانة ووعي في تحرير الفيلم الوثائقي من روتينيته التبسيطية المعروفة في صناعة الأفلام التسجيلية العربية، جاعلاً منه تمريناً دائماً على ابتكار صُوَر حسّية صادمة، مرتكزة على الحيلة في اختراق الممنوع.
«الطوفان» دليلٌ على ذلك. هناك «مصائب قوم» (1981) مثلاً. الدخول إلى عالم الحرب الأهلية اللبنانية تأكيدٌ من قبل السينمائي المتحدّر من ثقافة يسارية متينة وعميقة على أن الهمّ الإنساني واحد، والاشتغال السينمائي قادرٌ على تحليل ما يجري في البلد الشقيق، من خلال الذهاب إلى الناس العاديين، المقيمين على تخوم الموت، أو فيه. هناك «الحبّ الموءود» (1983) أيضاً: الذهاب إلى أقصى البوح الذاتي الخاصّ بالمخرج إزاء بُنَى التحوّل المجتمعي المصري، بِحَثِّه شخصيات نسائية تحديداً (أبرزها الممثلة المصرية نادية الجندي) على القول الانفعالي الشخصيّ، المفتوح على احوال الجماعة. لو تسنّى له تنفيذ مشروعه الأثير عن الممثلة السورية المعتزلة إغراء، تُرى ما الهمّ الأساسي الذي كان يرغب في إظهاره للناس، من خلال تلك المرأة المثيرة؟ ألم يكن يسعى إلى تحقيق فيلم عن الجميلة أسمهان أيضاً؟ غير أن علاقة أميرالاي بالناس العاديين سمة أساسية في أفلامه المصنوعة منهم ولهم وعنهم. الناس العاديون هم أولئك المقيمون في الوجع والقسوة والخوف والجنون والانكسار والخيبات، على الرغم من أن بعضهم لا يُدرك انهياره، وبعضهم الآخر لا يُدرك خلاصه. أي إن هؤلاء الناس العاديين، الذين التقط حكاياتهم من أفواههم، محوّلاً إياها إلى مرايا صادمة، هم الذين جعلوا عين المخرج وعدسة كاميرته نافذة مفتوحة على اتّساعها إزاء العالم. «الحياة اليومية في قرية سورية» (1974)، «الدجاج» (1977)، «عن ثورة» (1978)، «طبق السردين» (1997) وغيرها. أفلام متوغّلة في الوجع الفردي اليومي، ومصنوعة من الجرح أيضاً. أفلام عائدةٌ إلى التاريخ، كي تلتقط شيئاً من الراهن والمستقبل.
غير أن لعمر أميرالاي طريقته في اختراق المبطّن: استدراج الشخصيات المتنتقاة بعناية فائقة إلى البوح الذاتيّ، القادر وحده على تحطيم الجدران وكشف المستور. حتى مع الشخصيات العامّة، بلغ عمر أميرالاي مرتبة راقية في الاستدراج السينمائي (رفيق الحريري)، أو في الإضاءة على مرحلة وتاريخ وبيئة: بنازير بوتو أولاً، لكن هناك أيضاً الرائد السينمائي السوري نزيه الشهبندر في «نور وظلال» (1994)، والفنان التشكيلي السوري فاتح المدرِّس في «المدرِّس» (1995). هناك أيضاً الباحث الاجتماعي الفرنسي ميشال سورا، الرهينة المختطَف أيام الحرب الأهلية اللبنانية، والذاهب إلى حتفه جرّاء منع العلاج الطبي عنه، في فيلمه الإنساني الرائع «في يوم من أيام العنف العادي، مات صديقي ميشال سورا…» (1996). والمسرحي السوري سعد الله ونوس، الذي جلس على فراش المرض ممدّداً أمام كاميرا أميرالاي، في وقفة تأمّل في الذات والماضي والانقلابات الصاخبة والدمار الماحق، في «هنالك أشياء كثيرة كان يُمكن أن يقولها المرء» (1997). أما سمير قصير، فله حيّز كبير في وجدان السينمائيّ: إنها صداقة. والصداقة قائمة على أساس المشاركة الفعلية في معاندة سلطات الانهيار الحاصل في السياسة والاقتصاد والثقافة وأشكال الحياة. فبعد أيام عدّة على اغتيال قصير، وجد أميرالاي أن الصورة أقدر على إعادة توليف اللحظات المنبثقة من ذاكرة المشترك بينهما.
ثم إن بعض عناوين أفلامه حملت سمة شعرية عكست تلك الشفافية الإنسانية والحسّ الأخلاقي والشعور القوي بمعنى الصداقة، وبمعنى الحزن الدفين إزاء رحيل الأصدقاء. عناوين أعتقد أن بعضها القليل متلائم ورحيله اليوم، إذ يُمكن للمرء أن يقول ببساطة، وإن بتعديل طفيف، إنه في يوم من أيام العنف العربي غير العادي، المتمثّل بـ«ثورة الياسمين» التونسية و«أيام الغضب» في قلب مصر والعالم العربي، مات الصديق عمر أميرالاي، الذي كان يُمكن له أن يقول أشياء كثيرة بعد.