عمر أميرالاي “حكاية جيل”
هيثم حقي
كنا مجموعةالمخرج الراحل عمر أميرلاي في دمشق- تصوير أيهم ديب يساريين مستقلين حالمين : عمر أميرالاي وقيس الزبيدي ومحمد ملص ونبيل المالح وآخرين . ولأننا عايشنا نكسة 67 ، ونحن من ولد في سنوات ضياع فلسطين ، فقد جعلنا التحرير غايتنا ، مع المحافظة على حلمنا الأساس : “وطن العدالة الاجتماعية” . كان عمر أكثرنا مبدئية ووضوحاً في الرؤية ، لذا اختار الفيلم التسجيلي وسيلته الأساسية في التعبير عن وجهة نظره . والتي كان يراها المسؤولون عن الثقافة في سورية وجهة نظر شديدة التطرف ، فكان أولنا في محنة المنع من العرض ، والتي ستطالنا جميعاً .
ولعل أبرز ما ميّز عمر هو ليس أنه صاحب موقف سياسي فقط ، بل لأنه أيضاً وقبل كل شيء موهبة حقيقية أفصحت عن نفسها منذ فيلمه الأول “محاولة فيلمية عن سد الفرات” . وتجلت بواحد من أجمل الأفلام السورية “الحياة اليومية في قرية سورية” .
أرغب اليوم أكثر من أي وقت مضى ، بعد الرحيل الصاعق لعمر ، وقبل أن نرحل جميعاً ، أن أسجّل الملامح العامة لقصة هذه المجموعة ، ولسيرة عامودها الفقري عمر أميرلاي . وسأحاول أن أرسم صورة عمر كما عرفته عبر ما يقارب الأربعين عاماً.
أول ماكان يلفت النظر في شخصية عمر الشاب هو التصميم على قول الحقيقة دون خوف أو مجاملة . لذا كان بعض اليسار المدجّن يراه متطرفاً وشديد الثقة بنفسه إلى حد اعتبارمن لا يعرفه أنه مغرور مترفع عن الناس . لكن العمل الذي قمنا به كمجموعة تحاول نشر الوعي السينمائي عن طريق النادي السينمائي والمنتديات الثقافية ، أبرزت عمر صاحب الرأي ولكن المتمرس بالديموقراطية ، فهو الوحيد بيننا الذي لم يكن خريج دولة اشتراكية ، والوحيد الذي كان شهد وشارك في ثورة الشباب في فرنسا عام 68 . لذا كانت زاوية رؤيته أوسع . فكان عمر حاضراً بقوة في صدامنا الأول مع إدارات القطاع العام السينمائي . وأقصد المؤسسة العامة للسينما ودائرة الإنتاج السينمائي في التلفزيون السوري اللتين كنا نعمل فيهما . وكنا ننظر بتشكك وأستطيع أن أقول بازدراء إلى إنتاج القطاع الخاص السينمائي ، الذي كان يغلب عليه التهريج والابتذال . لكن عمر كان على صلة طيبة بالموزعين وأصحاب الصالات ، الذين ساعدونا ، وفتحوا لنا صالاتهم ، حين أغلقت المؤسسة العامة للسينما في وجهنا صالة الكندي التابعة للدولة كإدارة للنادي السينمائي في دمشق غير مرضي عنها.
وقد حققنا عام 1976 نقلة نوعية في صراعنا من أجل خلق صناعة سينمائية بإقامة المؤتمر التحضيري اليتيم للسينمائيين السورين . وقد شاركت بعد المؤتمر أنا وعمر في لجنة صياغة مشروع المجلس الوطني للسينما والصندوق الوطني للسينما ، اللذين كانا من توصيات المؤتمر التحضيري . وقد شاركنا عمر وأنا بجلسات كانت بين من يحملون المشروع وبين من لا همّ إلا إسقاطه ، وقد نجحوا طبعاً . لكنني لاأزال أذكر أنني كنت أقضي هذه الجلسات ضاحكاً بسبب سخرية عمر المريرة وحس الفكاهة السوداء التي كانت تميّز هذا السينمائي المتألق . إذ كان في شخصية عمر جانب خلق دائماً جواً من المرح أنّى تواجد ، هو حس النكتة العالي وسرعة البديهة التي تحولت فيما بعد إلى صفة ملتصقة بهذه المجموعة التي انضم إليها أسامة محمد أواخر السبعينات .عمر أميرلاي- تصوير أيهم ديب
ميّزة عمر وهذه المجموعة أنها كانت تحمل الهم الثقافي العام واستطاعت أن تجمع حلقة من كل أطياف اليسار من المسرحيين والشعراء والكتاب والتشكيليين والصحفيين وكبار المثقفين حول مشروع ثقافي عام كان النادي السينمائي أحد تجلياته وليس كلّها . فإذا نظر المرء لنشاط السبعينات الذي أعتقد أن هناك تقصيراً كبيراً في الحديث عنه ، فسيجد عمر وهذه المجموعة في قلب كل النشاطات الثقافية وفي وسط كل الصراعات للبحث عن ثقافة وطنية تساعد في تحقيق حلم السوريين في التحرير والتحديث . وقد بدأت نهاية السبعينات مجموعة من الإجراءات في مؤسسة السينما والتلفزيون لإيقاف عمل مجموعتنا وخاصة عمر أميرالاي الذي نظر إليه أنه الأشد إخلاصاً لمبادئه وغير القابل لأية تنازلات . فكان من أواخر إنتاجات دائرة الإنتاج السينمائي والتي أغلقت في وجهنا ، بعد فيلمي “ملابسات حادثة عادية” وفيلم محمد ملص “فرات” ، هو فيلم عمر أميرالاي المتميّز “الدجاج” والذي ظهرت فيه ميزة عمر في تحويل الحدث المؤلم إلى مادة للسخرية ، يصل إلى حد الكوميديا السوداء في فيلم تسجيلي . لكننا لم نيأس وقدمنا عمر ومحمد ملص وأنا وعدد من السينمائيين برنامجاً هاماً أسميناه النادي السينمائي ، كنا نعرض كل أسبوع فيلماًهاماً ثم ندير حوله حواراً مع نخبة من أبرز شخصيات الثقافة السورية . لكن حتى هذا الباب أغلق بعد فترة ، وكانت جرأة عمر ومبدئيته أكبر من أن يستوعبها تلفزيون الدولة .
للأسف انتهت تلك المرحلة بحلوها ومرها بأحداث عام 1979 – 1981 . فكان علينا البحث عن بدائل فردية بعد أن سدت في وجوهنا كل الطرق . فذهبت أنا إلى الدراما التلفزيونية وهاجر عمر إلى فرنسا ليقدم بحرية أكبر أفلامه التي لم يغادرها الهم العربي . ففي استمراره بالبحث عن المناطق الثورية ، كان قد قدم قبل هجرته فيلم “عن ثورة” عن ثورة ظفار ، وتبعها بعد الهجرة العديد من الأفلام ، بدءاً من “مصائب قوم” و”عطر الجنة” ليختمها بفيلمه الذي أثار عليه من جديد غضب المسؤولين عن الثقافة ألا وهو : “الطوفان” .
وهكذا ، هاجر عمر لكنه لم يهجر هموم بلده . وكان شريكاً في كل النشاطات التي صممت على استمرار خط السبعينات في خلق ثقافة وطنية ديموقراطية . وازداد عمر على مر السنوات نضجاً فنياً وسياسياً ونضجنا معه دون أن تفرقنا وحشة السنين ، وعدنا إلى بلدنا ومازلنا نحمل حلم “وطن العدالة الاجتماعية” . وسيظل السوريون دائماً مدينين لهذا السينمائي الموهوب بأن وضعهم على الخريطة السينمائية للفيلم التسجيلي عربياً وعالمياً ، محققاً نجاحات جعلته بحق السينمائي التسجيلي الأهم في هذه الخارطة التي حوت العديد من الموهوبين الذين كانوا دائماً يعترفون بفضل عمر على إبداعهم .
هيثم حقي باريس 5/2/2011