عمر أميرالاي: إبداع التسجيل
صبحي حديدي
يبدأ شريط ‘الحياة اليومية في قرية سورية’، 1974، وهو الذروة المبكرة، والصاعقة، للسينمائي التسجيلي الكبير عمر أميرالاي (1944 ـ 2011)، بمشهد صبية في بيداء صحراوية قاحلة، يلهون بهيكل حيوان نافق، فيهيلون التراب على عظامه الناتئة، أو يملأون به حفرة الجمجمة، أو يجرّون الهيكل، ويجرون معه. الخلفية الصوتية هي مزيج من هزيم الرياح، وذلك الطراز الرثائي من الغناء الفراتي الكلاسيكي، دون أية مصاحبة موسيقية. خاتمة الشريط ترشق ـ باللون الأبيض، على خلفية سوداء، طيلة 30 ثانية ـ هذه الجمل المتعاقبة: ‘علينا جميعاً، أن ننخرط في النضال، من أجل خلاصنا المشترك، ما من أيدٍ نظيفة، ما من أبرياء، ما من متفرجين، إننا جميعاً، نغمّس أيدينا، في وحل أرضنا، وكلّ متفرّج، هو جبان، أو خائن…’.
تلك كانت رسالة قصوى شاء أميرالاي، والمسرحي السوري الكبير الراحل سعد الله ونوس، شريكه في التصوّر، تدوينها داخل القرار العميق من بصيرة المشاهد، بعد أن تكفّلت كاميرا حازم بياعة وعبده حمزة باقتياد بصره إلى مواطن محتشدة بالتفاصيل والمعنى والدلالة، في غمرة جماليات قاسية وجارحة، بقدر ما هي جذابة طافحة بإيقاعات الأسود والأبيض. كذلك تولى السيناريو، البارع والذكيّ والمتقشف في آن معاً، إحداث الصدمات المتتالية طيّ المفارقات الساخرة الخشنة، واستثارة الذهول البسيط قبل استدراج حسّ الإستفزاز البالغ، على امتداد 80 دقيقة من مشهدية الحياة اليومية في قرية ‘المويلح’، على أطراف وادي الخابور، شمال شرق مدينة دير الزور.
نصغي إلى مسؤول حزب البعث في القرية يردّد، مثل ببغاء ممتاز التدريب، عبارات عن ‘تفجير ثورة الثامن من آذار’، و’التحويل الإشتراكي’، و’تغيير واقع المجتمع تغييراً جذرياً، من مجتمع متخلف إلى مجتمع متطور’؛ لكنّ كلّ ما تشهده القرية يفيد النقيض، ابتداء من الجفاف، مروراً بغياب الرعاية الصحية، وانتهاء بمستويات الفقر التي تشمل مفردات العيش اليومي بأسرها، سكناً وغذاء وملبساً. كما نتابع التلاميذ في صفوف لا صلة تجمعها بأيّ مفهوم أدنى للمدرسة، يصارعون تلك الهوّة الفاغرة بين ما يقوله النصّ في الكتاب المدرسي، عن الغذاء والنظافة والسكن، وما يعيشونه من نقائض موازية. وقد خدمت المصادفة أميرالاي حين شاءت أن يكون معلّم المدرسة آنذاك (الصديق، والرفيق، زهدي بسيس، الذي رحل عن عالمنا قبل سنوات) مثقفاً وماركسياً مسيّساً، فأسبغ طابعاً سوسيولوجياً وسياسياً معمقاً على مناقشة مسائل التعليم في القرية.
وفي أحد المشاهد يعرض المعلّم وسيلة إيضاح تمثل صورة فتاة أرستقراطية المظهر، تقوم بخفق بيض، في مطبخ أنيق؛ ويكون مطلوباً من المعلّم إقناع التلاميذ بضرورة الإكثار من أكل البيض (حين يكون إفطارهم الصباحي كوباً من الشاي وكسرة خبز، فقط). كذلك يعرض المعلّم صورة أخرى، تحضّ على الإستحمام ثلاث مرّات أسبوعياً؛ لكنه لا يملك إلا ردم الفجوة قليلاً، فيذكّر التلاميذ بأنه لا توجد في القرية صنابير مياه، ولا مياه ساخنة (بل تفتقر، في الواقع، إلى مياه الشرب أوّلاً!)، وبالتالي لا حرج في الإستحمام مرّة واحدة أسبوعياً، يوم الجمعة!
ورغم أنه كان من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، فإنّ الشريط مُنع من العرض، ودشّن بذلك تلك الحال السوريالية التي تجعل قطاعاً حكومياً ينتج أشرطة ذات قيمة فنية وفكرية عالية، تلقى الترحاب في المهرجانات العربية والعالمية، ولكنه يبقيها حبيسة العلب في سورية ذاتها (المثال الكلاسيكي الأبرز يظلّ شريط أسامة محمد ‘نجوم النهار’). ولقد شاءت هذه السطور التركيز على ‘الحياة اليومية في قرية سورية’ لأنه، في يقيني الشخصي، صنع أيضاً تلك النقلة الحاسمة الكبرى في السينما التسجيلية السورية، عموماً؛ وفي شطر منها ينهض، خصوصاً، على نقد جسور لسياسات السلطة في ميادين انحطاطها الأكثر أذى، وديماغوجية. وقد يصحّ القول إنّ الفيلم التسجيلي السوري كان في حال، قبل نقلة أميرالاي تلك، ثمّ صار بعدها في حال أخرى رسّخت سلسلة مقتضيات لحدود التوثيق الدنيا، كما أشرعت سلسلة أخرى من ضرورات الإنفتاح وكسر الحدود، أية حدود.
كان أميرالاي سينمائياً كبيراً، وتسجيلياً من عيار ثقيل حقاً، دائم الإنخراط في القضايا الوطنية والكونية الحارقة، ودائب الإنهماك في صناعة وعي نقدي ينبثق أوّلاً من الإبداع في التسجيل، والذكاء في توظيف حركية التوثيق الإنسانية وديناميته التاريخية. ولقد جرّب على الدوام، ونوّع، في الأشكال والمضامين؛ وقارب السرد الروائي، وبعض التشكيل المسرحي، لأسباب درامية جوهرية وليس لاقتفاء إغواء سطحي؛ ولم تخل أعماله (كما يجدر بأيّ فنّ تعددي رفيع) من تحقيق الإجماع هنا، أو إثارة الخلاف هناك؛ دون تنازل عن حقوق الفنّ السينمائي الجمالية أوّلاً، ودون انزلاق إلى ابتذال السياسة اليومية أو اللهاث خلف التسجيل العابر.
وفي الجانب الآخر، المباشر والعملي، من انحيازه إلى المعارضة الديمقراطية في سورية، كان أميرالاي أحد مهندسي ‘بيان الـ99’، الذي أطلق أولى شرارات ‘ربيع دمشق’ الموؤود، واعتُقل، ومُنع من السفر، وصُودر جواز سفره. صحيح أنه رحل دون أن تكتحل عيناه بمرأى شعبه ينتفض مطالباً بإسقاط نظام الإستبداد والفساد والتوريث، إلا أنه أغفى قرير العين على صحوة أشقائه في تونس ومصر، فتجذّرت قناعاته أكثر، واستبشر بأهله، واستشرف المزيد من بروق المستقبل.