رحيل عمر أميرالايصفحات الحوار

عمر اميرلاي في حوار أجري قبل أسبوع من رحيله.. الثقافة السورية بحاجة إلى إنقاذ من موتها السريري

null
سامر محمد اسماعيل
عمر أميرلاي: الحديث عن مؤسسة السينما احتجاج كربلائي يندب قضية لا حل لها
برلين الغربيّة هي المدينة التي يتذكّرها جيداً، ففيها كان يسترق السّمع لتدريبات مغنّي أوبرا ألماني تقاسم معه شقّة في ستّينيات القرن الماضي، ومن خلال جدران تلك الشقّة كان الشّاب يحاول التقاط سرّ الغناء الأوبرالي، وما هي إلا أيّام حتى راح هو أيضاً يدرّب نفسه على أداء تمارين صوتيّة يصفها صاحب فيلم «الدجاج» بأنّها كانت في معظم الأحيان تحميات مبالغ فيها لردّ شبهة الضجر وتقطّع السّبل به في تلك المدينة الصقيعيّة الخالية من الأنس، والتي لم يكن يعرف أحداً فيها. فالشّاب الذي لم يكن قد اهتدى بعد إلى ضالّة أحلامه، ولم يكتشف بعد ما كانت تخبّئه له الحياة، ولا ما يريده هو منها أصلاً؛ فوجئ في أحد الأيّام بجاره المغنّي، الطّالب في كونسرفتوار برلين للموسيقى، يشجّعه على الالتحاق بمعهده. كان ذلك في شتاء عام ١٩٦٥، عندما توصّل عمر أميرالاي إلى حقيقة أنّ الغناء الأوبراليّ يتعارض ومبدأه الـرّافض لأشكال الانضباط القسريّ، والامتثال لقواعد التدريب الصّارمة التي يخضع لها المغنّون عادةً؛ خصوصاً حياتهم المضجرة المهووسة دائماً بسرساب الإصابة برشح أو زكام، وكأنّ الحياة كلّها معلّق مصيرها بحبال حنجرة، لذلك قرّر الشاب السفر إلى باريس بتشجيع من الدكتور سامي الّجندي، أول سفير لسوريا في فرنسا بعد انقطاع العلاقات بين البلدين على إثر العدوان الثلاثي على مصر عام ١٩٥٦. ذكريات كثيرة يحتفظ بها المخرج السوري عن صديقه سامي الجندي الذي كانت تربطه بالوزير والأديب الفرنسي أندريه مالرو علاقة ودّ خاصّة جدّاً. في باريس درس أميرالاي المسرح أولاً بين عامي ١٩٦٦ـ١٩٦٧ في الجامعة الدولية للمسرح (مسرح ساره برنار)، ليلتحق بعدها بمعهد الدراسات السينمائيّة العليا عام ١٩٦٨، حيث كانت سنته التحضيرية في جامعة نانتير؛ الجامعة التي انطلقت منها شرارة ثورة الطلاب في فرنسا على يد زعيمها كونبنديت وآخرين.
لم تمض أشهر على دخول أميرالاي المعهد حتى بدأ يفكّر من جديد في ترك السينما أيضاً، فنظام التلقين وغلاظة المناهج الأكاديميّة التي كانت متّبعة آنذاك جعلته ينزوي عن زملائه، فاستحقّ لقب «الشّاب الذي يمشي فوق السحاب» اللقب الذي أطلقه عليه هؤلاء، إلى أن جاء اليوم الذي طلب فيه أستاذه المخرج الفرنسي الشهير «جان بيير ميلفيل» تقديم معالجة سينمائيّة لمشهد من رواية أدبية، حيث خصّه «ميلفيل» بإطراء وحماس شديدين فاجآه؛ فالشاب الذي كان رساماً ساخراً في مجلات سوريّة استطاع أن ينجز ديكوباجاً سينمائيّاً متقناً للمشهد المطلوب، مدعّماً إيّاه بملاحظات إخراجيّة دقيقة ورسوم تفصيليّة على شكل «ستوري بورد».
ردّ فعل أستاذه «ميلفيل» دفعه هذه الـمرّة بقوّة نحو حلمه السّينمائي، لكنّ إغلاق المعهد بسبب أحداث ثورة الـ ١٩٦٨ جعله يعود إلى دمشق في صيف العام نفسه بعيداً عن المهمّة التي كان يزاولها إبّان أحداث الطلبة، وهي تزويد اللجنة الإعلاميّة التّابعة للحركة الطلابيّة بمواد عن المظاهرات التي كان يصوّرها بكاميرته السينمائية الخاصّة.
في زيارته القصيرة هذه لبلده أنجز أميرالاي أولى تجاربه في الفيلم التسجيلي لمصلحة وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بتقديم مشروع فيلم إدّعى فيه يومها رغبته في توثيق نشاط الوحدات الإرشاديّة لصناعة السجاد اليدوي المنتشرة في ذلك الوقت في مختلف أرجاء سوريّة، لكنّ هدفه الحقيقيّ كان رغبته العارمة في التعـرّف على بلده الذي كان يجهل تماماً غناه وتنوّعه المذهل في ناسه وجغرافيّاته. وقد زوّدته جولاته هذه في مختلف أقاليم سورية وقراها النّائية بمعين هائل من الأحاسيس والانطباعات التي جاءت لترفد حساً بصريّاً ونقديّاً طبع جلّ أفلامه التسجيلية فيما بعد.
عمر أميرالاي يتحدّث هنا عن الواقع الرّاهن لحال الثقافة والمثقّفين في سوريا عبر تجربته في نادي دمشق السينمائي. كان لقاء مع المخرج السوري، وكان الحوار التالي:
كنت ماركسياً
÷ بدايةً كيف توصّف علاقتك بالثقافة السوريّة عبر تجربتك في نادي دمشق السينمائي في سبعينيات القرن الفائت؟ وما هي تطلعات جيل سينمائيّي ذلك الزّمن الذي تنتمي إليه؟
ـ في بداية عهدي بالثقافة وبالوعي السياسي لم أكن شيوعياً حنبليّاً في يوم من الأيّام، بل كنت مؤيّداً لتيّار كان يُطلق عليه سلطة المجالس، وهو تيّار فكريّ لم يكن حزباً ولا تنظيماً سياسياً، بل نغمة من نغمات اليسار الثوري في تلك الحقبة. بالإمكان القّول إنّني كنت ماركسيّاً يساريّاً في الشكل، عبثيّاً متمرّداً في المضمون بعباءة ماركسية.
موجة اليسار هذه التي وسمت سبعينيات القرن الماضي وجدت تربتها الخصبة أيضاً في نشاطات نادي دمشق السينمائي الذي كان مقرّه المنتدى الاجتماعي الحالي، عندما شكّلنا أنا ومحمّد ملص ونبيل المالح وقيس الزبيدي وهيثم حقي وآخرون، خلية سينمائية نشطة، توجّهها الفكريّ يساريّ، ومواقفها المعارضة علنيّة داخل الحياة الثقافية والاجتماعية في البلد، لكنّ ذلك لم يتحقّق إلا بعد صراع خضناه ضدّ التيار الشيوعي البكداشي الذي كان يسيطر على النادي في ذلك الحين، وقد نجحنا عبر انتخابات ديموقراطيّة بانتزاعه من أيديهم، وقد استمرّ نشاطنا فيما بعد من عام ١٩٧٤ ولغاية عام ١٩٨١، حين اضطرّ النّادي إلى تعليق أنشطته بالكامل بسبب أحداث الإخوان المسلمين الدّامية في سوريا، واشتداد وتيرة القمع في البلاد. وقد واكب النادي بين عامي١٩٧٩ـ١٩٨٠ انتفاضة النقابات التي تعتبر لحظة تاريخية استثنائيّة في حياة سوريا المعاصرة، حيث جرى التعتيم عليها ليس من قبل الإعلام الرّسميّ وحسب، وإنّما أيضاً من قبل المهتمّين بالشأن السّوري، وقد أتيحت للسلطة يومها فرصة نادرة لفتح حوار حقيقيّ مع المجتمع المدني، وفق صيغة وسطيّة كان من شأنها وقتئذ أن تجسر الهوّة التي كانت قائمة بين السلطة والمجتمع، وتضع حدّاً لسياستها الهادفة لاستبدال المجتمع المدني ببدائل كرتونيّة أطلقت عليها اسم منظمات شعبية، وقد حدث ذلك عندما انتقلت قيادة هذه المنظمات عن طريق الانتخابات (كنقابة الأطبّاء والمهندسين والصيادلة وانقسام نقابة المحامين) من يد حزب البعث الحاكم إلى يد تحالف القوى الوطنية المستقلّة والمعارضة آنذاك، ممّا اضطر السلطة للاعتراف بالأمر الواقع، ودفع أعضاء لها في الجبهة الوطنيّة التقدّميّة برئاسة محمود الأيوبي لإجراء حوارات مباشرة وعلنيّة في مدرّج جامعة دمشق، ومقرّات النقابات المهنيّة، وذلك مع ممثلين عن الحراك الاجتماعي والنقابي، وقد دارت في هذه الحوارات نقاشات غير مسبوقة، حادّة وجريئة، شملت مطالب محدّدة لإجراء إصلاحات جوهرية في بنية البلاد السياسية والاجتماعيّة، وذلك قبل أن تستغلّ الطليعة المسلحة في تنظيم الأخوان المسلمين في سوريا الفرصة لشنّ سلسلة اغتيالاتها، والتي كان بوسع السلطة تفاديها وتطويقها شعبيّاً لو أنّها التقطت في الوقت المناسب نفَس الشّارع ومطالب قواه الوطنيّة والمستقلّة في التغيير، ففوّتت على البلد وشعبه حقبة سوداء من القمع والمواجهات المأسوية بين النظام وقوى التمرّد المسلّح في المجتمع. والجميع يتذكّر النتائج الكارثيّة التي أعقبت حوادث الـ ٨٢، والحقبة الأمنيّة الدهماء التي جثمت على صدر المجتمع السوريّ لأعوام مقبلة.
÷ ما الذي فعله النادي السينمائي في تلك الفترة، وما هو الدور الذي اضطلع به وقتها؟
ـ في مناخ متأجّج من الحراك المدني، كان نادي دمشق السينمائيّ المنبر الوحيد المستقلّ الذي كان يمارس نشاطه بحرّية نسبيّة، وإنّما تحت رقابة أمنيّة مشدّدة، حيث تحوّل مقرّ النادي إلى منبر مفتوح للنُخب المعارضة في المجتمع للتعبير عن أفكارها ومطالبها، وقد توالى على منبر النادي وجوه من الحياة السياسية السورية بمختلف أطيافها، من أقصى اليسار إلى اليمين الديموقراطي، وأذكر منهم المرحوم المحامي موفّق الكزبري، مؤسّس أوّل لجنة للدفاع عن حقوق الإنسان في سوريا، الذي قدم في النّادي أروع ندوة ساخرة تنتقد أوضاع البلاد، وذلك بلغة مجازيّة لافتة في جرأتها وذكائها وقدرتها على سبر ماغما التجاذبات والصراعات السياسية القائمة في ذلك الحين، مستعيراً من الأدب الشعبي حكايات مثل (الملك العاري) و (المرياع).
÷ بعد توقف النادي لسنوات استعاد نشاطه من جديد في منتصف التسعينيات، فما الذي أعاد الحياة إليه؟
ـ في منتصف التسعينيات بدأ يلوح في الأفق انفراج نسبيّ في حالة البلاد العامّة، وهي الفترة التي شهدت انتقال مقاليد السّلطة تدريجياً من الرئيس الراحل حافظ الأسد إلى الرئيس الجديد، والحديث عن شخصيّة الرئيس الشّاب المنفتح الذي يمثّل جيلاً جديداً في إدارة السلطة. وفي سياق هذا الشعور المتفائل بهذا الانفراج النسبيّ، قرّر النادي استعادة نشاطه، وبالفعل عقدنا اجتماعاً لجمعيّته العمومية، أُنتخب على إثره مجلس إدارة جديداً، أعاد انتخابي كرئيس، ونبيل المالح كنائب رئيس، إضافةً إلى شخصيتين من حرس النادي القديم وسيّدة فاضلة من قدامى الأعضاء. وقد باشر النادي نشاطه فوراً في سينما الشام حيث بدأت ملامح جيل جديد من الأعضاء ينضمّون إليه ويحضرون عروضه، واللافت أنّ معظم روّاده الجُدد كانوا من أبناء أعضاء النادي القدامى، وبهذه المناسبة يحقّ لنا أن نفخر بأنّ عدد أعضاء النادي في السبعينيّات كان ما يُقارب الألف عضو من مختلف الأعمار والفئات الاجتماعية والسياسية، وكان جلّهم من طلبة الجامعة.
÷ أفهم من كلامك أن النادي كان نادياً سياسياً قبل أن يكون سينمائياً؟
ـ طبعاً عندما أقول إنّ النّادي كان نادياً سينمائيّاً يساريّاً، فأنا لا أقصد أنّه كان دوغمائيّاً مهووساً بالسياسة، مهملاً للشأن السينمائي الذي كان همّه الأول والأخير. صحيح أنّ عدداً غير قليل من النقاشات التي كانت تجري تحت سقف النادي حول الأفلام، كانت تجنح نحو السياسة نظراً لطبيعة جمهوره المسيّس غالباً، لكن هوى النادي الأساسي كان بالدرجة الأولى سينمائياً، وسواءً أردنا ذلك أم لم نرد كان الحوار يميل تلقائيّاً نحو السياسة أيّاً كانت طبيعة الفيلم الذي نعرضه. في جميع الأحوال أظنّ أنّنا أدّينا واجبنا فيما يخصّ نشر الثقافة والمعرفة السينمائيّة في أوساط جيلٍ كامل، وقد جعلناه يحبّ السّينما كما نحبّها نحن من خلال تعريفه على أهم إنتاجات الفنّ السّابع، ومذاهب السّينما على اختلاف أنواعها، ليس على صعيد العاصمة وحسب، وإنّما في مدن أخرى أيضاً من خلال تأسيسنا لاتّحاد عام لنوادي السينما عام ١٩٧٨، بحيث أصبح لدينا فروع في حلب وحمص ومصياف ودير الزور والسّويداء، فكنّا، أنا ومحمد ملص، نقيم أسابيع للأفلام في هذه المدن، حاملين معنا أفلاماً وآلة عرض سينمائيّة ١٦ مم عندما لا تتوفّر هذه، كي نعرض هذه الأفلام أمام الجمهور ونناقشها. كان عملنا أقرب إلى الفعل النضالي بكلّ معنى الكلمة.
÷ بالعودة إلى التسعينيات، كيف كان توجّه النادي، وما الذي طرأ على نشاطاته؟
ـ عندما صدّقنا بوجود بوادر انفراج في الحياة العامّة في سوريا أواسط التسعينيّات، باشرنا فوراً نشاطنا باستقطاب عدد من الأفلام العربيّة الجديدة، وكان فيلم «المصير» ليوسف شاهين باكورة عروضنا، حيث كان الحضور مفاجئاً بكثافته وحماسه، لكنّ سرعان ما «عادت حليمة إلى عادتها القديمة» بعد أسابيع قليلة من معاودة نشاطنا، حين صدر عن وزيرة الثقافة آنذاك، الدكتورة نجاح العطار، توجيه إلى صالات السينما الخاصّة بعدم استقبالنا، واضعةً إدارة النادي أمام خيار أوحد: إمّا أن نعرض في إحدى صالات المراكز الثقافية العائدة للوزارة، أو لا نعرض. فقرّرنا عندئذ أن نعلّق نشاطنا من جديد حفاظاً على استقلالنا، ولأنّنا اشتممنا أيضاً في قرار وزيرة الثقافة محاولة لتهميشنا وعزلنا في مراكز ثقافية مقفرة، لا تفتح أبوابها إلا لمجالس العزاء في أحسن الأحوال.
÷ لكن معظم المثقفين السوريين يشيدون بالفترة التي استلمت فيها الدكتورة نجاح العطار وزارة الثقافة مطلقين على ولايتها الثقافية وزارة العصر الذهبي للثقافة السورية الذي استمر ثلاثة وعشرين عاماً؟
ـ درجت العادة على أن تكون حقيبة وزارة الثقافة في سوريا من نصيب الشّوام، ولو وجدت شخصيّة شاميّة أخرى بمواصفات الدكتورة العطار لما كانت السلطة عانت وارتبكت إلى هذا الحدّ لإيجاد بديل لها طيلة السنوات العشر الماضية، بدليل تبـدّل خمسة وزراء على سدّة الوزارة خلال عقد واحد من الزمن، وفي كلّ مرّة يُتحفوننا ببديل أسوأ من سلفه وكأنّ المقصود هو إثبات أنّ لا حدود لديهم في اكتشاف الأسوأ، وهي مهارة أعترف لهم بها. لأعود إلى سرّ احتفاظ الوزيرة العطار بحقيبة الثقافة على مدى عقدين ونصف تقريباً والذي يرجع برأيي إلى تميّزها في شكل ولائها للسلطة، إضافة إلى صفات أخرى تتميّز بها هذه الشخصية وهي حنكتها وثقافتها العالية المشهودة لها، وكذلك أيضاً مقدرتها العالية على تخدير محاوريها، بحيث يظنّ المراجع لها في قضيّة، أنّها متفهّمة تماماً لقضيّته، متعاطفة جدّاً مع همومه، ومؤيّدة لمطالبه، لكن ليس باليد حيلة، وهو دورٌ برعت فيه للغاية، ولم يكن الهدف منه سوى امتصاص مشاكل المثقّفين وتنفيس مطالبهم واعتراضاتهم إن وُجدت. أمّا منجزاتها فهي متواضعة جدّاً إذا ما قيست بعدد السنين التي أمضتها في سدّة الوزارة، والإنجاز الوحيد الذي يُحسب لها، مع بعض التحفّظ، هو تأسيس المعهد العالي للفنون المسرحية والموسيقى في عهدها، وهو إنجاز يعود الفضل الأساس فيه برأيي إلى شخصية الراحل سعد الله ونوس، وأشخاص آخرين كالرّاحلين فواز السّاجر وأديب اللجمي وصلحي الوادي؛ حيث لعب هذان المعهدان دون أدنى شكّ دوراً هاماً في إغناء المشهد الثقافي السوري وضخّه بالمواهب الفنيّة حتى منتصف الثمانينيّات، لكنّ عصر هذه المرحلة الذهبيّ انتهى مع الأسف برحيل مؤسّسي هذين المعهدين، إذ يكفي أن يعرف المرء ما آلت إليه أحوال هذين الصّرحين في العقدين الأخيرين كي يتحسّر ويبكي على ماضيهما المجيد.
÷ حسناً مع توقّف أنشطة النادي السينمائي، منتصف التسعينيات، مرّت سنين طويلة على إنجازك الفيلم الوحيد الذي أنتجته لك مؤسّسة السينما عام ١٩٧٢ وهو «الحياة اليوميّة في قرية سوريّة»، لكنّ سؤالي هو لماذا انقطعت أخبار هذا النادي، وماذا فعلتم كسينمائيين ومثقفين لاسترداده؟
ـ أستطيع القول إنّ ثمّة حالة مريبة تسم الموقف الغريب للمثقّفين السوريين عموماً، وسكونهم العجيب، في الفترة الأخيرة. حالة قد تُعزى أسبابها إلى عوامل عدّة، أوّلها الرّهبة ربّما التي عادت وهيمنت من جديد على النّفوس على إثر حملتي الاعتقالات اللتين طالتا رموزاً ثقافيّة ومعارضة محترمة، وثانيها، ما يمكن أن يُطلق عليه بغاز «الإفساد الناعم» الذي درجت السلطة على تسريبه مؤخّراً في أجواء المثقفين والفنّانين على وجه التّحديد، لتخديرهم أوّلاً، ومن ثمّ لاستدراجهم واحتوائهم، إمّا من خلال الانتماء العصبيّ، أو الاستنهاض القومي والوطني، أو التّكريم الرسميّ وتوزيع الأوسمة على من هبّ ودبّ، وكلّها عوامل كانت كافية لإحداث ما يشبه الخلخلة والاستفراد التي نعرفها اليوم في أوساط الثقافة والفنّ؛ خرابٌ نجح في أن يحوّل القضية الثقافية العامة ـ التي تحتاج اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى إلى تضافر جهود كلّ المعنيّين بها لإنقاذها من الموت السّريري الذي هي فيه ـ إلى مجرّد خلاصات فردية، وقع بعض المثقفين في حبائلها حين استجابوا لدعوة بعض رموز السلطة لهم إلى الحوار، ما أودى ببعض هؤلاء إلى السّجون فيما بعد، لأنّهم صدّقوا السلطة حينها، وكان بوسع هذه الأخيرة أن تغتنم فرصة «ربيع دمشق» لفتح حوار جديّ وصادق على الأقل مع أطياف المجتمع المدني للتوصّل إلى عقد اجتماعيّ ديموقراطيّ جديد يحقّق المنعة والرّخاء والاستقرار لسوريا، لكنّ الأمر حدث خلاف ذلك مع الأسف، حين وُوجه المثقّفون والمعارضون بتهم جديدة أشدّ وأقسى لا تقنع عاقلاً، كنشر أنباء كاذبة توهن نفسيّة الأمّة، ونشر دعاوى تضعف الشعور القومي، والانتساب إلى جمعيات تهدف إلى تغيير كيان الدولة، وكلّ ذلك بحجّة مواجهة الخطر الخارجيّ المتمثّل في العدوّ الإسرائيليّ تـارّةً، أو الخطر الدّاخليّ المتمثّل بالأصوليّة الإسلاميّة تارةً أخرى. وقد سارع مثقّفون وفنّانون كثر لتبنّي هذه المقولة والدفاع عنها، في حين فاتهم أنّ مفتاح التحكّم الفعليّ في رفع أو خفض وتيرة خطر هذين العدوّين الدّاهمين، إنّما هو، في معظم الأحيان، في يد السلطة نفسها.
حيال هذه الصورة الباهتة لواقع مثقفي سورية وفنّانيها، ومواقفهم الغائبة أو الخجولة ممّا يجري في وطنهم، تبرز أمامهم اليوم جملة أسئلة ملحّة يتحتّم عليهم الإجابة عليها قبل فوات الأوان: أين هم اليوم ممّا يجري في بلدهم، وأين موقعهم الرياديّ من وعي أمّتهم؟ وأيّ دور يلعبونه في التأثير على صنع توجّهات بلدهم المصيرية وخياراته المستقبلية؟ أين هم من واقع أمّتهم السياسي والاجتماعي وصبوة أبنائها إلى الحريّة والعدالة والمساواة؟ أيّ ثقافة وطنية ديموقراطية وتعددية يريدونها لبلدهم ولأجياله القادمة، وإلى متى سيظلّ أكثرهم إمّعات لأفكار سياسيّة بالية سائدة في بلدهم، بتجلياتها الحزبية الحاكمة والمعارضة على حدّ سواء؟ وأخيراً، أيّ إنسان سوريّ جديد وحرّ يتطلّعون إلى بنائه في المستقبل، وعلى أيّ أسس ومعايير وقيم فكرية ومعرفية وثقافية وإبداعيّة جديدة يتصوّرون هذا البناء؟ ألم يحن الوقت كي يدركوا أنّ ليس بالصّمت والانكفاء والتهرّب من مواجهة الواقع وتجنّب الاشتباك مع أسباب تردّيه يستطيعون أن يكفّروا عن عجزهم المقيم، علماً بأنّهم عن عجزهم هذا وتقاعسهم لسوف يُسألون يوماً ويُلامون، من شعبهم أولاً، ومن التاريخ ثانياً.
إنّ هذه الصّورة القاتمة لواقع الفكر والثقافة والفنّ السّائد في بلدنا اليوم لا يعبّر مع الأسف عن حقيقة روح سورية ووجدانها، ولا يليق بإرثها الإنساني والحضاريّ، ولا بسجلّ مفكريها ومثقفيها وفنّانيها الحافل بالمواقف المشرّفة، وأنا على يقين أنّ ما من خلاص ممكن ومشرف من الحالة المزرية التي نحن فيها اليوم سوى أن يبادر عموم المثقّفين والفنّانين السوريّين ـ هذا إن كانوا يريدون فعلاً أن يكون لهم دور مؤثّر في تفعيل عملية التغيير العاجل في بلدهم ـ بالدعوة إلى نقاش عامّ يطرحون من خلاله واقع الثقافة السوريّة الـرّاهن، بأزماتها وتحدّياتها وتطلّعاتها، بحيث تشكّل حصيلة ما ستسفر عنه هذه النقاشات من أفكار وتوصيات ومهام مادة لإطلاق مشروع ثقافيّ وطنيّ ديموقراطي شامل يسهم في عملية التغيير الجذريّة التي يطمح إليها عموم السّوريين.
÷ ولكن ألا تستشعر، رغم هذا الصّمت الذي تتحدث عنه، أنّ ثمّة حراكاً ثقافيّاً جادّاً ومهمّاً بدأ يظهر عند الشباب السوري قوامه المهرجانات المستقلة في السّينما والرّقص المعاصر والموسيقى والدراما التلفزيونية والفن التشكيلي، وبروز اتجاهات حداثية داخل المجتمع السوري تجري على أكثر من مستوى، هل يمكن اختصار كلّ ذلك تحت يافطة الصّمت هذه؟
ـ هذا الصّمت الذي أسميته مريباً ومشبوهاً، عن وعي كان أم عن غير وعي، هو الذي أوصلنا في الواقع إلى زمن الخداع المؤسف الذي نحن فيه اليوم، وهو خداع ثقافة جديدة تُشرعن نفسها على أنقاض ثقافة أخرى كانت إلى عهد قريب من مسؤوليّة الدّولة حصراً، لكنّ هذه الأخيرة فشلت في مهمّتها مع الأسف فشلاً تاريخيّاً ذريعاً لا قيام بعده. إذ على جثّة ثقافة الدولة نرى اليوم ولادة «ثقافة» مستحدثة، جرت فبركة مؤسّساتها ولجانها واستراتيجيّاتها في ردهات السلطة، وقد وُضع تحت تصرّف هذه المؤسّسات إمكانات مالية كبيرة ولوجيستيات تحسدها عليها وزارة مختصّة عريقة عمرها أكثر من نصف قرن كوزارة الثقافة، حيث يدير فيترينات هذه الثقافة ذات الخمس نجوم، ويشرف عليها، شباب أغرار، تكنوقراطيون، لا تاريخ ولا صلات فعليّة لهم تربطهم بواقع بلدهم الحقيقيّ. فهذه المؤسّسات المدّعية الحداثة، لن تنتج في نهاية المطاف سوى بقع زيت ستطفو على سطح واقع يتمرّون به لوحدهم، فبقع الزيت هذه، مهما كثرت وعظم شأنها، فإنّها لن تستطيع حجب فشل الدولة في استعادة سلطتها على مؤسّساتها وأجهزتها المتداعية والفاسدة، لإصلاحها وتطويرها. إنّ كلّ بقع الزّيت التي ينوون إغراقنا بها تحت مسمّيات مختلفة مثل «حماية البيئة، وتنظيف المدينة، وتجميل الساحات والطرقات، وثقافة التطوّع، والعناية بذوي الاحتياجات الخاصة»، كلّ هذه الممارسات التي سبقتهم إليها دول كمصر والأردن وقطر، ما هي سوى ذرّ رماد في العيون لا يهدف إلا إلى تجميل واقع دّاخلي يتهدّده الفقر، وجوع الرّيف، وتردّي المستوى المعيشيّ العام للفرد وللعائلة في البلاد، بسبب الغلاء، وتخلّف قطاع الخدمات في الصحّة والتعليم والرعاية الاجتماعيّة، وإنّ المطلوب اليوم من أصحاب القرار العمل على تحسين أوضاع البلاد بضبط ساعتهم على التوقيت المحليّ ونبض الشّارع الدّاخلي، منه الانشغال بمتاهات السياسة الدوليّة ولعبة الأمم.
أمّا الخداع الآخر، وهو الأخطر برأيي، فإنّه يُمارس نشاطه تحت جنح التطبيع مع المال الحرام من قبل ورثة العهد القديم، ويتمثّل بـوضع اليدّ على أهمّ قطاعات الخدمات العامّة ذات الرّبح السّريع المبيّض للفساد المنهجيّ منذ أربعة عقود، إذ بأموال الدولة العتيدة المنهوبة سابقاً يُؤسّس اليوم ما يُطلق عليه وقاحةً بالاقتصاد التنمويّ الحُر، الذي ما هو في واقع الأمر سوى تدوير صريح لمال فساد القطاع العام السّابق إلى اقتصاد حرّ وخاصّ اليوم، بمسمّيات مختلفة أبرزها تلك الشركات القابضة على قوت الشعب ومقدّراته، والتي أثبتت التجربة التونسيّة الأخيرة، أنّ ما من حقّ يضيع في التّاريخ، ووراءه شعب مطالب.
السينما السورية
÷ في ظلّ هذا التصوّر المتشائم للمجتمع السوري الرّاهن الذي تتكلّم عنه، أين تقف اليوم من قضية السينما السورية ومقاطعة السينمائيين للمؤسّسة العامّة للسينما؟
ـ أنا أولاً لا أتـنكّر لهويتي السينمائيّة، ولا للسينما التي تبقى أداتي الوحيدة للتعبير عن نفسي، لكنّي أقلعت منذ مدّة عن الحديث عن السواقي الآسنة في الوقت الذي جفّ فيه النهر وتبخّر، أي بمعنى آخر، وكما تقول الحكمة الصوفيّة: «لن يُدهش المرء من ضخامة قدم الفيل عندما يرى الفيل كلّه»، لذلك أعتبر أنّ الحديث اليوم عن السينما السورية، ومؤسّستها العامّة، إنّما هو إلهاء لنا للخوض في مسائل جانبية أضحى الكلام فيها ممجوجاً ومكروراً؛ واحتجاجاً كربلائيّاً يندب قضيّة فرعيّة لا حلّ لها أصلاً ما لم يتدفّق في شرايين المجتمع من جديد ماء طاهر يجرف معه العلق الجاثم في أحشائه منذ سنين، فنحن كسينمائيين نتمنّى للسينما السورية ألا تدنّس نفسها بالمال الحرام، وأن تكون ناصعة ونظيفة غير متواطئة مع خراب البلد ومسبّبيه، لكنّ ثمّة ما يعيبنا نحن أيضاً معشر السينمائيين وهي فرقتنا وعجزنا المؤسف عن جمع أنفسنا من جديد، لتشكيل جبهة سينمائيّة كانت في يوم من الأيّام عصب الثقافة في مواجهة رموز الخراب ومقصّاته.
÷ المخرج السينمائي الرّاحل مصطفى العقاد قال عندما شاهد أحد أفلام رفاق دربك من المخرجين السوريين: «أشعر بالصّدمة لما في هذه الأفلام من تعميم لرموز فردية تطرح أفكاراً تُسيء للسوريين في الخارج». كيف تدفع السينما اليوم، والتسجيلية منها خاصةً، عن نفسها شبهات واتهاماتٍ كهذه، أقلّها انتقاؤها السلبي لموضوعات سمّاها العقاد بـ «واقعية فضائحية تشهّر وتشوّه وتعرض الغسيل الوسخ خارج البلد»؟
ـ إن أجبتكَ على هذا السؤال فإنّي سأناقض نفسي حتماً، وألحسّ كلامي السّابق الذي قلته لك، وهذا سيضعني في مفارقة بيني وبين تصوّري السّابق الذي عبّرت فيه عن عجزنا الفعلي في إمكانية فعل شيء ذي جدوى في الوقت الحاضر لإصلاح خراب الواقع الذي نحن فيه. والخلاص برأيي، إذا عدنا إلى السينما، سيكون حتماً فرديّاً، لأنّ في نهاية المطاف الفعل الحقيقيّ بالنسبة لأيّ سينمائيّ هو أن يصنع فيلماً، ونحن اليوم أبعد ما نكون عن تلك الحالة الحماسيّة التي كنّا عليها قبل سنوات فائتة، حين كنّا نشكّل جبهة متماسكة موحّدة، وكانت لدينا مطالب واضحة وصارمة، فالسينمائيون السوريون كانوا دائماً ـ وليحتجّ هنا من يريد أن يحتجّ ـ في الخطّ الأمامي الأوّل على صعيد المطالب المهنية، ومعارضة سياسات الدولة المجحفة في مجالات السينما والثقافة والسياسة، كانوا دائماً في مقدّمة المدافعين عن حقوق الإنسان في بلدهم، وحريّة التعبير فيه، وذلك قبل زملائهم الأدباء والشعراء والمسرحيين والموسيقيين والتشكيليين. كنّا دائماً في المقدّمة، وكان صوتنا هو الأعلى في مماحكة السّلطة لسنين طويلة، لكنّنا لا نستطيع اليوم أن ندّعي بأننا استطعنا الاستمرار، لأنّ الفساد نخرنا مع الأسف من الداخل، مثلنا مثل الجميع، فطال الفساد سينمائيين كانوا في السّابق معارضين، وعملوا معنا لسنين، فإذ بهم اليوم يرضون بفتات ما تقدّمه لهم مؤسّسة السينما عوض أن يتضامنوا مع زملائهم الآخرين لإصلاح أحوال السينما والسينمائيين في بلدهم، لكنّ عدالة الفنّ، لحسن الحظّ، كانت لهم ولأفلامهم بالمرصاد، فجاءت أعمالهم على صورة تخاذلهم وتخلّيهم عن قضيتهم الأساس في صون مهنتهم، حين تحوّلوا بدورهم إلى مواطنين بائسين في «جمهورية كول وشكور». أمّا تّجارب السينمائيين الشباب في المؤسّسة، فإنّي أخاف عليهم أن يظنّوا لوهلة أنّهم أذكى وأشطر ممّن سبقهم في تسليك أمورهم في زمن مفخّخ أكثر ممّا مضى بالمغريات الكاذبة، وأنّ يعتقدوا أنّ باستطاعتهم أن يتنطّعوا لموضوعات في غاية الحسّاسيّة والتعقيد وهم غارقون في بحر التسويات ومخاتلة الحقائق، وعليهم أن يعلموا أنّ ما من شيء يستطيع أنّ يحصّن أفلامهم من وباء الزمن الذي يعيشون فيه إن لم يتذكّروا أنّ في الفنّ دائماً مناعة ذاتية تحميه من الدّخلاء والمدّعين، مناعة سلّح الفنّ نفسه بها بحيث لا ينطلي عليه لا الكذب ولا النفاق ولا الادّعاء.
(دمشق)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى