بعد الثورتين: نهاية عالم ما بعد 11 أيلول!
ياسين الحاج صالح
قد يمكن النظر إلى الثورتين المصرية والتونسية كرد على 11 أيلول (سبتمبر) 2001 وعوالمه السياسية والثقافية والسـيكولـوجية. وبالتحديد ترد الثورتان على فكرة «التغيير من الخارج»، وعلى مجمل ثقافة ما بعد 11 أيلول، بما فيها العدمية الإسلامية ممثلة بتنظيم القاعدة، والسلفية الجهادية بعامة.
كانت فكرة «التغيير من الخارج» موضوعاً لقدر ضخم من النفاق في النقاش العربي. كثير ممن هم ضد التغيير من الخارج هم ضد التغيير أياً يكن مصدره. وهو حال معظم أطقم الحكم في بلداننا ومحاسيبها والموالين لها. بعض آخر من مناهضي التغيير من الخارج هم ضد «الخارج»، والمقصود الغرب، في كل حال. وهو ما ينطبق على طيف إسلامي قومي عربي متنوع. نقطة الضعف في الحالين هي عدم قول شيء عن «الداخل». لسان حال الأنظمة وإيديولوجييها هي أن التغيير من الخارج مرفوض، ما يوحي، كذباً، أنهم مع التغيير من الداخل. أما من أيدوا مبدأ التغيير من الخارج، فألحوا بشدة على أن «الداخل» مصمّت ومنحط وغير مؤهل أبداً للتغيير. وكان وضع العراق المحكوم من صدام يبدو مُصدِّقاً لهذا الحكم. ولقد تكتم أولئك الدعاة عن واقع أن «الخارج» طرف سياسي بعينه، له مصالحه وانحيازاته وخططه الخاصة، وليس مبدأ تغيير مجرد.
ولن يقول أحد من دعاة «التغيير من الخارج» إن فكرة التغيير تولدت عند هذا الطرف الخاص، الأميركي، في سياق «الحرب على الإرهاب»، الأمر الذي أحال الديموقراطية العربية المأمولة إلى بند ملحق في أجندة أوسع، ذات تمركز تام حول «الخارج»، الأميركي.
ولا يكشف رفض التغيير مرة، والرفض المجرد للخارج مرة، وإنكار الصفة الخاصة للخارج مرة ثالثة، عن غير غياب النقطة المركزية عن النقاش: الداخل الاجتماعي والوطني لبلداننا. هذا لم يمثله أحد. لا الأميركيون طبعاً. ولا النظم الحاكمة، طبعاً. ولا الإيديولوجيون الممانعون، طبعاً. وحتى المجموعات المعارضة التي تعرّف نفسها بالديموقراطية قلما استطاعت أن تعرّف ديموقراطيتها على نحو متسق بدلالة هذا الداخل الاجتماعي الوطني. على أن تشكيلاتها المحاصرة في كل من مصر وتونس وسورية وغيرها كانت الأقرب فكرياً وسياسياً إلى هذا الداخل وتطلعاته.
عدا عن كونهما تغييرين كبيرين، ومن «الداخل»، أظهرت الثورتان المصرية والتونسية أن لهذا الداخل بنية وشكلاً، أن مجتمعي البلدين مركّبان، تُحرِّك فئاتٍ واسعة منهما مطالب اجتماعية وسياسية، تماثل ما يحرك الناس في أية مجتمعات أخرى. أظهرتا أيضاً أن الناس لدينا يتطلعون إلى الحريات العامة والكرامة والعدالة، والديموقراطية، على النحو المقرر عالمياً، وفي الغرب قبل غيره، وأكثر من غيره.
ردت الثورتان أيضاً على ثقافة 11 أيلول. تـشـكلت عناصر هذا قبل عقد واحد على الأقل من 11 أيلول نفسه. ارتبطت هذه الثـقافة باسـمـين أميركيين معروفين، صموئيل هنتنغتون صاحب نظرية صراع الحضارات، وفرانسيس فوكوياما صاحب نهاية التاريخ. وهي تجمع بين تعريف ثقافي للمجتمعات والدول، وبين اعتبار تنظيمات الغرب المنتصر وقتها حديثاً في الحرب الباردة، محطة التاريخ الأخيرة. وتحديداً الديموقراطية الليبرالية، من دون أي جهد لفصلها عن رأسمالية محابية جداً للأغنياء، أو للتفكير في دولة يتراجع اهتـمـامها بالشـرائح الأكثر حرماناً، أو في كوكب يئن تحت وطأة مشكلات البيئة.
وقد انتقلت هذه الثقافة إلينا بصورة فورية، وسجلت حضوراً لافتاً في تفكير المثقفين السياسي والاجتماعي والثقافي. وتشكل تيار ثقافوي واسع يشرح على طريقة هنتنغتون مجتمعاتنا بالثقافة، مقلَّصة إلى بعدها «الثابت» (بين استقلال بلداننا والسبعينات كانت كلمة ثقافة تدل على ما نكتسب ونتعلم، لا على ما نرث)، ثم تقليص البعد الثابت إلى الدين. وفي المقابل، اعتبار الغرب المعاصر مآل التاريخ، معرفياً وسياسياً ومؤسسياً.
وبقدر ما هي مُعرّفة ثقافياً، ستبدو مجتمعاتنا مصمتة، يتماثل حكامها ومحكوموها في ثقافة واحدة، حتى لتبدو السلطة ضحية لهذه الثقافة المريضة أكثر من المحكومين. وستقود هذه الدوغما الغثة غير قليل من المثقفين المعروفين إلى معاداة حركات الاعتراض الاجتماعي والسياسي، والوقوف إلى جانب الأنظمة الفاسدة والوراثية بذريعة أنها عقلانية أكثر من غيرها، وأن البديل الوحيد عنها هو التيارات الإسـلامية التي بدت لهم تعبيراً عن فساد ثقافتنا، وليست حركات اجتماعية سياسية تُشرح بلغة العلوم الاجتماعية، ويمكن الاعتراض على مثالها الاجتماعي وعلى أفكارها.
هذه العقيدة حطمتها الثورتان بجدارة. أظهرتا أن الإسلاميين قوة جزئية في مجتمعاتنا، أنهم أقرب إلى التضرر من سقوط النظم منهم إلى الاستفادة منه، أن التوهيم بقوتهم كان مصلحة لتلك الأنظمة لتزكية نفسها أمام القوى الغربية، وقطاعات من مجتمعاتها، وأنهم هم، أولئك المثقفون، كانوا إيديولوجيين لتلك النظم عملياً، وأجنحتها الأمنية تحديداً، وفي حالات غير قليلة بوعي كامل.
لكن الثورتين أطاحتا وجهاً ثالثاً من وجوه عالم ما بعد 11 أيلول، الوجه السلفي الجهادي، وبقدرٍ ما الوجه الإسلامي السياسي عموما. ظهر المجتمعان المصري والتونسي متنوعين اجتماعياً وثقافياً، والشرعية التي يمكن أن يكتسبها الإسلاميون في تونس الجديدة ومصر الجديدة شرعية تستند إلى قيم وطنية وديموقراطية ومواطنية، وليس إلى قيم دينية. ظهر أن مفاهيم الإسلام ركن من أركان الشخصية الوطنية لمصر، لكن من دون وجاهة للاستنتاج بأن هذا يمنح الإسلاميين امتيازاً خاصاً عن غيرهم. وبينما لم تظهر أمارات التدين في تونس بقدر ما ظهرت في مصر، يبدو ان الشرعية التي يطلبها الإسلاميون التونسيون شرعية وطنية ودستورية، مستندة إلى مبادئ الديموقراطية والمواطنة.
وقد ضرب الظهور العلني للشعب في الميدان العام، بصورة مسالمة وبأعداد كبيرة جداً وبروحية دنيوية وعصرية، المشروع السلفي الجهادي، النخبوي والعنفي جوهرياً. هذا المشروع تعبير عن اختناق مجتمعاتنا السياسي والنفسي، وعن تمردها ضد ذاتها والعالم، فإذا ظهرت عليها علامات التعافي كان مرجحاً في ما نرى أن يكون مصيره هو الفناء المستحق.
وفي المجمل يبدو أن الثورتين وجهتا ضربات قوية للتمثيلات المعرفية والسياسية التي روجتها النظم الاستبدادية والتيارات الإسلامية والمراكز الغربية عن مجتمعاتنا المعاصرة.
وفي الوقت نفسه لم تعرض أي منهما موقفاً عدائياً موتوراً ضد الغرب، ولا جنحت نحو تحطيم الدولة أو حتى اجتثاث الحزبين الحاكمين الفاسدين، ولا نحو أي شيء يشبه معاداة الإسلاميين.
هذا تغير كبير. يعطي الأولوية، معرفياً، لوجود مجتمعاتنا في التاريخ على حساب ماهيات مفترضة لها، أو أية خطاطات إيديولوجية متصلبة. وبهذا فهما ثورتان محــررتان فكرياً بقدر قد يفوق كونهما محررتين سياسياً واجتماعياً.