هل بدا الغرب يفهم؟!
ميشيل كيلو
أظهر الحدثان التونسي والمصري مسائل على قدر عظيم من الأهمية، منها:
– أن بديل النظم الاستبدادية الراهنة ليس إسلاميا. كنا، نحن الديموقراطيين العرب، نقول: إن البديل لن يكون إسلاميا بالضرورة، فجاءت الأحداث تؤكد انه ليس إسلاميا في الواقع. وقد شعرت الصحافة العالمية، التي كانت تروج لخرافة البديل الإسلامي الحتمي، بالدهشة، عندما خلت تظاهرات تونس من الشعارات الإسلامية، وظهر أن القوة الشعبية ليست إسلامية وإن كان المشاركون فيها من المسلمين، وأن المسلم ليس إسلاميا بالضرورة كما توهم عقل سخيف عنصري ومعاد للإسلام في أوروبا، ضحكت عليه نظمنا واستغفلته، حين غذته بوهم البديل الإسلامي الحتمي. في مصر، قلب حركة الإخوان المسلمين في العالم، لم يكن هؤلاء من أطلق شرارة الثورة وحمل رايتها طيلة سنوات كثيرة، بل كانت قوى مجتمعية لم يشعر الغرب سابقا بوجودها أو أنه استخف بقدراتها وعاملها بتجاهل، ولم يحسب لها حسابا أو يراها في المعارضة، لانطلاقه من فكرة مسبقة عن مجتمعاتنا العربية باعتبارها مجتمعات تنتج التطرف، تتسم باللاعقلانية والعداء للحضارة والديموقراطية، فلا ضابط لها غير اليد الحديدية والاستبداد الأعمى، الذي تستحق أن تخضع له.
– أن الإسلاميين لم يطرحوا أنفسهم كبديل، خاصة في مصر، حيث أبدوا التزاما لافتا بمطالب التمرد الشعبي، الشبابي الطابع وغير الحزبي، وتعهدوا أن لا يرشحوا أحدا منهم إلى انتخابات الرئاسة المقبلة، التي ستجرى بعد أشهر قليلة، وأن يبقوا قوة توحد صفوف المجتمع، ويقبلوا التنوع والاختلاف، ويتمسكوا بالمواطنة كأساس لإعادة بناء مصر السياسي، ويقبلوا حكم القانون، ومبدأ السيادة الشعبية باعتبارها مصدر جميع السلطات، بل وتبنوا، شأنهم في ذلك شأن القوى العلمانية، مطلب الدولة المدنية. قد يقول قائل: هذه مناورة من الإخوان وليست سياساتهم الحقيقية. سأقبل هذا الاعتراض، وفي الوقت نفسه سأذكّر المعترضين بحقيقة أن حكاية تفوق الإخوان الشعبي في التظاهرات، التي روجت لها قناة الجزيرة، لم تتأكد في أي موقع ومكان، وأن العارفين بحقائق الأمور يتحدثون عن حصة للإخوان في الشارع المصري لا تتعدى 10- 15%، بينما استقبل الشيخ راشد الغنوشي في تونس، التي عاد إليها بعد خمسة وعشرين عاما من الغربة والظلم، قرابة ثلاثمائة شخص! ألا يدل موقف الإخوان على واقعيتهم، وعلى معرفتهم بحقيقة حجمهم الحقيقي وقدراتهم الفعلية؟ ومع التسليم بأنهم قد يحرزون تقدما كبيرا خلال السنوات القليلة القادمة، فإن مطالبة الشعبين التونسي والمصري بنظام يقوم على المواطنة وحقوق الإنسان وحكم القانون والدولة المدنية والديموقراطية يمثل قيدا حقيقيا على أي برنامج مختلف يدعون إليه، إن كان سيتخذ طابعا دينيا صرفا، لأنهم سيجدون أنفسهم عندئذ إما معزولين أو في مواجهة أغلبية شعبهم، التي تطالب اليوم بالحرية والديموقراطية، وستجني ثمارها خلال مرحلة الانتقال وبعدها، بعد أن تعلمت درس الاستبداد واستخلصت النتائج منه، وعافت نفسها جميع أشكاله بما في ذلك الإسلامية منها، التي ستعود في حلة جديدة إذا ما سيطر الإخوان بمفردهم على السلطة، وأعادوا حكم الحزب الواحد، وفرضوا أيديولوجية مغلقة يحظر على المواطنين التفكير خارجها أو ضدها، بما أنها معيار إنتاج واقعهم، الذي يجب أن يكون ملزما لهم.
– أن الاستبداد أقام واقعا مجتمعيا وسياسيا لا سبيل إلى نكرانه، يتمثل في وجود قلة في السلطة يجسدها مجتمع قائم بذاته هو مجتمع التسلط، القابض على الثروة والإعلام والسلطة والدولة بالعنف والنهب، الغريب عن وطنه والممسك بمقدرات البلاد والعباد، الذي يخضع كل كبيرة وصغيرة لمصالحه الخاصة، ويروع ويرعب المجتمع الآخر: مجتمع الكثرة الساحقة التي لا تتمتع بأية حقوق بما في ذلك حق الحياة، وتعيش في عبودية عمل وتبعية سياسية لمجتمع السلطة، الذي يعرضها لصنوف شتى من الاستغلال والحرمان، ويسوقها من سيئ إلى أسوأ، رغم أنها تضم كتلا هائلة من المتعلمين والمثقفين وأصحاب الأعمال الحرة والمهنيين والحرفيين وفئات متباينة من الطبقة الوسطى والقوى العاملة.
ومع أن المجتمع الأول يمد جذوره إلى الثاني، ليرهبه ويمتص عافيته ويفرغه من طاقاته المبدعة ويخترقه ويعيد إنتاجه بالصورة التي تخدمه وتوطد علاقة التفاوت بينهما، فإنه يعيش أكثر فأكثر في عالمه الخاص، الذي لا يشبه في شيء عالم المجتمع الثاني، بينما تزداد الهوة بين فوق وتحت، وتتحول بالتدريج إلى فوارق تؤسس لهويتين مختلفتين، تجعل الأول أجنبي السحنة وغريبا عن وطنه، والثاني محليا ووطنيا، يتوقف استقرار علاقتهما على وحدة الأول وتفكك الثاني، واختراق الأول للثاني وقدرته على إلزامه بمواقفه ومصالحه، وعلى تدني وعي الثاني، الذي تحتجزه غوغائيات وطنية ووعود إصلاحية جوفاء.
بيد أن تعاظم الهوة بين المجتمعين والهويتين لم يتوقف عن التفاقم بفعل آليات إعادة إنتاج النظام، التي بينت أحداث مصر أنها ضيقت قمته، وقوضت إلى درجة تكاد تكون مطلقة وتامة قاعدته، وأخرجت من صفوفه أعدادا كبيرة من رجال الأعمال، الذين يعملون وفق أسس اقتصادية صرف، ولهم مصلحة في أن لا يكون الشعب فقيرا وعاطلا عن العمل وجائعا ومهانا، على عكس لصوص مجتمع السلطة، الذين حصلوا على ثرواتهم بابتزاز ونهب جميع فئات المواطنين، بمن في ذلك هؤلاء البرجوازيين الحقيقيين.
لا عجب أن قاد تعاظم الهوة بين المجتمعين إلى تمرد الثاني على الأول، ولا غرابة أن يكون الشعب قد شارك بفدائية واستبسال في العصيان الثوري، وعصف بالأمر القائم واستمات من أجل إسقاطه في أقصر وقت، تمهيدا لإعادة تأسيس الدولة على أرضية نظام مدني جديد يلغي تناقض المجتمعين ويوحد المجتمع باعتباره حاضن جميع بناته وأبنائه، ويحفظ حقوقه وحصته من ثروات بلاده وعوائد عمله، من خلال نظام ديموقراطي يقوم على المواطنة والحريات وفصل السلطات وحكم القانون والدولة المدنية ومسؤولية الحكام كموظفين عامين خاضعين للمساءلة والنظام التمثيلي والمشاركة الشعبية الجامعة.
ما هي فرصة الإسلاميين في تغيير هذا الواقع وتحويله إلى نظام يستأثرون وحدهم بإدارته ويتحكمون بمفاصله؟ أعتقد أنهم سيجدون أنفسهم في مواجهة أغلبية الشعب، إن هم حاولوا الانقضاض على السلطة أو سعوا إلى الانفراد بها. ولا أظنهم يجهلون هذا أو يريدونه، لأنه سيجلب لهم متاعب لا قبل لهم بمواجهتها، خاصة إن أقاموا نظاما قمعيا كالنظام الذي أقامه مبارك وهزمه التمرد الشعبي.
هل تراقب أوروبا خاصة والغرب عامة هذا الوضع وتفهمه، أم ستواصل رؤيته بأعين العداء للإسلام والخوف من المسلمين، وجهل ممكنات الديموقراطية وفرصها، والتضامن مع النظم الاستبدادية القائمة، ودعم حكوماتها المكروهة؟ قالت السيدة أشتون، وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي، كلاما يفهم منه أن القارة العجوز فهمت ما يجري، وستشجع من الآن فصاعدا الحكومات العربية خاصة والشرق الأوسطية عامة على السير نحو الديموقراطية. وكانت أمريكا قد أيدت مشاركة الإخوان المسلمين في المفاوضات مع ممثلي حسني مبارك، وطالبت بحكومة وحدة وطنية مصرية تضم ممثلين عنهم، تأخذ البلاد إلى الديموقراطية. هل نحن أمام توجه جديد، بعد أن اكتشف الغرب حجم الخديعة التي عرضته النظم الحاكمة لها، حين أوهمته أن بديلها الوحيد سيكون إسلاميا متطرفا، معاديا له ومقاتلا ضده، وأنها هي التي تحميه منه، فلا ضير إن هي ضبطت حركته بالقمع والاستبداد؟ وهل بدأ يفهم أن النظام العربي هو الذي ضخم حجم الإسلاميين وأوهمه أنهم بديله الحتمي، إن هو سقط، وأنه الدريئة التي ترد عنه أخطارهم؟ وهل سيبدأ الغرب بالتحرر من معادلة خاطئة قيدت يديه لفترة طويلة، نفرت منه شعوب المنطقة المغلوبة على أمرها، ووضعته في صف نظم استبدادية ابتزته إسلاميا وبالغت في خطر الإسلاميين كما في دورها ضدهم، بينما كانت تستخدمهم بطرق تقوض أي خيار غربي غير الارتباط بسياساتها ودعمها، فإذا بأحداث تونس ومصر تفضح أكاذيبها، وتظهر حجم التضليل الذي عرضت له أوروبا وأمريكا، وكم افتقرت خياراتهما وسياساتهما إلى أبعاد إستراتيجية، وأضمرت من أخطاء تكتيكية جعلتهما لاعبين هامشيين مكروهين من شعوب واحدة من أكثر مناطق العالم أهمية وحيوية بالنسبة لمصالحهما.
هل بدأ الغرب يفهم؟ وهل سيعتمد حقا سياسة جديدة تجاه المنطقة ومشكلاتها، ترى في الديموقراطية أداة تستطيع إنقاذها حقا وفعلا من الاستبداد والتطرف الإسلامي في آن معا، باعتبار انهما قوتان تتكامل سياساتهما ومصالحهما؟ في هذه الحالة، هل ستنفك السياسة الغربية الجديدة عن الاستبداد ونظمه وستؤيد قوى يقيد نموها قوة ودور الإسلاميين، ويجبرهم على الانضواء في سياق مدني/ ديموقراطي، يسهم في عقلنة حركتهم وتوجيهها نحو قنوات مجتمعية وسياسية، تكون فيها طرفا وحسب وليس قوتها المقررة، كما بينت ثورتا تونس ومصر؟
وضعت تطورات تونس ومصر الغرب أمام تحد سيكون من الصعب عليه التنصل منه أو تفادي مواجهته، سيجبره على التعامل مع منطقتنا وشعوبها بطريقة تختلف عن الطريقة التي اعتمدها حتى الآن، إذا أراد أن لا تتحول علاقته معها إلى عداء أعمى لن يكفي معه سؤال: لماذا يكرهوننا؟ بل سيضاف إليه سؤال جديد هو: لماذا يقتلوننا؟
تجد أوروبا وأمريكا نفسيهما أمام مفترق طرق، بعد أن خدعتهما نظم استبدادية بكل بساطة وتلاعبت بسياساتهما طيلة عقود ثلاثة، فإما أن تكونا من الآن فصاعدا مع الحكومات أو مع الشعوب، وإما أن تدعما إصلاحا ديموقراطيا عميقا تشارك فيه الشعوب بحرية، كي يحدث تبدلا جديا في طابع النظم وعلاقات الدول مع المجتمعات، أو وهذا هو الخيال الآخر – أن تواجها مأزقا تاريخيا سيترتب على تمرد شعبي ومجتمعي عربي ليس نجاحه بحاجة إلى دعمهما، سيعرف كيف ينتقم منهما بسبب إخلاصهما للاستبداد ورهانهما عليه في مواجهة شعوبه، سيكون تحديا بعيد المدى لهما.
إن مواقف أوروبا وأمريكا لم تكن خاطئة فقط، بل تعارضت مع مصالحهما، التي ترتبط حتى اللحظة بحكام ترفضهم شعوبهم، ستتهاوى نظمهم أمام العاصفة الشعبية، التي تتجاوز حدود البلدان والدول وتكتسب طابعا عربيا عاما. ماذا سيختار الغرب: نظما مستبدة ضللته وورطته في معارك وهمية تستحق أن يعاقبها، أم شعوبا تقاتل من أجل قيم لطالما زعم أنها قيمه، هي الحرية والديموقراطية والدولة المدنية والمواطنة وحقوق الإنسان … الخ، لا شك في أنها ستكون في نهاية الأمر، ومهما طال تغييبها، صاحبة الكلمة الفصل في المنطقة؟!
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي