صفحات سورية

تعابير غير سياسية

null
حسام عيتاني
عشرات الأسر اللبنانية والفلسطينية ستتمكن من توديع أحبائها الوداع اللائق الذي يستحقون، عندما تعود جثامينهم من فلسطين التي قضوا في سبيلها وفي سبيل تحرير لبنان. واللبنانيون عموما سيتنفسون براحة أكبر عند طي ملف الاسرى والشهداء مع إتمام عملية التبادل في الايام او الاسابيع المقبلة.
هي لحظة وطنية تساهم في اعادة رسم معنى لبنان وتحديد هويته التي دافع عنها شبان من مختلف مناطق الوطن وقواه وطوائفه. وبدفاعهم واستشهادهم كما بعودتهم بعد طول غياب، خلقوا ملامح هوية جديدة، ربما لم تكن حاضرة في بالهم عندما قرروا المضي في درب القتال ضد اسرائيل. مخاض الهوية الجديدة لم ينته، غير انه تجاوز بفضل شهادات الالاف من اللبنانيين والفلسطينيين أفخاخا وكمائن نصبت وتنصب امام لبنان.
بيد ان ذلك لا يعني بحال نهاية الصراع بين لبنان واسرائيل، لاسباب منها ما يخصهما كمزارع شبعا ومستقبل اللاجئين الفلسطينيين والانتهاكات الاسرائيلية اليومية للاجواء اللبنانية وما شاكل، ومنها ما يتعلق بمجمل الوضع الاقليمي والدولي وموقع لبنان الذي يفرض عليه ان يكون، برغبته او بالرغم عنه، ساحة لتنفيس الاحتقانات او تفجيرها.
على هذه الخلفية، ثمة ما يستدعي قلقا. ان التعابير المستخدمة في الاعوام القليلة الماضية في لبنان تشي بتحول كبير في طبيعة الصراع، على الاقل في اذهان المنخرطين مباشرة فيه. لقد باتت كلمات مثل «الكرامة» و«الذل» و«الرأس المرفوع» و«التمسك بالكلمة» وغيرها، تتردد بكثرة على ألسنة مسؤولين في المقاومة واعلاميين ومواطنين.
المسائل المعنوية لا تغيب عن أي من الصراعات والحروب، خصوصا من النوع الذي يتميز بالمرارة والتمدد في المكان والزمان، على غرار الصراع مع اسرائيل. ومن غايات كل المتحاربين الرفع من قيمة الذات وتحقير العدو والتدليل على مثالبه ونقاط ضعفه وانعدام الوازع الاخلاقي لديه وغير ذلك. لكن تمادي هذا الاسلوب يشير الى امر غير صحي في الطريقة التي يدار بها الصراع.
ان الاصرار على اضفاء سمات اخلاقية بعضها مستمد من القاموس الديني وبعضها الآخر يمت بصلة نسب الى جعبة التعابير القبلية والعشائرية، عند تناول حال هذا الطرف او ذاك، يعلن عن فقر مقابل في القاموس السياسي. هذا الى جانب مسألة لا تقل أهمية قوامها وضع الصراع اللبناني ـ الاسرائيلي واستطرادا العربي ـ الاسرائيلي في خانة التناقضات الاخلاقية والدينية التي لا حل لها ولا علاج الا الحرب الى قيام الساعة.
ولعل من المفيد التساؤل عن معنى «إنزال الذل» بالعدو، على سبيل المثال، جراء صفقة التبادل المقبلة. سيقول قائل ان العدو قد سبق وأذاقنا من الذل ألوانا وان الوقت حان لنعيد كيده الى نحره. وفي هذا نظرة وجيهة. في المقابل، يبدو ان التنبؤ بقرب زوال دولة اسرائيل ـ وهو ككل تنبؤ منوط بإرادات الغيب وليس بقدرات البشر ـ كان النتيجة الوحيدة للانزلاق الى متاهات تبخيس العدو وحرمانه من الصفات البشرية وسحب الصفة السياسية عن صراع قابل للادراك عقلانيا بمعنى تحديد نقاط الاختلاف بين طرفين تنهض بينهما حالة عداء ويعملان على إنهائها سواء سلما او حربا، من دون ان يكونا اسيري أي وسيلة كانت في معالجة عدائهما، على خلاف ما يعلنه غلاة المفاوضين والممانعين، كل من ناحيته.
غني عن البيان ان المقاربة التي تنفي عن الصراع جوهره السياسي، تقف على نقيض ما اتفق العرب عليه سواء لناحية الطبيعة السياسية للصراع وبالتالي رفض اللعب في ملعب الحرب بين الاسلام واليهودية من جهة، والتسليم بأن هذا الصراع يجب ان يجد حلا عادلا من خلال عملية سياسية، من جهة ثانية. يمكن استنتاج هذه العناوين ليس من مواقف دول وقوى عربية بعينها، بل من خلال تطور النظرة العربية العامة الى الصراع منذ النكبة حتى يومنا هذا.
ما يدعو اليه حملة التوصيف الاخلاقي ـ الديني للصراع العربي الاسرائيلي، يدفع الى الاعتقاد بوجود ما يفيض عن الحاجة الايديولوجية الى توفير مرتكزات لعداء مستديم مع اسرائيل، ويصل الى حدود توفير الارضية لتوظيف الصراع العربي الاسرائيلي في جداول اعمال اوسع وابعد، من جهة، وتعزيز أدوار ومواقع جماعات لبنانية في العلاقات الداخلية. بكلمات أخرى، ان المسألة التي ينبغي ان تؤخذ في الاعتبار هنا تتصل في الدرجة الاولى بمصالح اللبنانيين والفلسطينيين قبل اتصالها بالصواب الايديولوجي لهذا الفريق او ذاك، او بدوره في السلطة وتحديد مستقبله ومستقبلها. هذا ناهيك عما يبدو كعودة الى مصطلحات رافقت الطفولة السياسية العربية التي فوجئت بنقصها المعرفي امام عدو يأتي من خلفية سياسية وتنظيمية غربية متطورة.
يحيل التمسك بمفردات غير سياسية (اذا جاز التعبير) في معرض الحديث عن صراع سياسي، الى تساؤل عن طبيعة الثقافة التي تصدر عنها القوى التي تتولى الامساك بدفة قيادة الصراع ضد اسرائيل في لبنان وفي العالم العربي. وهذا سؤال لا تصعب الاجابة عليه، بل يصعب الاعتراف بقسوة الجواب.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى