العقيد ناطح الماء
صبحي حديدي
ملايين العرب، أغلب الظنّ، شاهدوا مقطع الفيديو الشهير الذي تضمّن واحدة من درر معمّر القذافي، ‘ملك ملوك أفريقيا’، فأصابتهم الحيرة في الضحك حتى السقوط على القفا، أم الشتم بأقذع الألفاظ، أم استعادة ما قالت العرب عن أطوار مثل هذه: أحمقُ من ناطح الماء! ذلك لأنّ العقيد نطح الماء فعلاً، فاجترح تعريفاً للديمقراطية، يسير هكذا: ‘الديمقراطية معناها ديمو كراسي، أي أن تجلس الدهماء، عامة الناس، على الكراسي. إذا لم يجلس الشعب على الكراسي، فهذه ليست ديمقراطية. الديمقراطية متكونة من مقطعين: ديمو، وكراسي. كلمة عربية، دهماء على الكراسي’.
وحين كان الشعب التونسي ينتفض ضدّ استبداد وفساد زين العابدين بن علي وزبانيته، طلع العقيد على التوانسة بنصيحة، عبر كلمة خاصة متلفزة، مفادها أن لا يحثّوا بن علي على الترشيح لانتخابات 2014 الرئاسية، فحسب؛ بل أن يطلبوا منه ترشيح نفسه إلى الأبد: ‘الزين أفضل واحد لتونس’، قال القذافي، منزّهاً قناعته هذه عن أيّ ‘فلوس’ أو ‘مجد’ أو ‘مكافأة’ تأتيه من بن علي، لأنّ غايته الوحيدة من هذا المديح هي الحرص على مصارحة الجماهير العربية، جرياً على عادته!
وحين كان شعب مصر ينتفض ضدّ نظام حسني مبارك، الذي لا يقلّ فساداً حتى إذا اتخذ استبداده أقنعة شتى، فإنّ عبقري الصحراء ذاته استدرّ عواطف المصريين على مبارك ‘فقير’، و’لا يملك ثمن ملابسه’، والجماهيرية القذافية هي التي تعينه على ابتياع ثيابه. وأمّا ملايين المصريين الذين تظاهروا في القاهرة والإسكندرية والسويس وعشرات المدن والبلدات والقرى، فإنّ عملاء المخابرات الإسرائيلية، الـ’موساد’، هم الذين كانوا وراء تحريضهم. وثمة شريك آخر في تحريك الناس: ‘ويكيليكيس، أو كلينيكيس’، كما يحلو للعقيد القول، سعيداً باكتشاف هذا الجناس اللفظي النفيس.
ولأنّ العقيد هو ‘عميد’ أصحاب الفخامة والجلالة والسموّ، رؤساء وملوك وأمراء العرب، فإنّ دُرَر القذافي المفضّلة عندي شخصياً، هي تجلياته وفتوحاته، الفلسفية والسياسية واللغوية، في القمم العربية؛ على غرار ذلك المشهد التراجي ـ كوميدي في القمة العربية الـ 17، ربيع 2005. وسوى هذا ‘القائد الأعظم للجماهيرية الليبية العظمى’، مَنْ كان سيصارح زعماء العرب، وجماهير الأمّة من المحيط إلى الخليج، بسلسلة من الكشوفات الخارقة، التي لا يتجاسر على مجرّد تقليبها في الذهن إلا فلتات الزمان من عيار الأخ العقيد.
هنا بعض الأمثلة: رئيس وزراء الدولة العبرية آنذاك، أرييل شارون، ليس ذلك السفّاح العتيق العريق، بل هو عميل عند الفلسطينيين؛ والإرهاب إسلامي صرف، ولا إرهاب إلا في بلاد الإسلام، وفي فلسطين والعراق وأفغانستان، تحديداً وحصراً؛ والديمقراطيات العربية والآسيوية والأفريقية (وبينها مملكة أوغندا، مثلاً ساطعاً!) هي الديمقراطيات الحقّة، مقابل ‘الديمقراطيات الدكتاتورية’ في الدول الغربية، حيث الشعوب ‘كأنها كلاب تنبح’.
في ما يخصّ العرب، حكّاماً وشعوباً، قال العقيد إننا، أصحاب الفخامة والجلالة والسموّ، تسقط عنّا الواجبات شرعاً (في ما يخصّ الحرّيات العامة واحترام حقوق الإنسان والديمقراطية)، ما دام الغرب يعتبرنا متخلّفين؛ واندثار العرب وشيك، ما لم ينضمّوا إلى تكتّل ‘الفضاء الأفريقي’؛ وخير لنا البندقية السورية [في لبنان]، من البندقية الأطلسية؛ والفلسطينيون، مع رجاء أن لا يزعل ‘خونا محمود عباس’، أغبياء لأنهم لم يقيموا دولة سنة 1948، والإسرائيليون كذلك أغبياء لأنهم لم يضمّوا الضفّة الغربية سنة 1948!
هل ثمّة صفة واحدة كفيلة بتلخيص هذا المستوى من الإنحطاط الأقصى، المنفلت من كلّ عقال؟ وكيف للشعوب العربية، في السياقات السياسية والإجتماعية والثقافية المحلية والإقليمية والكونية الراهنة تحديداً، أن تبتلع كلّ هذه الرثاثة؟ أليس في منتهى نهايات المصائب العربية أن يعتلي ‘العميد’ هذا منبر القمّة، لكي يقول: ‘إذا كانت هذه هي الديمقراطية [أي الإنتخاب والتعددية وتداول السلطة]، متشكرين… مش عاوزين’، وكأنه يعتذر عن قبول سيغار كوبي، أو عباءة كشمير؟ وما الذي يلزم أكثر من هذا، كي يتبدّى الحاكم العربي في القاع الأدنى من الإنحدار، في أسفل سافلين؟
وهذا المتفلسف هو نفسه الذي وصل ذات يوم إلى العاصمة اليوغوسلافية بلغراد، أيّام جوزيف بروز تيتو، ترافقه طائرة خاصة، غير الطائرة الرئاسية بالطبع، تحمل النياق التي سيشرب من حليبها، والفرس المطهمة التي سيدخل بها قاعة قمّة عدم الإنحياز. وهو الذي طرد آلاف الفلسطينيين إلى خيام نصبها في الصحراء، كي يجبرهم على ممارسة حقّ العودة. كما رفض الإعتراف بدولة فلسطينية، لأنها تناقض نظريته في دولة ‘إسراطين’، التي يجب أن تضمّ إسرائيل وفلسطين معاً. وهو الذي أهدر من ثروات الشعب الليبي المقهور مئات ملايين الدولارات، على مغامراته النووية الزائفة، ومؤامراته، ونظرياته…
الأخطر، والأبشع بالطبع، لأنه جريمة حرب بربرية، هو أنّ ناطح الماء هذا هو الذي يصدر الأوامر، اليوم، باستخدام الذخيرة الحية والقناصة وقذائف الـ ‘أر بي جي’ والرشاشات والمدفعية الثقيلة والمروحيات، ضدّ المتظاهرين المطالبين برحيله، وضدّ مشيّعي الشهداء الذين تساقطوا بالعشرات، في بنغازي والبيضاء والمرج وسواها من مدن وبلدات ليبيا. أيّام العقيد/ العميد صارت معدودة، مع ذلك، إسوة بأشقائه طغاة العرب أجمعين؛ إذْ ليس أحمق من ناطح الماء، إلا ناطح الصخر برأسه!