أصداء دمشقية: غودو العربي وصل في النهاية
مبدعو دمشق ومثقفوها يعيشون منذ أيّام على وقع الثورة المصريّة. لقد تغيّر مسار الزمن بالنسبة إليهم، فتسمّروا أمام التلفزيون… وانتعشت حلقات النقاش، وبدا ميدان الحريّة قبلة الشعوب العربيّة. هنا شهادات بعض الذين أعادت إليهم «ثورة الغضب» الأمل بالتغيير
خليل صويلح
دمشق ــ يعيش المثقفون السوريون هذه الأيام نشوة بصريّة غير مسبوقة. الصور المتدفقة من أرض الكنانة أعادت إليهم الروح. كانت مصر بوصلتهم إلى جهة الغضب والهتاف وتمجيد الكرامة، منذ أن رفع السوريون للمرة الأولى صورة جمال عبد الناصر في ساحات دمشق، مطالبين بالوحدة. ها هم اليوم يعيشون غضب الشارع المصري، بعدما لفحتهم رياح الحريّة المباغتة التي هبّت عليهم من تونس. ولعلّهم يرددون مع الفاجومي، في قصيدة شهيرة له عن انتصار الفيتكونغ: «جدّوا فوجدوا… زرعوا فحصدوا / وإحنا إيدينا للسمسار».
محمد ملص:
نخبك يا عم جو
لم يكن أمامي أنا المواطن السوري، خلال أيام هذه الانتفاضة في مصر، كما أيام الكرامة التونسية، إلا أن أتسمر أمام شاشة التلفزيون، وأشاهد الصور المتدفقة والمتنقلة من مكان إلى آخر ومن ساحة إلى أخرى. أمّا يوم «جمعة الغضب»، فقد بقيت طوال النهار والليل، قابعاً في مكاني لم أبرحه إطلاقاً. كنت مأخوذاً بالجموع البشرية وهي تتزاحم على موطئ قدم، لتقف في الأمكنة التي كانت محتلة من رجال الأمن بخوذهم وهراواتهم، قبل أن يفرّوا منها. أدهشتني الوجوه السمراء الشاحبة والمنهكة بالشعارات التي ترفعها مكتوبة بأقلام حبرها الجاف، على صفحات شُقّت من الدفاتر المدرسية، أو على قطع كرتون سحبت من حاويات القمامة. قبعت لأشاهد ثانية بعد تونس، ما لم أكن قد رأيته في شوارعنا منذ زمن طويل. ناديت ابني الصغير ليرى معي ما لم يرَه بعد. رأينا العجائز من الرجال والنساء يتكئون على العصي ويصرخون «لا». رأينا بنات صغيرات يحملن أعلام مصر ويبحثن عن أسماء، تلك الصبية التي لا يعرفن ملامحها، ليقلن لها نحن «معتصمات» معك. رأينا شباباً يقتحمون الحواجز ورؤوسهم مدمّاة، وعلى صدورهم آثار الجنازير. رأينا سيارة الأمن المركزي تدهس متظاهراً، فصرخنا وكدنا نقتحم الشاشة لننقذه. كل الوجوه التي رأيناها متّقدة بالغضب، والعيون مشتعلة بالتصميم، والقبضات مفعمة بالعزيمة. في اللقطة العامة، شاهدنا الجموع المحتشدة والمتراصة، فتذكرنا كم هي تشبه تلك الحشود التي كانت في شارع الحبيب بورقيبة في تونس. كان ابني يشاهد التظاهرات، ويتهجى الشعارات بصوت عال، لكنها اليوم تحولت عنده إلى نشيد. وقد سعدت كثيراً حين أيقظته في الصباح، ففتح عينيه وهو يردد شعار «ارحل!». بقي هذا الشعار يتردّد في نفسي ولا يختفي. مصر اليوم، تستعيد كرامتها التي انتهكت، خبزها الذي نهب منها، وتبقر جدران القمع الذي سرق من عمرها أكثر من عشرين عاماً. القاهرة اليوم «منوّرة بأهلها». نخبك يا يوسف شاهين
حازم العظمة:
العدوى ستغمر الشرق
الأهمّ في ما يحدث أنّ شعوبنا هذه ـــــ للمرة الأولى منذ زمن طويل ـــــ صار لها ما يلهمها وما يعيد لها، ولنا بالتأكيد، الإيمان بالقدرة على الفعل. ما يحدث في مصر، وما حدث ويحدث في تونس، يؤكّد أن هذه الشعوب حيّة ومعاصرة وفيها من الدينامية والعزيمة ما يهزم الخصوم. الشعوب العربية تقتحم الآن التاريخ المعاصر، وتهزم على الأرض، نظريات العنصرية. الدرس الثاني الذي تعلمه الثورة هو أن أنظمة الاستبداد العربي هي ذاتها أنظمة التبعية… لنتأمل إذاً أن العدوى ستنتقل إلى كل زاوية من هذا الشرق.
سمر يزبك:
تحطّمت أسطورة الخوف
انقلبت الطاولة أخيراً! ما كان يقال بين أوساطنا نحن المثقفين عن غياب الدور التنويري للمثقف وفاعليته، صار طي النسيان. نعم نستطيع الآن أن نفهم أكثر أنّ تلك الإرادة القطيعية للشعوب قد دُفنت، انفجرت، وبعدما وُسمت مجتمعاتنا العربية بالخانعة، الحاملة في جيناتها بذور الذل. أثبتت الثورات التي تحصل الآن عقم رؤيتها. ما يحدث في مصر، فعل صحي وشجاع ومسؤول، وتحتاج إليه مجتمعاتنا العربية على السواء، حتى يعيش الناس فيها أبجديات الحياة وبديهياتها، ضمن دولة ودستور وحقوق ومواطنة. تحطّمت أسطورة الخوف والديكتاتوريات التي لا تقهر، وأعتقد أننا اليوم على عتبة مرحلة تاريخية جديدة، سوف تظهر نتائجها لاحقاً.
نبيل المالح:
غودو وصل أخيراً
«الجمهور عايز كده»، حكمة السينما المصرية، باتت حقيقة فعلاً. أثبت الجمهور أنّ أرضه أعلى من سماء حكّامه الذين تمترسوا في وهم السلطة، وبدا كأنّ منطقتنا العربية قد توقفت عن الدوران… لكن ها هو تسونامي جارف يظهر من طاقة عُلّبت طويلاً. ما حدث في تونس، ويحدث في مصر الآن، وباء رائع ومعدِ، لقّح الخريطة العربية النائمة بجرثومته المنعشة كربيع مباغت، فأعاد الاعتبار إلى الممكن. كنتُ في انتظار غودو الذي لا يأتي أبداً، لكن ها هو يأتي الآن…
خالد خليفة:
لسنا أمّة قاصراً
ما يحدث في مصر ومن قبل في تونس، جعلنا نشعر بأنّنا أحياء. أيقظونا من رمادنا، وأعادوا إلينا الروح. لا أستطيع وصف مشاعري حقيقة. أجدني موزعاً بين القلق الفظيع الذي ينتابني على أصدقائي المقيمين في الشارع مع شعبهم منذ اللحظة الأولى، وبين الفخر بهم، والإحساس بالعار أنني لست معهم وبينهم. وليس خافياً على أحد أن نجاح مصر في كسر حاجز الخوف أيقظ الإحساس لدى كل العرب بأننا أمة قد عادت إلى التاريخ مرة أخرى، بعدما أخْرَجَنا الفاسدون منه، وحرمونا طوال عقود من الهواء الضروري للنموّ. نعم نحن اليوم لسنا أمة قاصراً، بل أمة تنهض بكل جلالها، وما يليق بطموحات شعبها اللامحدودة… والأهم من كلّ هذا أن الثورة لم يقدها إسلاميون، بل مثقفون، وأبناء طبقة وسطى بقي قلبها حياً، وبالتالي عادت صورة المثقف كما ينبغي أن تكون. شكراً لقد أنقذتم قلبي من التوقف في اللحظات الأخيرة. وسَيرى العالم أيّ أمّة نحن.
محمد دريوس:
أهل الخير والفكاهة والحياة
الآن يحزم المصريّ سماءً ناضجةً ورجاءً مرهقاً. يحزم المصريّ عهوداً مظلمة وخيلاء عصور أضنتْ خياله، ويمضي إلى حيث يُفضي الفضاء. لا بعد/ لا غدٌ أسير/ لا تتمة تامّة/ فتلك يعرفها منطقيو الفضائيات وبحثةُ الدكاكين الثورية/ نحن أحرارٌ وحسب/ أحرارُ أن لا ورثة خراب بعد ورثة الخراب/ أن لا حرساً جمهورياً سيقرّرُ لنا بعد اليوم حلمنا الجنسي/ أحرار الحرية وأبناؤها اللقطاء/ أحراااااااااااااااااااار/ إلى الجحيم مقتنيات المتحف الوطني وابتهالات زاهي حواس/ إلى الجحيم الأنظمة التي تصلحُ حقاً لمتحف وطني/ أين هو الطاغية؟/ أين طاهي الخبائث الجمهورية؟/ أين أبناؤه وشركاء الفيفتي فيفتي؟/ أين مقصّاته التي عمم بها الشوهة مقياساً؟/ مصريون، مصريو الخير والفكاهة/ مصريو الأمكنة والحياة التي ترفد الحياة/ مصريو الأذان والتكبير في أذني الفجر/ حشودُ ملائكة مخرّبة ولذيذة، آلةٌ ضخمةٌ لإنشاء الحياة.
سامر محمد إسماعيل:
من أين أدخل في الثورة؟
في مصر شاهدتُ الحزن في عيون المصريين، ورأيتُ البشر في مترو القاهرة. لمستُ الصمت المتراكم في الحناجر، ولاحظتُ الحنق المخبوء وضجر الناس من التماثيل المرفوعة فوق رؤوسهم، في ميدان التحرير، وساحة طلعت حرب. وقتها التفتُّ وتذكرت سؤال يحيى جابر: من أي باب سأدخل قاهرة المعز؟ ما يجري في مصر وقبله في تونس ليس مصادفة تاريخية، ولا ريحاً عابرة. إنّه الردّ الحتمي على مرحلة بكاملها. مرحلة بدأت تماماً منذ أن ألغى جمال عبد الناصر الحياة الحزبية، ووزع منافسيه في الجيش على مؤسسات الدولة، ليبعد أي خطر مرتقب بالانقلاب عليه. منذ أن صار لمصر تلك النبرة العسكرية، ومنذ أن خفتت أصوات مثقفي مصر، وغابت واضمحلت، منذ أن سبح السادات في منتجع كامب دايفيد، وأغلق مبارك معبر رفح في وجه الفسطينيين. ما يجري في مصر يدحض عبارة بودلير الشهيرة حين قال: «الثورة تعزز الوهم من خلال التضحية». الثورة المصرية لا تعزز الوهم، بل تخلعه من القلوب. الثورة مبراة هذه الشعوب العربية التي اهتدت أخيراً إلى حقوقها في الحياة وكرامة العيش. الثورة في مصر ستغيّر كل شيء، لا سيما أن المصريين لا يتظاهرون نيابةً عن أحد، مثلهم مثل التونسيين. لا أحد يتظاهر عن أحد، لكلٍّ تظاهرته، ولكلٍّ توقيته الخاص جداً…
الأخبار