يوميـــات الانتفـاضـــة: نيـــرون يحـــرق مصـــر
ابراهيم عبد المجيد
أجل كنت شاهدا على هذه الثورة العظيمة لشباب مصر. وشاهدا لما فعله نظام مبارك من حرق لمصر.
الثلاثاء الخامس والعشرين من يناير يوم الشرطة المصرية الذي يناسب ذكرى مقاومة فريق من الشرطة المصرية للانجليز عام 1952 في مدينة الاسماعيلية وصار عيدا يحتفل به كل المصريين. إلا أن الشرطة المصرية على طول تاريخها بعد ثورة يوليو 1952 كانت أشد قسوة على الشعب المصري من الاستعمار الانجليزي. وبلغت قسوتها مداها خلال الثلاثين سنة الماضية من حكم الرئيس مبارك الذي يحكم تحت مظلة قانون الطوارئ الذي يتيح لأي رجل من رجال الشرطة أن يقبض على أي شخص ويودعه في السجن بلا اتهام واضح واصبح تعذيب الناس في اقسام البوليس امرا عاديا وصل الى حد تعذيب النساء ايضا.غير التعذيب صارت الشرطة تعني الفساد والرشوة فأنت لا تسستطيع عمل أي شيء دون رشوة الشرطة. وازداد الفساد لانه وصل الى طائفة تسمى أمناء الشرطة وهي رتبة اقل من الضابط واكبر من الجندي. صاروا عبئا على كل الفئات الاجتماعية بطلباتهم التي لا تنتهي من الرشوة والجباية. وبين هذا الجهاز ووفقا لقانون الطوارئ صار جهاز امن الدولة يتحكم في كل شيء. وهو الجهاز الاكبر في الشرطة. صحيح انه بعيد عن الرشوة التي استشرت في الاجهزة الاخرى لكنه صار المتحكم في كل شيء. فلا وظيفة لرئيس تحرير او مدير عام في مصلحة او معيد في الجامعة او رئيس للجامعة او شيخ في المسجد يمكن ان تتم بعيدا عن موافقة امن الدولة وبالطبع انشاء صحيفة او دار للنشر. باختصار تضخم هذا الجهاز الذي كان معنيا بالسياسيين في عهد عبد الناصر ليصبح معنيا بكل شيء في البلاد.
لقد اختار المتظاهرون الثلاثاء خمسة وعشرين يناير فيما يبدو لتكون الشرطة رؤوفة بهم يوم عيدهم ولا تلوث هذا اليوم بضربهم والاعتداء عليهم.
الشرطة تندس
كنت يوم الثلاثاء في مكاني المفضل في منطقة وسط البلد. مقهي ريش الشهير او مقهي زهرة البستان القريب. وعندما اندلعت المظاهرات لم تتدخل فيها الشرطة حتى الساعة الثالثة حين اذيع بيان في التليفزيون المصري يقول أن عناصر من الاخوان المسلمين قد اندسوا بين المتظاهرين وسيقومون بالتخريب. لقد اندس عدد من الشرطة السرية بين المتظاهرين وراحوا يقذفون رجال الشرطة بالحجارة لترد على المتظاهرين جميعا، ولكن سرعان ما سيطر عليهم المتظاهرون وفشلت الخطة. كان واضحا ان الشرطة ستستخدم فزاعة الاخوان المسلمين التي تخيف الغرب لتفعل بالمتظاهرين ما تريد وتستخدم بعض رجالها في الثياب المدنية لتشعل المعركة لكن فشلت الخطة وظل المتظاهرون يتجمعون في ميدان التحرير.
كان الأمر مختلفا في مدن أخرى مثل السويس والاسكندرية والمحلة الكبرى حيث قامت الشرطة باستخدام القنابل المسيلة للدموع والرصاص الحي والمطاطي فوقع شهداء لم يقع مثلهم في القاهرة التي تحت سمع وبصر الإعلام والصحافة العالمية.
بعد منتصف الليل قامت الشرطة بهجوم كبير بالمدرعات استطاعت فيه إنهاء المظاهرة الكبرى في ميدان التحرير، وقبضت بشكل عشوائي على مئات من المتظاهرين وغير المتظاهرين أودعتهم معسكرات للشرطة بعيدا عن القاهرة.
يوما الأربعاء والخميس مرا مرورا عاديا في القاهرة لكن المظاهرات وقتل المتظاهرين استمرت في السويس والاسكندرية. بل أفرجت الشرطة في القاهرة عن كثير من المعتقلين. لكن الشباب تراسلوا على صفحات الفيس بوك وتويتر وغيرها ان يكون يوم الجمعة هو يوم الغضب، بعد صلاة الجمعة وفي الظهيرة مباشرة. يوم الخميس انقطع الانترنت في مصر بعد منتصف الليل وانقطع الفيس بوك واغلق موقع تويتر. كانت الدولة يوم الثلاثاء قد قطعت الاتصال بالتليفون المحمول عن منطقة نصف البلد فقط أما الآن فقد اوقفت الشبكات التليفونية للمحمول والانترنت. لكن الموعد الذي سبق تحديده بعد صلاة الجمعة لا يخطئ فيه أحد.
وصلت الى منطقة وسط البلد كالعادة في الحادية عشرة صباحا فوجدت الشوارع مغلقة بقوات الشرطة من كل ناحية. قوات الامن المركزي التي تزيد عن 2 مليون مجند هم عادة من فقراء الفلاحين تتم لهم عمليات غسيل مخ فيعتبرون أن المتظاهرين كفارا أو شيوعيين. ومن غير ذلك ايضا هم لا يستطيعون مخالفة اوامر ضباطهم. لكن رغم هذه الحشود الامنية لم يكن ممكنا منع الناس عن الصلاة إلا في بعض الجوامع الكبرى. انتهت الصلاة وكنت جالسا في مقهى البستان القريب من مقهى ريش فإذا بالمصلين ينتفضون بالشعارات المعادية للرئيس مبارك ونظامه من جميع الجوامع القريبة لكنهم لم يستطيعوا التجمع ابدا في ميدان التحرير حيث تقطع الشرطة ورجالها عليهم كل طريق. كانت النتيجة انهم انتشروا في كل طرق نصف البلد الهامة ومشيت مع بعضهم اتابع الموقف واطلقت قنابل الغاز المسيل للدموع بكميات مرعبة لا يتخيلها بشر. ربما عشرات الآلاف من القنابل. بحيث صار الفضاء في كل الشوارع أبيض ورائحة الغاز تخنق الجميع وظهرت في ايدي الشباب زجاجات الخل وثمار البصل وعلب البيبسي كولا التي تساعد على ضياع اثر القنابل المسيلة للدموع. وكان من قبل قد وصلت لكل مشتركي الفيس بوك نصائح من الشباب التونسي باستخدام هذه الاشياء في مقاومة الغاز. أصابني ما اصاب الجميع لكن عمري وقوتي لم يحتملا فسقطت على الارض لكن قبل سقوطي كنت جريت الى مقهي ريش الذي كان يفتح بابه على حذر ودخلت واغلقوا الباب. هناك سقطت وهناك استعدت قوتي بعد دقائق وخرجت اتابع الموقف. ابتعدت عن منطقة نصف البلد الى منطقة «معروف» القريبة فوجدت الشرطة تطارد المتظاهرين ويتقدمهم بلطجية ومجرمون تابعون للبوليس وفي لحظة دخلت الى احدى العمارات ومعي زوجتي واغلق بوّاب العمارة بابها لكن البلطجية والقتلة الذين اطلقتهم الشرطة يحملون سيوفا وبلطات – جمع بلطة – كسروا الباب خلفنا فصعدنا الى الدور الثالث ولم ينقذنا منهم إلا شباب العمارة الذين قذفوهم بكل ما يستطيعون وإحدى السيدات التي فتحت لنا الباب لنختبئ عندها حتى ينتهي الامر. اندهشت جدا كيف يطاردونني وانا في هذه السن ومعي زوجتي ولا يبدو علي أنني اشترك في القتال ضدهم.. تابعت التليفزيون لدقائق عند السيدة التي فتحت لنا الباب وكانت الساعة الرابعة والنصف تقريبا فوجدت جميع قنوات التليفزيون المصري تتحدث عن تخريب بدأ المتظاهرون يمارسونه فادركت ان الدولة ستستخدم طريقتها التقليدية التي اتبعها الرئيس السادات مع مظاهرات الخبز عام 1977 حين ارسلت الشرطة المتعاونين معها من المجرمين لسرقة محلات شارع الهرم ثم ألصقت التهمة بالمتظاهرين. ولم تمر ثلاثون دقيقة حتى انسحب البوليس فجأة من الشوارع وبدأت العصابات المنظمة تقوم بعملها في حرق ونهب البلاد. كان ما أذاعه التليفزيون المصري عن ذلك فيما يبدو هو الشيفرة السرية التي بعدها ينسحب الجنود ويخلو الامر للصوص والمجرمين وقطاع الطرق وهم السلاح السري للشرطة التي تسيطر به على الانتخابات البرلمانية والرئاسية وغيرها.
استطاع المتظاهرون الوصول الى ميدان التحرير إذن واستمرت الاخبار تأتي بحوادث السرقة والحرق. حاول البلطجية حرق المتحف المصري الذي اقام حوله المتظاهرون درعا بشريا لحمايته ولقد رايت ذلك بنفسي وامسكوا اللصوص الذين حاولوا سرقته وكانوا للاسف من رجال الشرطة في زي مدني سلمهم المتظاهرون لقوات الجيش التي نزلت الى الشوارع.
لم يكن هناك شيء ليلة السبت غير الاخبار التي تأتي من كل البلاد وخاصة الاسكندرية والسويس حيث سيطر المتظاهرون على كل شيء واخبار الحرائق التي يقوم بها رجال الشرطة من البلطجية والقتلة واخبار السجون التي فتحت للمجرمين للخروج في جميع انحاء البلاد.
نكات المتظاهرين
نهار السبت لم يكن فيه غير شعارات وهتافات المتظاهرين في ميدان التحرير الذين تجاوزوا المائتي الف. وظهر في المظاهرة اطياف من المصريين. مشايخ وفنانون ومثقفون وطلاب. وكانت السعادة على الجميع لا تنقطع وغابت الشرطة تماما وبدأ الشباب في الاحياء المختلفة يكونون لجانا شعبية لتحمي مساكنهم واهلهم من قطاع الطرق والمجرمين الذين اطلقتهم الشرطة من كل مكان. في المساء بدأ البعض يحتشدون حول وزارة الداخلية وكان واضحا انه لا يمكن اقتحامها لوجود سورها العالي ولوجود الجيش حولها لكن القناصة فوق الوزارة من قوات الشرطة كانوا يطلقون الرصاص الحي طول الليل مساء السبت حتى صباح الاحد وقتلوا أكثر من خمسين شابا متظاهرا تلك الليلة لكن ذلك لم يمنع المظاهرات الكبرى التي صارت في ميدان التحرير الان من الاستمرار في الهتاف بسقوط النظام بسرعة. صارت هناك لافتات صغيرة من الورق العادي وبسرعة بدأت خفة دم المصريين في الظهور وروح الفكاهة فظهرت لافتات من نوع «كيلو اللحمة بميت جنيه ومتر مدينتي بنص جنيه» يشيرون الى اراضي الدولة التي وزعها النظام على اصدقائه من رجال الاعمال، تقريبا بلا ثمن. ولافتات مثل «إمشي بأه ياعم وخلي عندك دم «. وفي صباح الاحد ازدادت اللافتات الفكهة من نوع «إمشي بأه دراعي وجعني» يعني لقد تعبت من حمل اللافتة التي هي من الورق و«رئيس مستعمل + خلاط بخمسة وعشرين جنيه» في الوقت الذي لا تتوقف الهتافات «الشعب يريد اسقاط النظام» و«الشعب يريد محاكمة النظام» «ومسلم ومسيحي ايد واحدة « وكان هناك تركيز كبير على هذا الشعار وبدا أن الثورة وليست المظاهرة الآن، قد صارت هي بيت المصريين جميعا فامتلأت بالنساء والفتيات ولم تحدث واقعة تحرش جنسي واحدة بين مئات الالاف من المتظاهرين ولا حادثة سرقة وبدأت البيوت التي تحيط بالميدان تلقي لهم بزجاجات المياه المعدنية ليشربوا وبدأ الكثيرون منهم يخرجون ليشتروا بكل ما يملكون من مال طعاما للجميع وأتت الاخبار من كل البلاد ان الثوار قد سيطروا عليها واختفت الشرطة وبدأ الشباب يضحكون مع رجال الجيش ويعتلون الدبابات ويرقصون ويكتبون عليها شعارات تدعوا لسقوط مبارك وبالليل حين كنت اعود الى بيت أحد معارفي في منطقة عابدين لانام حيث يبعد بيتي كثيرا عن القاهرة رأيت شباب مصر ينظم الحركة ويفتش كل السيارات ويمسك باللصوص الذين نهبوا المولات والمحلات ويسلمونهم للجيش. رايت ذلك كثيرا بالنهار والليل ورأيتهم ايضا يمسكون بجنود الأمن المركزي الذين فروا من وزارة الداخلية بعد أن فر منها قياداتها لكنهم لا يضربونهم بل يقدمون اليهم الطعام وكانوا بالمئات لا يصدقون ان المتظاهرين يمكن ان يفعلوا ذلك. ويطاردون ايضا السيارات المجهولة التي صارت تظهر بالليل تطلق الرصاص على المارة وكانت في معظمها سيارات مرسيدس وجيب وجرانــد شيــروكي مما يشير الى اصحابها من رجــال الاعمـال الذين قدموها لرجال الشرطة ليثيــروا الرعــب في الشوارع. كان المتظاهرون يتعرفون على جنــود الأمن المركزي بسهولة حيث خلعوا احذيــتهم وملابسهم الرسمية وحاولوا العودة الى بلادهم في الريف..
خطاب الرئيس
مساء الاحد خطب الرئيس حسني مبارك لكنه لم يقدم شيئا للمتظاهرين. لقد غير الوزارة وعين نائبا له هو الفريق عمر سليمان من جهاز المخابرات ورئيس وزراء هو احمد شفيق ضابط الطيران السابق لكن كان واضحا انه لن يغير الدستور ولن يحاسب احدا ممن قتل الناس أو نهب ثروة مصر فازدادت الثورة وتقرر ان يكون يوم الثلاثاء هو يوم المظاهرة المليونية وبالفعل احتشد في الميدان ثلاثة ملايين على الاقل وراحوا يهتفون بسقوطه ونظامه ويغنون وانطلقت اغنيات الشيخ امام وعبد الحليم حافظ ومحمد منير الوطنية واغنية داليدا «حلوة يا بلدي» وكان يوما حافلا بالأمل. كانت الوزارة الجديدة تحوي اكثر من عشرين اسما من الوزراء القدامى الذين اذلوا الشعب وبالذات وزير التموين ووزير الاعلام الذي حول الاذاعة والتليفزيون للجهل والاكاذيب وكان واضحا انه لا يمكن الحوار مع هذه الوزارة الجديدة وهو ما طلبه الرئيس ان يحدث بين المتظاهرين ونائبه. خطب الرئيس خطبته الثانية التي اعلن فيها انه لن يترشح للرئاسة مرة اخرى لكنه لم يشر الى ان ابنه جمال لن يترشح وانه طلب من مجلسي الشعب والشوري تغيير مادتي الدستور 76 و 78 والأولى تجعل ترشيح الرئيس الى الابد والثانية تجعل الترشيح من اصعب المهام على غير اعضاء الحزب الوطني لم يشر الى المادة التي تمنع الاشراف القضائي ولم يشر مرة اخرى الى الفساد والمفسدين وإلى اموال الشعب المنهوبة عبر ثلاثين سنة. ولم يقل كلمة عن الذين قتلوا شباب الثوار ولا عن اهلهم يعزيهم . كان من الطبيعي ان يرفض الثوار الخطاب رغم ان عددا كبيرا منهم قبله وبالذات حين استرّق الرئيس عطف الناس بقوله انه مصري وسيموت في ارض مصر. كان من الممكن بدلا ان ينتظر رجال الدولة ان يفاوضهم أحد ان يذهبوا هم الى الثوار خاصة في اليوم التالي لخطاب الرئيس، الاربعاء، الذي لم يكن مفاجئا لاحد انه منذ منتصف الليل يتم جمع البلطجية والفقراء والمتسولين عند مبنى الاذاعة والتليفزيون ويصرفون لكل منهم خمسين جنيها ووجبة طعام وكذلك الامر في مقرات الحزب الوطني بالقاهرة بالاضافة الى السكاكين والعصي والسيوف والبلطات. وما كاد اليوم يشرق حتى حاصرهؤلاء القتلة الثوار واستعانوا أيضا بالخيل والجمال لمهاجمتهم ولقد وصف احد الثوار مبارك انه مثل «ابرهة الحبشي» الذي غزا مكة وأراد حرق «الكعبة» وهو يركب الجمال هو وجيشه. اجل ميدان التحرير هو كعبة الثوار في كل العصور. لم ينته اليوم وانا الان اكتب المقال ليلة الخميس والساعة الان الثالثة فجرا ولايزال الغزاة يهاجمون الميدان وهناك اكثر من الفي جريح وعشرات المقتولين وانتشرت الاخبار ان وراء ذلك كله صفوت الشريف رئيس الحزب الوطني القديم وعدد من رجال الاعمال ووزير البترول سامح فهمي الذي اخرج العمال من الشركات نظير مبالغ مالية ضخمة ليقضوا على اعظم واجمل الثوار في تاريخ مصر كله. ولا يزال الثوار يقاومون ولا يزال حسني مبارك لا يتدخل لايقاف المجزرة ولا نائبه عمر سليمان ولا رئيس وزرائه الجديد احمد شفيق ولا وزير داخليته الجديد الذين كان ممكنا لهم انهاء المجزرة بأمر المهاجمين من المرتزقة والقتلة بالابتعاد عن الثوار. لكنها مصر في عهد مبارك وحزبه الوطني حولها الى بلاد لقطاع الطرق والفاسدين والقتلة من كل نوع. وماذا بعد قتل الثوار، هل سيــنعم مبارك بالحكم ؟ هو يتصور ذلك؟
ذلك لن يحدث.
لقد عرف الشعب طريق الثورة، واذا عجز ستنفجر مصر بجماعات الإرهاب تقتص للشهداء وتأخذ ثأرهم.
لقد حرق حسني مبارك ورجاله على اختلاف أنواعهم مصر وشبابها. ليس في مصر للاسف نيرون واحد ولكن كل رجال الحكم هم نيرون الذي يتباهى بحرق الوطن.
(كاتب مصري)