هل بقي في سوريا شعب
عبد القادر الجنابي
كثير منا يتساءل ما هذه العلاقة الخفية بين الشعب السوري ونظامه. هذا الانسجام شبه المازوكي بين امرأة وبعلها. النظام السوري واضح في سياسته القمعية والتحطيمية جسميا واقتصاديا وفكريا، فساد أجهزته، سجونه اللا إنسانية على الإطلاق، بحيث مجتمع مبارك المصري جنة بالمقارنة. ومع هذا ليس هناك احتجاج شعبي واحد يذكر… انسجام فريد بين نظام وشعب. مادة دسمة لعلماء الاجتماع الماركسيين والوضعين ورجال الإنشاء.
أمس الجمعة، كانت التلفزيونات، الفضائيات، القنوات، الصحافيون، أعضاء الفيسبوك والويترز، اليوتيوب، العالم كلّه (إلا قناة “الجزيرة”) كان ينتظر أن تندلع، في الشارع السوري، شرارةُ احتجاجٍ حقيقية، ولو طفيفة كومضة. لم يحدث شيءٌ من هذا القبيل. هدوء تام… أهو، يا تُرى، هدوء ما قبل العاصفة؟
هل من المعقول انه ليس هناك حتى شريحة صغيرة، ثقافية؛ طائفية، تجارية… مستاءة من النظام؟ نعم، أعرف أن هناك معارضين بالمئات… لكن، كما أتذكر، عندما تم إخراج السوريين من لبنان بعد مقتل الحريري، لاحظت صمت المعارضين السوريين المطبق، بحيث اضطررت أن أسأل صديقنا الدكتور جورج طرابيشي، لماذا هذا الصمت… أجابني: هناك خط أحمر لا يمكن أن تتجاوزه المعارضة!! كيف؟ تعريف كلمة “معارضة” هو تجاوز الخط الأحمر. لابد أن يكون هناك بعد فينيقي في جواب طرابيشي يصعب علي فهمه.
وصلني، قبل أيام، إيميل فيه بيان عنوانه: المثقفون السوريون يحيّون الشعب المصري”، فأجبت الذي أرسله: ومتى سيُحيَّى الشعب السوري؟
كنت أقلب بعض دفاتري القديمة، فوجدت ترجمة قديمة قمت بها لقصيدة نثرية كتبها الشاعر الالزاسي الدادائي هانز آرب. ربما تفسر سايكولوجية هذه “العلاقة” التي تبدو وكأنها “حميمية” بين نظام وشعبه.. وقد تنطوي على نقيض ينفجر ذات يوم:
ما قبل الطوفان، وفي مدينة شوروباك، عاش الملك العظيم دو-دو. كان حكمه قصيرا. أقصر مدة من سابقيه. إلا أنه كان أكثرهم جوعا، فقد حكم مجرد 18600 سنة. وطوال هذه المدة كان يلتهم بلا انقطاع. عاش بانسجام كبير مع شعبه. هو أحبَّ أن يفترسهم، وهم أحبوا أن يَفترِسَهم. كان يقف كل يوم أمام بوابة الافتراس الكبيرة لقصره، صارخا، بصوت مرتجف جوعا:
– واليوم كذلك، أحمل إليكم أنباء سارة. لدي جوع حاد. سألتهمكم نيئا، حساء أو شواء.
أهتاج جميعهم من الفرح، تعانقوا، وبكوا من السعادة صائحين: “تو – تو – لي – سا – بال – تو – تو – لي – سا – بال”. والتي تعني بالضبط: “انصتوا، انصتوا إلى الأنباء السارة”.
طلب الملك العظيم دو – دو، مرارا، أن يناولوه شوكة محمّلة بأيادي بشرية حية متلهفة للتلقف، وملعقة حساء ضخمة من عيدان الصفصاف كثيرا ما غرغر دمهم حساء من خلالها وخر بسرور، وسكينة كأنها منجل ذو يدين.
وغالبا ما كان يأكل شعبه المحبوب نيئا.
– قليل من الصبر، ليس في مقدوري التهامكم جميعا مرة واحدة. لن أنسى أحدا منكم.
أحبَّ كل واحد منهم أن يكون الأول، ولم يرد أيٌّ منهم الانتظار فاندفعوا جميعا إلى الأمام لينال كل منهم شرف أول المُلتًهَمين. هكذا عاد دو – دو، الملك العظيم، جسيما وسمينا. كان بوزه كبيرا مثل بوابة مدينة. طفق يلتهم بلا انقطاع إلى أن اندفع أخيرهم مارا ببوزه نحو معدته، وصراخه ينم عن الفرح. وعندما لم يبق أحدٌ للالتهام، رأى الملك دو – دو أن حياته قد انتهت… فيبس وتفتت ترابا”.
الأمل، إذن، في من بقوا من الشعب السوري.
ايلاف