حوار مع المخرج السينمائي عمر أميرالاي: كان صعباً على مَنْ يجالس الحريري ألا يغيّر نظرته إليه
دمشق ـ حوار أجراه أُبيّ حسن
في هذا الحوار مع المخرج السينمائي عمر أميرلاي، تطرقنا كما توقفنا ملياً عند علاقته بالرئيس الشهيد رفيق الحريري والفيلم الذي أنجزه عنه.. وباح عمر، ربما للمرة الأولى، ببعض الأحاديث التي كانت تجري، على ضفاف الفيلم، بينه وبين الرئيس الحريري.
في صالة “غاليري أتاسي” في دمشق، جلست وعمر أميرلاي، وكانت ثمرة جلستنا هذه الدردشة التي اعترف بأنها أخافتني وكادت تجعلني أفكر في الطلب من الزملاء عدم وضع اسمي عليها، والطلب من عمر كذلك، لكن فروسية الأخير ونبله وهو يتحدث معي بثقة وغيرية على لبنان وسوريا فضلاً عن جرأته في البوح والكشف عن أحاديث كانت تدور بينه وبين الرئيس الحريري، جعلتني أشعر بالخجل جرّاء ما راودني من مشاعر الخوف.
***
بداية ما هو السبب الذي يدعو بعض السينمائيين السوريين لإحاطة أنفسهم بهالة من النرجسية؟
ـ إذا كانت النرجسية هي، في احد أوجهها، أن يكون الخالق حبانا بصفات جمالية فائقة تجعل منا معجبين بأنفسنا، على الصعيد الفيزيولوجي كحد أدنى.. أو إذا كانت هي أن تهبنا الطبيعة ملكات استيعابية وفكرية وإبداعية ومعرفية الخ… تبرر لنا أن نكون نرجسيين.. ففي اعتقادي الشخصي أننا، وانطلاقاً من وجهتي النظر سابقتي الذكر بما تنطويان عليه من دلالات النرجسية غير نرجسيين لعدم توفر أياً من صفات النرجسية في الوسط السينمائي. نحن في الدرك الأسفل من النرجسية. فببساطة لا يوجد لدينا ما نفخر به. كلنا معاقون معرفياً وإبداعياً.. نتمنى لو نكون نرجسيين، لكن، اكرر، مازلنا في الدرك الأسفل من النرجسية.
هل تشعر بأنك مغبون في سوريا من حيث عدم انتشار أفلامك أم أن العلّة كامنة في افتقار الوعي الجمعي لماهية وأهمية الفيلم التسجيلي؟
ـ شخصياً اشعر أن تهميشي مزدوج.. تهميش سياسي، وهذا ماعبّر عنه منع فيلمي الأول “الحياة اليومية” الذي أعددته مع الصديق الراحل سعد الله ونوس.. (مستدركاً) تصور حتى الفيلم القصير الذي صورته عن سد الفرات 1970 والذي كان يمتدح السد منع وتم حظره!.. بمعنى ثمة تهميش سياسي، واستطيع أن أتفهم هذا في ظل نظام توتاليتاري.
الشق الثاني من التهميش كامن في الجنس السينمائي الذي أتعاطاه، فالفيلم التسجيلي هو الابن الفقير للسينما. لكنه الابن الفقير إلى مرحلة الستينات، أما مع دخول التلفزيون كوسيلة انتشار جماهيرية روّجت للفيلم التسجيلي معيدة الاعتبار له، لم يعد هذا الجنس من السينما ابناً فقيراً. بالرغم من ذلك فإن ما تكرس في العقل الجمعي للمشاهد العربي، والى حد ما العقل النخبوي، إن السينما هي الفيلم الروائي فحسب، والنقاد ساهموا من خلال تجاهلهم للفيلم التسجيلي على حساب الفيلم الروائي في نشر هذا الافتقار المعرفي الجمعي والنخبوي بماهية الفيلم التسجيلي.
ربما كردة فعل على ذينك المستويين من التهميش، وبشكل اكبر التهميش السياسي، فأول عمل قمت به بعد أن وصلت سوريا، هو أن سلمت بعضاً من أفلامي وفي مقدمتها “طوفان البعث” لقراصنة vdv، ومجاناً… فليس من المعقول أن احسب سينمائياً سورياً والناس في بلدي تسمع باسمي ولا تعرف أعمالي!
لماذا اخترت الابن الفقير للسينما على الرغم من الفرص التي كانت متاحة أمامك منذ البداية بحكم علاقتك مع أوروبا؟
ـ ربما لأني عنيد، وحتى نعود إلى النرجسية (يضحك) لم يكن يعنيني نيل الاعتراف من الآخر ولم يكن يشغل بالي إطلاقاً..ربما بسبب النرجسية.. ببساطة مدخلي إلى السينما هو مدخل سياسي ومنذ اللحظات الأولى. في البداية كنت رساماً وذهبت أوربا كي ادرس الفنون وإن كنت عدلت عن دراستها لاحقاً. لكن هزيمة 1967 جعلتني اشعر بضرورة التسلح باختصاص، فهي أعادت وعيي بالواقع، من ثمّ أتت بعدها مباشرة أحداث الطلبة في باريس 1968 التي سيستني من الوعي بالواقع إلى التسييس مباشرة.. لذلك اعتبر 1968 هي مدرستي في السينما، وأول صورة صورتها لم تكن في مدرسة أو استديو ولا أكاديمية، إنما كانت في الشارع، وقد كانت مثل الحب الأول، ومعها اكتشفت أن السينما تبدأ من الناس ومعهم.. من حركاتهم التلقائية والعفوية والمرتجلة.. لذلك أقول عن نفسي: أنا ابن شارع سينمائياً.
في عام 1999 أخرجت فيلماً عن الرئيس الراحل رفيق الحريري.. أنت مثقف قادم من اليسار والرئيس الحريري كان قادماً من عالم المال وصاحب مشروع سياسي. هل لك أن تصف لي اللحظات الأولى التي انتابتك قبيل ولحظة مقابلته؟
ـ صحيح أنا قادم من يسار، لكنه يسار منهك ومهزوم ومأزوم، وبالرغم من هزيمته هذه كنت أحمل أسئلة كبيرة تجد في ثناياها الكثير من بذور الارتباك، وليس الارتباك هنا ناجماً بالضرورة عن الشخص الذي سأقابله، بل من الشك في الثوابت والمسلمات التي تربيت عليها طوال عقود. ربما فوضويتي الخاصة بي والكامنة في عبثيتي، وهي فوضوية تحقق لي الكثير من الاستقرار الداخلي هي التي ساعدتني في التغلب على بذور الارتباك تلك. عندما ذهبت للقائي الأول معه كنت أحمل “خرجاً” مليئاً بالمتناقضات والأسئلة الكبيرة التي قد لا أعرف إلى أين ستقودني… بهذه الأجواء وما يعتمل في داخلي من تناقضات قابلت الرئيس الحريري.
هل لمست الرغبة لدى الرئيس الحريري في انجاز الفيلم؟
ـ في البداية كان متمنعاً ومتخوفاً، ربما بسبب من نوعية أعمالي واتجاهي، واعتقد أن معلومات مغلوطة قد وصلته عني في هذا المنحى. وما جعله يزداد تمنعاً، في البداية، هو الفيلم الذي أخرجته عن بنازير بوتو، وقد كان فيلماً نقدياً لشخصية بوتو، وبقي الرئيس الحريري متردداً قرابة الثلاثة أشهر إلى أن تدخل صديق مشترك بيني وبينه هو الأستاذ محمود كوكش وهو كان صديقاً للرئيس الحريري منذ ستينات القرن الماضي إبان عضويتهما في حركة القوميين العرب.
هل اشترط عليك الرئيس الحريري مشاهدة الفيلم في مراحل إعداده أو قبل عرضه؟
ـ نهائياً.. لم يبد لي ولا مرة واحدة رغبته هذه، ولم يضعها شرطاً. علماً انه كان يستطيع أن يفرض هذا الشرط وهو من حقه، و شعرت آنذاك بالامتنان الكبير نحوه كونه وثق بي ولم يضع هذا الشرط.
ومن جملة الأسباب التي جعلتنا نوفق في الفيلم هو الأسس التي وضعناها لننطلق منها منذ اللقاء الأول.. فقد قررنا أن نكون فرساناً نبلاء في العمل، والرئيس الحريري كان في موقفه المتمثل بعدم إبدائه أية رغبة في مشاهدة العمل قبل عرضه في منتهى الفروسية والرجولة..
ماهي ماهية الأسس التي اتفقتما عليها؟
ـ أن لا يلجأ أي منا إلى أسلحته. فالرئيس الحريري كسياسي ومجرب، عادة ما تكون لديه أجوبة جاهزة ومسبقة الصنع ومقفلة في الوقت ذاته، من شأنها أن تقفل الحوار، بالتالي تعرقل الوصول إلى ذات الشخصية التي هي موضوع العمل. أما أسلحتي أنا فكائنة في الخدع السينمائية، مثل سرقة لقطات وصور أثناء انشغاله بأمر ما.. كمكالماته الهاتفية مع مستشاريه وما شابه.. بصدق أعتبر أن الرئيس الحريري سلمني نفسه أثناء العمل السينمائي، وقد كان فارساً وتعاملت معه بالمنطق نفسه.
هل تعرف ماذا كان انطباعه عن الفيلم؟
ـ كان انطباعاً ايجابياً.. أرسلت اليه نسخة عن الفيلم عام 2000 وقد كان في سردينيا، اتصل بي من هناك وهو يضحك قائلاً لي: “ولك هيك عملت فينا ياعمر؟ عملت فيلم عن حالك، ماعملت فيلم عني!” سألته: “مارأيك؟”، أجابني وهو يضحك: “شو بدك برأيي ؟ هاد الفيلم عنك مو عني والرأي رأيك”.. جوابه وطريقة حديثه عن الفيلم كانتا توحيان بإعجابه بالعمل.
ماذا كان انطباعك عن الرئيس الحريري بعد انتهاء العمل؟
ـ أحببته.. أحببته كشخص، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنني تبنيت آراءه وأفكاره التي كان يؤمن بها ويعتقد أنها صواب، وأتمنى أن يكون كل الرأسماليين مثل الحريري خاصة إذا كان عندهم هذا الوازع الإنساني والأخلاقي تجاه الفقراء.
لدي قناعة راسخة أن هذا الرجل لم يتنكر لحظة واحدة لماضيه، ولذلك لم ينس أبداً أهل البيئة التي خرج منها، لهذا كان خفراً جداً أثناء مساعدته للفقراء، فلم نجده يتباهى بعطائه، لأنه كان يحترم كرامة الفقير ويحافظ عليها لمعرفته أن لا أحد يتمنى أن يعرف أن الناس تتفضل عليه حتى لو كان فقيراً. من ثمّ هناك شيء آخر، وهذا ما أكبرته جداً في الحريري، ألا وهو منعه تصوير المآدب التي كان يقيمها للفقراء، لأنه كان يرى أن من المعيب أن يصور (إعلامياً) فقيراً وهو يأكل. شخصياً هذه التفاصيل التي قد تبدو صغيرة ولكنها في جوهرها كبيرة احترمتها كثيراً عند الرئيس الحريري. فضلاً عن شعورك وأنت تجالسه بأنه ابن صيدا الشعبية، في شهامته، وبرفعه السريع للكلفة بينك وبينه. في اعتقادي أن الشخص يجب أن يكون فاقداً للإحساس حتى لا يغير رأيه في الحريري.
قبل استشهاد الحريري هل كنت تتوقع هذا المآل في العلاقات السورية اللبنانية؟
ـ مجموع ساعات الحوار بيني وبين الرئيس الحريري كانت مئة ساعة وهو الذي أحصى الوقت وذكره لي، سبع ساعات منها فقط للتصوير، وفي كل مرة كنت أجالسه كنت ألومه لرخاوته في علاقته مع النظام السوري، مبيناً له استغرابي لعدم اتخاذه مواقف صلبة وحازمة للطريقة التي كان يعامل فيها النظام السوري الرئيس الحريري ابتداء من سنة 1996 وما بعد. وفي يقيني أن النظام السوري، في أعماقه، كان ينسج الشباك حول الحريري بغية تكبيل حركته وتحجيم دوره في لبنان. وأكثر من هذا أن النظام السوري أراد منذ التسعينات تحجيم هذا الرجل وتحويله من رجل وطني قادم من خارج الحرب اللبنانية وبتوافق لبناني عربي دولي عليه، مقدماً نفسه كمخلص لجميع اللبنانيين وصاحب مشروع لإعادة إعمار لبنان، إلى مجرد شيخ حارة سنية، وهذا الأسلوب هو جوهر تعاطي النظام السوري مع الحالة اللبنانية والسورية كذلك. وعكس ما يقال أن علاقة النظام السوري مع الحريري لم تسؤ إلا في الأشهر الأخيرة التي سبقت اغتياله، بل هي كانت سيئة منذ البداية، لكنها لم تكن ظاهرة، وكنت تنسج نفسها خيطاً خيطاً.
ألا ترى أن في كلامك تناقضاً، فالرئيس الحريري أتى إلى لبنان بموافقة سوريا، ومنذ التسعينات!
ـ لكنه في الوقت ذاته أتى بتوافق عربي ودولي وبهوية سعودية كذلك، وأياديه غير ملوثة بالدماء. لاشك أن النظام السوري وافق عليه، لكن على أمل تطويعه وتفريغه مالياً وبرنامجياً، وما دخول الرئيس لحود على الخط إلا لعرقلة الحريري، فالمعروف أن الضابط يمتثل لأوامر القيادة العليا، ولقد أدى (الرئيس) لحود دوره بامتياز.
انطلاقاً مما سبق وذكرته لك، لم أكن قطعاً مستغرباً ما وصلت اليه حال العلاقات اللبنانية ـ السورية.
وعندما كنت أناقش الحريري مستنكراً رخاوته تلك، كان يقول لي هذه الجملة التي ترن الآن في مسمعي “أنت ما بتعرف النظام السوري” وكأنه أراد أن يقول أنهم قادرون على ارتكاب الأسوأ إذا عارضتهم.
كيف ترى الصورة في سوريا الآن؟
ـ (صمت طويل) أي مخرج يفتح هذه البلد على أكثر من احتمال ويقضي على هذا الاحتمال الأوحد الذي غرقنا فيه، ومازلنا، منذ أربعين عاماً هو لاشك يحمل أمل ويفتح على مستقبل ما، ولو كان هذا المستقبل اقل سوءاً من هذا الراهن.
ومستقبل العلاقات السورية ـ اللبنانية؟
ـ هذه المجتمعات التي عمرها آلاف السنوات بقيت، في حين الأنظمة رحلت، وستنجلي هذه السحابة السوداء ذات يوم، لتبقى المجتمعات وتعود العلاقات بينها.
عمر أميرالاي أنت ابن جيل عاش الأحلام الكبرى، وذاق الهزائم الكبرى، لو عاد الزمن من جديد، هل كنت بدأت كما بدأت؟
ـ أكيد.. نعم كنت بدأت كما بدأت. ولا أعتبر الهزيمة نقيصة..
(مقاطعاً) لكنها سلسلة هزائم وليست هزيمة واحدة!!!
ـ قد نكون هزمنا على مستوى الثقافة والأفكار التي آمنا بها، إنما على مستوى المشروع الفردي لم أهزم، وكذلك على مستوى أعمالي التي لاتخضع لشروط العابر والراحل، وهذا ما يواسيني.
وهل مازلت تحلم بالصراع العربي الإسرائيلي وتحرير فلسطين؟
ـ دائماً كان عندي أوليات على الصراع العربي الإسرائيلي، ألا وهي حرية وكرامة المواطن في بلدي. وبالمناسبة لم أصنع فيلماً واحداً عن فلسطين على نقيض معظم أبناء جيلي، رغم أني كنت مقرباً من الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين في بداية السبعينات.. لكن عندما رأيت الفلاح السوري والمواطن السوري واكتشفت الواقع ومرارته أدركت أن معركتي هنا قبل أن تكون في فلسطين.
هل ثمة شيء معين لم تنجزه بعد وبودك لو تنجزه؟
ـ نعم، أن أقدر على ممارسة حقي الانتخابي بحرية يوماً ما في بلدي، قبل أن أموت، وهو أبسط الحقوق.
المستقبل