الثورة في تونس وفي مصر بين القطع البنيوي والقطع التطوري
منذر خدام
من الفضائل الكثيرة للثورة في تونس وخصوصاً للثورة في مصر أنها خلقت موضوعا جديداً وكبيراً جدا للمشتغلين في الحقل الفكري والسياسي، سوف يشغل فراغاتهم العقلية المتسعة، ويعيد السيولة إلى محابرهم التي كادت أن تخثر لقلة الاستخدام، أو يبهت لون السائل فيها لكثرة اجترار المنهجيات القديمة في مقاربة قضايا الثورة في كلا البلدين، والانتفاضات المفضية إلى الثورة في بقية الدول العربية. وأكثر من ذلك فهي قد خلقت موضوعات كثيرة ومتنوعة للعاملين في مجال الإعلام، والأدب، والفن، وفي مجال العلوم الاجتماعية المختلفة… فالثورة لا تكون كذلك إذا لم تشغل جميع حقول المعرفة والسلوك على حد سواء.
وبالفعل لا تخلو وسيلة إعلامية من أخبار الثورات العربية، وهي تلهث لتوصيف ما يجري، وتكاد تكون الصفحات الثقافية في وسائل الإعلام المكتوبة قد حجزت للكتابة عن هذه الثورات لأمد طويل في المستقبل. ومما لا شك فيه أيضاً بأن الدوريات الفكرية تستعد لتخصيص أعداد غير معروفة من إصداراتها عن هذه الثورات والقضايا التي أثارتها…وإن مؤلفي الكتب قد وجدوا عملا إضافياً.
وبالانتقال إلى حقول التفكير اليومي، فإن قضايا الثورة صارت الموضوع الوحيد تقريبا الذي تنعقد حوله مسايا الناس وحلقات سمرهم، ولأول مرة حلت محل لعب الشدة والنرد وغيرها في المقاهي، وصارت تزاحم موضوعات الحب والصداقة في خلوات العشاق، وتنافس الدروس على الفوز بالوقت لدى التلاميذ والطلاب في المدارس والجامعات. باختصار صارت الثورة قضيتنا جميعاً، مجددة الروح فينا، شاحذة العزم في إراداتنا، صارخة فينا ” ارفع رأسك إنك عربي… إنك في التاريخ فاعل…. وإذ تفعل فإنك تقدم ما لم يقدمه غيرك…إنها الثورة الكاملة …. الثورة التي سوف يهتدي بها التاريخ في تمرحله وفي تدوينه لوقائعه…. إنها ثورتك… أرفع رأسك أيها العربي، واصرخ ليسمع الكون …أنا تونسي..أنا مصري .. أنا ليبي.. أنا بحريني…أنا سوري… أنا من المحيط إلى الخليج.. أنا عربي”.
وحتى لا يأخذنا الحماس بعيدا عن ميدان التفكير الهادئ والرصين، إلى فضاء الشعارات الصاخب، بودي أن أعرض في هذه المقالة نوعا من التفسير لأسباب الثورة في تونس وفي مصر وفي غيرهما من الدول العربية، محاولا اختبار منهجية كنت قد طورتها منذ أكثر من عشرين عاماً، في كتاب لي غير منشور بعنوان ” في المنهج: دراسة نقدية في الفكر الماركسي”. لكن قبل ذلك بودي تسجيل الملاحظات الآتية:
الملاحظة الأولى؛ كثرت الحوارات في الآونة الأخيرة، حول الثورة في تونس وفي مصر، وحول الانتفاضات الشعبية في العديد من الدول العربية ، حول أسبابها ونتائجها المحققة والمحتملة، حول أدواتها وقابليتها للتعميم في ظروف أخرى، وقد أدهشني التنوع الكبير في الآراء، حول الأسباب الكامنة خلفها.البعض يعتبر أن مسألة الفقر وسوء توزيع الثروة وانتشار البطالة،هي التي حركت الجماهير لكي تثور على حكامها، وبعض آخر اعتبر مسألة استعادة الكرامة المهدورة هي السبب، وفئة ثالثة تجد في قضية فلسطين وما تعرض له الفلسطينيون من مجازر وإذلال السبب، وهناك من وجد في الهيمنة الأمريكية سبباً.. بلا شك أن لجميع هذه القضايا حضورها ودورها في الانتفاضات الشعبية التي تجتاح الدول العربية بدرجات مختلفة . لكن السبب الأكثر عمومية من وجهة نظرنا يكمن في طبيعة النظام السياسي في الدول العربية ودخوله في تناقض كارثي مع ضرورة تطور هذه الدول.
الملاحظة الثانية؛ باعتبار أن الثورة في مفهومها النظري هي عملية مستمرة، وليست حدثاً أو أحداثا منفصلة، فمن المبكر أن تكشف الثورات العربية المشار إليها عن خباياها، وعن ممكناتها النظرية، لذلك فإن مقاربتنا الفكرية لها سوف تكون مفتوحة على أي تعديل يرقى إلى مستوى التعميم النظري، يمكن أن تكشف عنه هذه الثورات في سياق تحققها التاريخي.
ينبغي الاعتراف، بداية، أن الأدب الماركسي يكاد يكون الأدب الوحيد الذي تحدث عن الثورة بالمعنى الاجتماعي، ورغم وحدة مرجعياته إلا أنه شهد تنوعا كبيراً في معالجاته النظرية لمفهوم الثورة، ومارس معتنقوه تطبيقات عملية هي الأخرى كانت متنوعة، ليتبين لا حقاً، في امتحان التاريخ، أنها لم تكن ثورات بالمعنى الماركسي للثورة، أي إنها لم تؤدي إلى قطع بنيوي مع الرأسمالية، بل إلى تطويرها فقط.
تحصل الثورة بحسب الفهم الماركسي عندما يحصل تناقض كارثي بين مستوى تطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج السائدة، يؤسس بدوره لتناقض كارثي بين ما اصطلح على تسميته بالبناء التحتي والبناء الفوقي بمستوياته المختلفة السياسية والاجتماعية والأيديولوجية ..الخ. في التطبيق العملي لهذا المفهوم اختلف لينين عن ماركس إلى حد التفارق. لقد رأى ماركس أن الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية( أي حصول الثورة بالمعنى البنيوي على حد قول مهدي عامل) يحصل عندما تستنفذ الرأسمالية قدرتها على تطوير قوى الإنتاج. في فهمنا لهذا القول ما يعني، من ضمن معانيه، امتداد الثورة على كامل الزمن البنيوي للتشكيلة هذا أولا، وثانياً إن حصول لحظة القطع بين تشكيلة وأخرى عملية صيرورة هي الأخرى ممتدة على كامل الزمن البنيوي للتشكيلة. بمعنى آخر إن مفهوم الثورة يطابق في داخله بين عملية نمو وتصير التشكيلة، ونمو وتصير نقيضها.
لقد تحدث ماركس عن الثورة بالمعنى البنيوي(أي كعملية انتقال من تشكيلة اجتماعية اقتصادية إلى تشكيلة أخرى أرقى منها)، ولم يتحدث عن الثورة بالمعنى التطوري.. من جهته لينين خلط بين الثورة بالمعنى التطوري (السياسي) والثورة بالمعنى البنيوي، واعتبر الأولى عملية خلق للثانية، فاخضع بذلك الثورة لفعل إرادوي فج، متوهما أنه يمكنه أن يلوي عنق التاريخ. يقول لينين وهو يساجل المناشفة: ” إذا كانت الثورة الاشتراكية تتطلب وجود مستوى ثقافي معين، فلماذا لا نخلقه بطريقة ثورية”.
مفهوم الثورة بالمعنى التطوري كان غريباً على الماركسية التقليدية(المدرسية)، لكنه يمتلك جميع المقومات لكي يحافظ على تطويره من داخلها. ثمة إشارات جزئية إليه يمكن ملاحظتها عند كاوتسكي في تركيزه على أهمية الاكتشافات العلمية وولادة الفروع الاقتصادية الجديدة في خلق فضاء أرحب بحدود مرنة نسبياً لتطور النظام الاجتماعي الرأسمالي. مثل هذه الإشارات يمكن ملاحظتها عند روزا لوكسمبورغ في دور الفضاء السياسي المفتوح(الديمقراطية) في تطور الرأسمالية، وعند غرامشي في دور الأيديولوجيا المنفتحة في قراءة مصالح الطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة، وعند مهدي عامل في الاستقلالية النسبية لمستويات البناء الاجتماعي، الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية، وتحذيره الشهير من اعتبارها مساقط بعضها لبعض الآخر. هذه الثورة تحصل في داخل الزمن البنيوي للتشكيلة، دافعة إياها للانتقال من وضعية إلى وضعية أخرى، أي أنها تعمل على تطويرها. فالتطور الداخلي للتشكيلة يحصل دائما على شكل ثورات تطورية، لكل منها زمنه السياسي، الذي يطول أو يقصر بحسب كون المستوى السياسي مفتوحا على التغير المرن(كما في حال الأنظمة الديمقراطية) أو معرضا للجمود كما في حال الأنظمة الدكتاتورية أو الاستبدادية.
تتحدد الثورة التطورية إذا بالعلاقة مع المستوى السياسي الذي فيه بالضبط تعبر مصالح الناس عن نفسها، وهذا المستوى هو الذي بطبيعته يقبل الجمود أكثر من غيره من المستويات التي تخترق وتشكل الزمن البنيوي للتشكيلة. وعندما يجمد هذا المستوى أو يفقد مرونته فإنه يعمل على دفع بقية المستويات إلى الجمود من خلال تزايد الضغط عليها. لكن وبالنظر إلى الاستقلالية النسبية لمستويات التشكيلة، فإن بعضها يفقد مرونته بسرعة أكثر من غيره. مثلا يستجيب المستوى الأيدولوجيي لجمود المستوى السياسي أكثر من المستوى الاقتصادي هذا على صعيد مستويات البناء الفوقي. أما على مستوى البناء التحتي فإن العلاقات الخاصة بإنتاج الإنسان ككائن ثقافي أكثر قابلية للجمود، من علاقات الإنتاج المادي وهكذا دواليك. يمكن التعبير عن آلية تحقق ذلك على الشكل التالي:
في سياق تفاعل الإنسان مع الطبيعة فإنه يخلق ما نصطلح على تسميته بالوسط الصناعي الملائم لإشباع حاجاته. الوسط الصناعي يحتوي على قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج وشروط الانتاج المختلفة بما فيها من أشكال لتنظيم الوجود الاجتماعي، وأشكال الوعي المطابق لها. من جهتها الحاجات متنوعة كثيراً وهي تشمل الحاجات المادية والثقافية والنفسية وغيرها. تتحدد العلاقة بين الحاجات والوسط الصناعي على شكل قصور نسبي في الوسط الصناعي بالمقارنة مع الحاجات. فالحاجات تتقدم دائما على ممكنات إشباعها في الوسط الصناعي، مما يدفع مكونات الوسط الصناعي للتفاعل مع الوسط الطبيعي، لتحويل ما هو ممكن فيه إلى وسط صناعي جديد يلاءم إشباع الحاجات، وما إن يتحقق لها ذلك حتى تقفز الحاجات إلى وضعية جديدة، لتبدأ من جديد عملية تفاعلية جديدة وهكذا دواليك. إن ما ينتج عن عملية تفاعل الوسط الصناعي مع الوسط الطبيعي بداية هو مركب معقد من الأفكار التي سرعان ما تبحث عن تحققها في قوى إنتاج، وعلاقات إنتاج، وشروط إنتاج جديدة. تتميز هذه الأوالية العامة بالموضوعية، بمعنى أنه لا يمكن إيقافها، فهي تتعلق بوجود الإنسان ذاته. فلكي يوجد الإنسان ككائن بيولوجي أولا وككائن ثقافي ثانيا عليه أن يستهلك( أن يشبع حاجاته)، ولكي يستهلك عليه أن ينتج ما يستهلكه. مع ذلك فإن هذه العملية الموضوعية تتعرض لتشوهات كثيرة، بسبب اختلاف وتباين مصالح الفواعل الاجتماعية سواء تجاه الاستهلاك أو تجاه الإنتاج، وهذا ما يظهر أولا في المستوى السياسي على شكل جمود. ومع استمرار الجمود في هذا المستوى يتشكل ضغط متزايد على الوسط الصناعي، مما يدفعه في لحظة معينة إلى الانفجار دافعا أمامه المستوى السياسي إلى التغير، وإذ يتغير فإنه يؤسس لتفاعل جديد بين الوسط الصناعي والوسط الطبيعي ينجم عنه إشباع الحاجات الجديدة.
إن ما حصل في تونس وفي مصر، يشكل نموذجا كاملاً للثورة التطورية، سوف ينقل الرأسمالية إلى مستوى جديد من التطور. في العقود الأخيرة حصلت تطورات نوعية على الوسط الصناعي خصوصا في مستوى تطور قوى الإنتاج ، فدخلت الآلة الحديثة جميع الميادين مسببة إزاحة كبيرة لقوة العمل غير المؤهلة مما زاد في أزمة التشغيل، فكثر العاطلون عن العمل. إضافة إلى ذلك فإن نهج التنمية المتبع المعتمد أساسا على الاستثمار المكثف لرأس المال لا يتيح فرصاً لاستيعاب العمالة الوافدة الجديدة من خريجي الجامعات فكثرت البطالة في وسط الخريجين الذين يتميزون بالنوعية، مما فاقم كثيرا من أزمة التشغيل العامة التي لم تعد تقتصر على العمالة غير المؤهلة بل شملت أيضا العمالة المؤهلة.
إن أولى النتائج المترتبة على تفاقم أزمة التشغيل تزايد حالة الفقر في المجتمع. أنظر الجدول(1).
جدول(1) معدلات الفقر في الدول العربية في عام 2009
البلد خط الفقر معدل الفقر % من السكان
الأردن 504 دينار شهريا 13.3
الإمارات === ===
البحرين 5 دولار يومياً 12
تونس 2 دولار يومياً 10
الجزائر 140 دينار يومياً(2$) 40
جيبوتي 1.25 دولار يومياً 20
السعودية 1662ريال شهريا(442$) 22
السودان 2 دولار يومياً 45-90
سوريا نحو3000 ل.س شهرياً 33
الصومال 2 دولار يومياً 75
العراق 76896دينار شهرياً 40
عمان === 32
فلسطين 2 دولار يومياً 75 القطاع و59 الضفة
قطر 3.5-9.8 دولار /يوم ===
الكويت === ===
لبنان 2.4 دولار /يوم 8.4
ليبيا 2.5 دولار /يوم 20
مصر 167 جنيه/شهر 40
المغرب === 15
موريتانيا 2 دولار/يوم 70
اليمن 2 دولار/يوم 45
المصدر: الشبكة العنكبوتية، خط الفقر في كل دولة. تاريخ الدخول 20-22/9/2010
ومما يفاقم من هذا الوضع معدلات الإعاشة العالية، التي لا تقل عن ثلاثة أشخاص لكل شخص عامل، وقد تزيد عن ذلك في بعض الدول العربية وذلك بسبب تزايد عدد السكان الذين هم دون سن التشغيل. تبين بعض المعطيات أن عدد السكان في الدول العربية الذين هم دون سن العشرين يعادلون نحو 50 % من عدد السكان الإجمالي. يعود السبب في ذلك جزئيا إلى معدلات تزايد السكان المرتفعة في الدول العربية ( أنظر الجدول 2).
جدول(2) عدد السكان في الدول العربية في عام 2008 ومعدل تزايدهم قياسا إلى عام 2006
البلد إجمالي عدد السكان
(ألف نسمة) معدل الزيادة % السكان الريفيون
(ألف نسمة) نسبتهم من إجمالي عدد السكان معدل زيادتهم %
الأردن 5850 4.46 1017.9 17.4 4.46
الإمارات 5324.05 25.89 106.98 2.01 12.55
البحرين 1454.6 95.89 218.19 15 95.81
تونس 10400.61 2.43 3624.43 34.85 2.08
الجزائر 34800 3.19 13843 39.78 3.92
جيبوتي 716.63 3.45 287.03 40.05 0.0
السعودية 24807 4.04 4654.64 18.76 0.01
السودان 39154.49 7.87 24667 63 8.82
سورية 23027 9.33 9133 39.66 3.69
الصومال 12368.17 4.07 7204.28 58.25 2.03
العراق 31895 10.71 10608 33.26 14.68
عمان 2867.42 12.47 667.33 23.27 0.0
فلسطين 3825 -1.63 619.60 16.2 -43.6
قطر 1443.36 38.55 49 3.39 0.0
الكويت 3458.33 13.32 26.68 0.77 0.0
لبنان 4812.38 2.72 480.89 9.99 2.68
ليبيا 5882.56 3.69 747.04 12.70 0.0
مصر 75233 3.66 43149 57.35 3.65
المغرب 31177 2.20 13447 43.13 0.15
موريتانيا 3075.27 5.47 1558.22 50.67 0.23
اليمن 22200 6.22 15800 71.17 6.04
المجموع 343771.87 5.83 151906.22 44.19 4.45
المصدر:المنظمة العربية للتنمية الزراعية، الكتاب السنوي للإحصاءات الزراعية العربية،الخرطوم 2009، المجلد(29)، الجدول(1)
غير أن السبب الأكثر أهمية في تفاقم ظاهرة الفقر في الدول العربية يكمن في سوء توزيع الثروة، واستغلال الدولة لتحقيق كسب غير مشروع، من خلال تعميم ظاهرة الفساد. لقد بينت الثورة التونسية وكذلك الثورة المصرية حجم الأموال الهائلة التي استحوذ عليها الحكام وحاشيتهم في هذين البلدين والتي يمكنها في حال استثمارها في صالح شعوبهما أن تقضي على ظاهرة الفقر وتؤمن تشغيلا كاملا لقوة العمل فيهما. يكاد يكون الوضع ذاته في جميع الدول العربية، ففي سورية مثلا نحو 60% من الناتج الوطني يذهب كحصة للأرباح والريوع (أي لـ10% من السكان) في حين يذهب 40% لتغطية حصة الأجور والرواتب( أي لـ 90% من السكان). ما نود قوله أن التناقض بين الحاجة للعمل وممكنات التشغيل المتاحة في الوسط الصناعي، أخذ بعداً كارثياً لا يمكن تسويته إلا بإزالة المستوى السياسي الذي يحول دون تحقيق ذلك.
الوجه الأخر لهذا التناقض يكمن في زيادة حدة الاستقطاب في المجتمع، بين الفقراء والأغنياء، بين الذين يكسبون من عملهم وبين الذين يكسبون بوسائل سياسية، وهو أيضا قد أخذ بعدا كارثيا لا يمكن تسويته إلا بإزالة المستوى السياسي المسؤول عنه أيضاً.
عند هذا المستوى من التحليل نستنتج أن المطالب المعيشية على اختلافها كانت من الأسباب الرئيسية لاندلاع الثورة في تونس وفي مصر، وهي حاضرة أيضا في جميع الانتفاضات الجارية في بعض الدول العربية، وسوف تكون حاضرة أيضا في الانتفاضات المحتملة في الدول العربية الأخرى.
من جهة أخرى، فإن المطالب المعيشية قد ولدت نوعاً أخر من المطالب المرتبط بها، مثل تحديد خيارات العيش، وطرق تحقيقها، والمشاركة في تأمين الظروف اللازمة لإشباعها. بكلام آخر صارت المطالب في تحسين إدارة الدولة، والمشاركة فيها، ومحاربة الفساد ملحة كثيراً، خصوصا وإن تحقيقها كان يصطدم دوما بجمود المستوى السياسي، الذي يقوم على رعايته حلف طغموي بين المال والقوة. لقد استخدم نظام الطغمة الفساد كأسلوب في إدارة الدولة والمجتمع، بحيث لم يعد بالإمكان تسيير أي شأن من شؤون الدولة والمجتمع إلا عبر آليات الفساد، فأزيحت القوانين إلى الرفوف، أو تقدمت قراءات لها تخدم آليات الفساد. في هذا المناخ المعمم غابت فكرة وأخلاقيات القانون، وحلت محلها منظومة قيم وأخلاق الفساد. من الزاوية المجتمعية فإن الطبقة الوسطى كانت أكثر الفئات الاجتماعية تضررا من الفساد، وبالنظر إلى مستوى وعيها المرتفع نسبيا، فقد كانت شديدة الحساسية تجاهه، مما دفعها إلى مقدمة المطالبين بمحاربته، وإعادة بناء الدولة على أسس القانون والعدالة. بكلام آخر فإن الحاجة إلى بناء دولة القانون والعدالة وصلت إلى حد التفارق الكارثي مع ممكنات تحققها في الوسط الصناعي بسبب طبيعة وجمود المستوى السياسي، الأمر الذي جعل من مهمة إزالته في مقدمة مطالب الحركة الاجتماعية في الدول المشار إليها.
من جهة أخرى”ليس بالخبز وحده يحي الإنسان”، فالخبز يحافظ عليه ككائن حي، لكنه لا يحافظ عليه ككائن ثقافي. بكلام آخر ثمة حاجات كثيرة من طبيعة غير مادية، مثل الحاجة للتقدير، الحاجة للكرامة، الحاجة لتأكيد الذات والمنافسة، الحاجة للسكينة والاطمئنان، الحاجة إلى الحلم والسعي في سبيله، وكثير غيرها من الحاجات المعنوية والنفسية. جميع هذه الحاجات كانت تصطدم بعدم قابلية الوسط الصناعي لتحقيقها بسبب جمود المستوى السياسي، وضعف مرونة بقية مستويات البناء الاجتماعي بسبب منه. لقد تحول الإذلال إلى نهج عام في المجتمع، يمارسه السياسي و المسؤول الحكومي في مختلف مستويات الدولة وأجهزتها، من الشرطي إلى الوزير وما فوق الوزير، تجاه جميع المواطنين، ويمارسه أصحاب رؤوس الأموال تجاه مستخدميهم، بحيث لم يعد ثمة من فسحة في المجتمع لا يتم فيها امتهان كرامة الناس بدرجات مختلفة. ويتحقق كل ذلك عبر آليات الرشوة والسرقة المكشوفة أو المستترة، وكذلك من خلال منع أية إمكانية للاحتجاج. بعبارة أخرى حصل نوع من التناقض الكارثي بين الحاجة إلى تأكيد الذات وبين ممكنات تحقيق ذلك في الوسط الصناعي، وقد زاد من حدة هذا التناقض انتشار التعليم وإحساس الفئات الوسطى بالمهانة الأمر الذي جعل من مهمة التغيير قضية من قضايا الثورة التونسية والمصرية، وهي حاضرة بقوة في الانتفاضات العربية الأخرى.
هناك حاجات تتجاوز الحدود الفردية إلى ما يسمى بالإنسان الجمعي، حاجات من طبيعة وطنية وقومية وإنسانية عامة، بعضها يتعلق بمصالح البلد، وكرامة البلد، واستقلال سياساته، وبعضها الأخر يتعلق بدور البلد . هذا النوع من الحاجات لعب دورا مهما في ثورة تونس، وخصوصا في ثورة مصر وسوف يكون حاضرا في ثورات أخرى على الطريق أو محتملة في دول عربية أخرى. لقد حول النظام السياسي المصري مصر من دولة قائدة، من دولة فاعلة ومقررة في إقليمها، وعلى الصعيد العالمي، من دولة ترعى مصالحها وتدافع عن مصالح العرب إلى دولة تابعة، منكفئة على ذاتها، لا دور لها. وأكثر من ذلك صارت تتلقى الإذلال يوميا من قبل أمريكا وإسرائيل، من خلال توجيه وتوظيف إمكانيات مصر ودورها في خدمة المصالح الأمريكية والإسرائيلية. لقد أرغمت مصر على التخلي عن دورها في إفريقيا، وخصوصا في السودان المجاور، علما أن جانبا مصيريا من الأمن القومي المصري يتقرر في السودان، الذي يتعرض للتمزق تحت أنظار المصريين. بل أرغمت على التخلي عما يسمى بفكرة الأمن القومي، وبالتالي لم يعد لدى مصر سياسات ، عداك عن خطط وبرامج للدفاع عن أمن مصر والعرب بالمعنى الاستراتيجي. وقد أزلت مصر أيضا من خلال اتفاقيات كامب ديفيد، التي مدت الحدود الأمنية الإسرائيلية إلى مشارف قناة السويس، وأزلت أيضا من خلال صفقة بيع الغاز لإسرائيل، وأزلت ولا تزال تزل يومياً من خلال شل إرادتها تجاه ما يتعرض له الفلسطينيون في فلسطين المحتلة وخصوصا في قطاع غزة المحاصر. لقد صار كل عربي يتطلع إلى تركيا أو إلى إيران ليستلهم منها بعض الشعور بالكرامة، في حين نحن أحوج إلى الكرامة النابعة من دورنا ومن سياسات حكوماتنا. وحتى الشعور بالكرامة الذي ظهر لدى قطاعات واسعة من العرب نتيجة لما تقوم به حركات المقاومة العربية، وخصوصا المقاومة اللبنانية شرعت تتآمر عليه أغلبية الحكومات العربية وخصوصا الحكومة المصرية. باختصار إن الحاجة للكرامة الوطنية، والحاجة للدفاع عن المصالح الوطنية والدور الوطني دخلت في حالة تناقض كارثي مع ممكنات تحققها في الوسط الصناعي من جراء جمود المستوى السياسي، الأمر الذي كان حاضرا في الثورة المصرية والتونسية وكان من محركاتها الأساسية.
ثمة حاجات أخرى من طبيعة إنسانية عامة ناجمة عن ظروف العولمة وسرعة تبادل المعلومات بين مختلف مناطق وشعوب العالم، واستلهام طريقة عيش الآخرين في الدول الديمقراطية، أو انتفاضات الشعوب التي ثارت على حكامها وانتقلت إلى النظام الديمقراطي. لم يعد مقنعاً ما تقول به الأنظمة العربية من خصوصية الدول العربية، ومن أن الديمقراطية لا تلائمها، أو إنها يمكن أن تؤدي إلى تفتيت الكيانات السياسية إلى قبائل وطوائف وجهويات متصارعة، أو عودة الإسلام السياسي السلفي المتطرف إلى السلطة إلى غير هذه الحجج غير المقنعة. لقد برهنت ثورة مصر وثورة تونس مدى زيف هذه الادعاءات، التي لا تعدو كونها بضاعة السلطات ذاتها، وإن اللحمة الوطنية على العكس من تهويل هذه السلطات، فقد اشتدت وقويت ولم تضعف في سياق الثورة.
يمكن اختصار المشهد برمته في عبارة واحدة: الشعب العربي لم يعد يريد الحياة في ظل الظروف السابقة المفروضة عليه، ببساطة إنه يريد الحرية، يريد الكرامة، يريد العدالة، يريد أن يكون إنسانا كامل الأهلية في بلدان مستقلة حرة قوية وكريمة…..ولذلك فهو يريد إسقاط الأنظمة السياسية الاستبدادية المتكلسة، المسؤولة عن كل ما يعانيه.