ثورة ليبيا

لــيــلــة الــعــقــيــد

خالد غزال
على خطى كل من تونس ومصر، اندلعت الانتفاضة في ليبيا في النصف الثاني من شهر شباط الجاري، وتحت شعارات مشابهة تركزت على إسقاط النظام الليبي ورحيل القذافي وتحقيق مطالب الشعب في الخبز والحرية والكرامة. وعلى غرار النظامين المنهارين، رفض القذافي استجابة مطالب الانتفاضة ولجأ الى اسلوب العنف والرصاص لإطفاء جذوتها، مكررا ما سبق له ان فعله في عقود سابقة، من دون ادراك طبيعة التغيرات الداخلية والاقليمية. باعتماد الاسلوب نفسه المواكب للرصاص، سلّط النظام الليبي غضبه على وسائل الاعلام وعلى مواقع الانترنت والهواتف الخليوية، فعطّلها لمنع التواصل بين المتظاهرين، وللتعتيم على ما يجري ومنع وصول صور الاحداث الى الخارج. وبما ان هذه الوسائل تسير من فشل الى فشل، عمد النظام، عبر نجل القذافي سيف الاسلام، ومن ثم عبر “القائد الملهم” نفسه، الى اطلاق اخطر التصريحات لما ينوي النظام فعله لقمع المتظاهرين ومنع الانهيار وبقاء القذافي وحاشيته في السلطة. فقد حذر هذا النظام من تكرار تجربتي تونس ومصر في ليبيا، وخيّر الليبيين بين الحوار والاصلاح وبين الحرب الاهلية، ملوِّحا بتأجيج الاقتتال بين العشائر والقبائل التي يتكوّن منها الشعب الليبي، مهدِّداً بسقوط آلاف القتلى وتفجّر أنهار من الدماء، وبأن القتال سيكون حتى آخر رجل وامرأة وطفل في سبيل الحفاظ على النظام. ولم يتورع القذافيان عن وصف الشباب المتظاهرين بأنهم يستخدمون المخدرات وحبوب الهلوسة قبل ان ينزلوا الى الشارع. وتحدثا ايضا عن مخططات لتقسيم ليبيا ثلاث دويلات، محذِّرين من سيطرة الحركات الاسلامية على هذه، الدويلات مما يعني عودة الاستعمار الى البلاد ونهب ثرواتها. ومع اطلاق التهديدات هذه، اوردت وسائل الاعلام أخباراً عن استخدام النظام لمرتزقة افارقة واطلاق قذائف الدبابات على المتظاهرين مما اوقع فعلا أعداداً كبيرة من الضحايا بين قتيل وجريح، اضافة الى اعتقال المئات من المتظاهرين. فكيف نقرأ ما يحصل في ليبيا، وما أوجه الشبه في الاسباب التي ادت الى الانتفاضة وفي المآل الذي قد تصل اليه؟
استولى القذافي على السلطة في ايلول من العام 1969، أي قبل 42 عاما، في مرحلة أفول الناصرية ببرنامجها السياسي والاجتماعي والوطني، فتقمّص منذ اليوم الاول دور البطل الوطني والقومي، وقدّم نفسه وارث الناصرية قبل أن يكون عبد الناصر قد غيّبه الموت. تسلّم دولة تملك ثروات نفطية ضخمة، وتعيش في كنفها فئات اجتماعية محرومة وفقيرة، قبلت بسلطته وأيّدته في مواجهة عهد سيئ من الملكية. ورث دولة يقوم فيها تركيب عشائري وقبلي، وأعداد سكانية تصل اليوم الى حوالى ستة ملايين ونصف مليون مواطن. كان اول ما فعله، تكريس انغلاق ليبيا على العالم الخارجي، وتركيب نظام سياسي وفق مزاج القائد وتنظيراته “البهلوانية” المتتالية، انطلاقا من نظرية خصوصية الشعب الليبي بحسب مفهومه الذي بلوره لاحقا في “الكتاب الاخضر”.
الدولة أنا وأنا الدولة
على امتداد العقود الماضية تصرف القذافي على اساس ان ليبيا ملكية شخصية، وان الشعب مجموعة من الرعايا يغدق عليهم العطايا، ويلهمهم النظريات بأنهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم خلافاً لكل الانظمة السياسية القائمة. شكّل منذ العام 1972 ما يُعرَف باللجان الشعبية وقلّدها أداء كل الوظائف التنفيذية على مختلف المستويات في جميع انحاء البلاد. في المقابل، ركّز على اللعب على التناقضات القبلية والعشائرية، فأجج بينها الروح التنافسية بما يجعل لها مرجعية وحيدة هي النظام.
خلال عقود من الحكم، كانت للقذافي ممارسات متناقضة، فقد كان مصابا بنوع من “جنون العظمة”، إذ جعل من نفسه “ملك ملوك أفريقيا”، ومارس “نطنطات” وحدوية، مرةً مع مصر والسودان، ومرةً مع الجزائر، وأخرى مع مصر وسوريا، تحت حجة استعادة النهوض القومي واسترجاع فلسطين، فيما لم يتورع عن طرد الفلسطينيين من ليبيا وتشريدهم. مرةً يعتبر نفسه بطل القومية العربية فلا يترك زعيماً الا ويطاوله بسوء كلامه، ومرةً أخرى ينعى العروبة ويصنّف ليبيا بلدا افريقيا لا علاقة له بالعرب. هكذا كان يتصرف بالدولة الليبية وهويتها وفق المزاج الذي يصيبه وليس وفق تاريخ البلاد ومصالحها. لم يتورع عن دعم حركات إرهابية ولا عن ممارسة الارهاب، من قبيل اسقاط طائرة “بانام” الأميركية فوق لوكربي في اسكتلندا في 21 كانون الاول 1988، الذي وضع النظام ورئيسه في خانة الابتزاز والاتهام، واجبر ليبيا على دفع ثلاثة مليارات دولار لأهل الضحايا. هذا فضلاً عن الصفقات التي كان يعقدها مع الشركات الاوروبية لاستثمار الموارد الطبيعية وكانت في معظمها على حساب المصالح الوطنية الليبية.
اما على الصعيد الداخلي، فقد سعى الى اغلاق ليبيا عن العالم، والحجر على التطورات الفكرية، وخصوصا ما يتعلق بثورة التكنولوجيا في ميدان الاتصالات، التي باتت في متناول اجيال شابة من دون ان تكون في حاجة الى استئذان السلطات الحاكمة. خلال العقود الاخيرة، تكوّنت نخب شابة في ليبيا كانت على تواصل عبر الانترنت، وكانت تعي ايضا المعضلات الاجتماعية والبؤس الذي يعيشه معظم الشعب الليبي. وقد زاد الامور وفاقمها، ان النظام الليبي والعائلة والحاشية الصغرى تصرفوا على اساس ان الدولة الليبية والثروات النفطية هي ملك لهم، فراكموا الثروات ونهبوا المؤسسات، واشتروا بعض المحاسيب من القبائل والعشائر، فيما كانت الغالبية من ابناء الشعب تعاني الفقر والتهميش والبطالة والامية. هكذا، وعلى غرار ما جرى في تونس ومصر، ولأسباب مشابهة ايضا، شكلت الاسباب الاجتماعية المتصلة بالفقر والبؤس العنصر المركزي في نار الانتفاضة، حيث امكن القوى الاجتماعية من الشباب ان توظف تكنولوجيا الاتصالات في نشر المطالب وإذكاء روح التمرد. كما لا يمكن انكار الاثر الكبير الذي تركته انتفاضتا تونس ومصر ونجاحهما في إسقاط الحاكمين، الأمر الذي اعطى حركة الاحتجاج الليبية الثقة بإمكان تكرار التجربتين.
تاريخ حافل بالقمع
منذ تولّيه الحكم، نفّذ القذافي سياسة تقوم على ابادة المعارضة والمعارضين، مستخدماً شتى الوسائل الدموية. خلال الانتفاضة الحالية، لجأ الى ابشع وسائل الارهاب لقمع الانتفاضة، ووصل به الامر الى استخدام الطائرات الحربية في قصف المتظاهرين، وسلاح المدفعية والدبابات في تفريقهم، مما جعل ليبيا تسبح في نهر من الدماء. تحوّط القذافي مسبقاً لإمكان حصول تمرد داخل القوى المسلحة الليبية ولاحتمال رفض تنفيذ الاوامر ضد ابناء الشعب الليبي، فاعتمد سياسة تقوم على استجلاب مرتزقة أفارقة وإغداق الاموال عليهم وتكليفهم اطلاق النار على المتظاهرين. كما ان الزعيم الليبي سبق له ان شكّل ما يشبه ميليشيا من شباب كانوا قد انتزعوا من اهلهم مبكراً ووضعوا في معسكرات تأهيل للولاء للنظام وزعيمه، فوظّفهم على غرار المرتزقة في قمع التظاهرات.
اذا كانت المأثرة الراهنة للزعيم الليبي اليوم تتمثل في قتل المئات بل ربما الآلاف من ابناء ليبيا، فإنها لم تكن الوحيدة في تاريخه. فقد سبق له الفضل في ارتكاب مجازر ضخمة خصوصا في 29/6/1996 حين نفّذ مقتلة جماعية بالسجناء السياسيين في سجن “بو سليم” حيث قضى على 1200 سجين كان سبق له اعتقالهم على امتداد سنوات خلت. ظل النظام ينكر هذه المجزرة حتى العام 2008 حين اعترف بحصولها، مما دفع اهالي الضحايا للمطالبة بجثث ابنائهم، من دون ان يتم حتى الان تسليم اي جثة. قبل ذلك التاريخ، وفي نيسان من العام 1976، واثر تحركات نفّذها طلاب الجامعات من اجل الحريات الفكرية والسياسية وحقهم في التنظيم النقابي، عمد القذافي الى الهجوم المسلح على الجامعات واعتقال اعداد كبيرة من الطلاب، ونصب المشانق لهم في باحات الجامعات وفي الساحات العامة. وفي احداث اخرى، عمدت ميليشياته الى دهم المساجد واعتقال الائمة والزج بهم في السجون وقتل آخرين واخفاء جثثهم. من جانب آخر، لاحق النظام كل خصومه في الخارج ونفّذ عمليات اغتيال في حق الكثيرين منهم، والزج بآخرين في السجون الليبية، مما دفع بكثيرين الى الهرب من البلاد واللجوء الى بلدان اوروبية. في علاقته بالقبائل والعشائر، اتبع اسلوباً مزدوجاً من الترغيب والترهيب، الذي مارسه في سياسته مع زعماء البطون والأفخاذ، حيث كان يستخدم التنكيل والاعتقالات، وأحيانا القتل، إضافة الى اتباع اسلوب إذلال زعيم العشيرة وتحقيره امام قومه، وهو امر له معان ودلالات لدى عادات القبائل والعشائر تجاه زعمائها.
تحسباً لما يمكن ان يواجه النظام من تمرد عسكري، استخدم القذافي سياسة تدمير القوات المسلحة وخصوصا في السبعينات من القرن الماضي، إذ كان يسيطر عليه هاجس الانقلاب العسكري ضدّ حكمه، فقسم القوات المسلحة وحدات صغيرة، يتحكم في قيادتها عناصر من اللجان الثورية لا يحملون في غالبيتهم مستوى علمياً يرقى الى الشهادة الاعدادية، كما سلط على هذه الوحدات ميليشياته ووضعها في حالة ترهيب.
لم يقتصر عنف النظام وإرهابه على الداخل الليبي، بل امتد الى اكثر من دولة عربية، عبر إثارة فتن فيها أو قتل معارضين له، أو التعاون مع النظام الاخر في كبح المعارضات القائمة. لا ينسى في هذا المجال الدور الذي لعبه في إفشال الانقلاب العسكري في السودان عام 1970 فقد كان له دور فاعل في القبض على قائد الانقلاب هاشم العطا وتسليمه الى الرئيس السوداني يومذاك جعفر النميري، ثم مساهمته في تصفية عناصر الحزب الشيوعي السوداني وإعدام أمينه العام عبد الخالق محجوب، وهو دور ساهم فيه بفاعلية كبيرة الرئيس المصري آنذاك انور السادات. هذا فضلا عن إخفاء الامام موسى الصدر ورفيقيه عام 1978.
كان من الطبيعي بالنسبة الى مثل هذا النظام القائم على القتل والارهاب، ان يمنع منظمات حقوق الانسان من الانوجاد على الاراضي الليبية لأنها تشكل في نظره عنصراً هادماً لفلسفة النظام وكاشفاً لسياساته الهمجية.
عصارة الفكر
على غرار زعماء عرب من نمط صدام حسين، قدّم القذافي نفسه ليس فقط زعيماً سياسياً وعسكرياً، بل مفكراً وملهماً وأباً روحياً وفلسفياً للشعوب العربية المتخلفة، ووصياً على الفكر العربي، وهادياً للزعماء العرب، مشدداً على ضرورة استلهام ما يقوم به. لم يكفّ عن المناداة بحكم الشعب للشعب ورفض المؤسسات السياسية غير المنتمية الى الشعب والعاملة بأمرته، لكنه في المقابل كان يمارس أبشع أنواع الديكتاتورية وفق سياسة لا علاقة لها بالشعب من قريب أو بعيد. لم تنفع هذه “التطهرية” التي كان يستخدمها دوماً في أنه بعيد عن الحكم أو زاهد فيه، مفوّضاً السلطات الى المؤتمرات الشعبية واللجان الثورية، فقد كانت بصماته على كل صغيرة وكبيرة، يعاونه هذه المرة ابناؤه، بعدما كبروا وشبّوا وبات في إمكانهم تجميع الثروات ومشاركة والدهم في الهيمنة على مقاليد البلد.
في العام 1975، تفجرت عبقرية القذافي لتنتج للأمة العربية والعالم أجمع عصارة الفكر البشري في بناء نظام الحياة الجديدة، والعلوم الانسانية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية والهندسية، وذلك في “الكتاب الاخضر” الذي ألّفه العقيد في ساعات تجلٍّ وإلهام الهي. اعتبر القذافي ان هذا الكتاب يوازي الكتب الدينية المقدسة، وخصوصا القرآن عند المسلمين. فهو في نظره كتاب صالح لكل زمان ومكان، يحوي عصارة الفكر البشري وفلسفته في جميع المجالات. تقوم مقولة الكتاب الاساسية على ان “المجالس النيابية تمثيل خادع للشعب، النظام النيابي حل تلفيقي لمشكل الديموقراطية، فالمجالس حاجز شرعي بين الشعوب وممارسة السلطة، حيث عزلت الجماهير عن ممارسة السياسة واحتكرت السيادة لنفسها. اما الاستفتاء فهو تدجيل على الديموقراطية. واما الاحزاب، فمَن تحزّب خان، والحزب هو الديكتاتورية العصرية”. هذه بعض نظريات “الكتاب الاخضر” ورؤيته السياسية.
على غرار ما فعله ماوتسي تونغ في الصين في ستينات القرن الماضي، حين انتج للشعب الصيني وسائر شعوب العالم ما كان يُعرَف بـ”الكتاب الأحمر”، وجعله دستوراً للصين ونظام حياة لشعوبها، وضع القذافي كتابه الاخضر فوق كل الكتب والدساتير، وفرضه نظاماً على الليبيين، صغاراً وكباراً، وألزمهم دراسته وحفظه غيباً واللجوء الى مكنوناته لدى كل صغيرة وكبيرة. فرض تعليمه في المدارس والجامعات من الابتدائي حتى آخر مرحلة في التعليم، وكان في رأس المواد الخاضعة للامتحانات، حيث يقرر استيعاب مضمون الكتاب أو عدمه مصير الطالب في النجاح او الرسوب في المواد التعليمية. كما فرض على تلامذة المدارس ترديد عبارات منه قبل الدخول الى الصفوف، بديلا من تقليد إنشاد النشيد الوطني في بعض البلدان.
من المثير للسخرية ان الزعيم الليبي كان يطبع ملايين النسخ من كتابه العظيم ويرسلها الى بعثاته الديبلومسية لتوزيعها على شعوب العالم لتثقيف النخب فيها بفلسفة الحكم والحياة الواردة في نصوصه. في زياراته لبلدان خارجية وخصوصا منها الاوروبية، كان القذافي يقدّم “الكتاب الاخضر” الى الزعماء الذين يزورهم، ويأخذ وقته في شرح فلسفته، حيث كان يُستقبَل من الزعماء الاوروبيين بالثناء على الزعيم وأفكاره، وهو نفاق غربي هدفه الحصول على الاستثمارات والموارد من ليبيا، وخصوصا ان هؤلاء الزعماء كانو يدركون ان رأياً سلبياً في الكتاب ومضمونه قد يطيح صفقات بمليارات الدولارات.
المصالح الغربية ونفاق حقوق الانسان
خلافا لادعاءات القذافي وبهوراته في مواجهة الاستعمار والامبريالية، فقد كان النظام يقيم أوسع شبكة من العلاقات الشرعية وغير الشرعية مع المصالح الاوروبية. فهو فتح ليبيا أمام الشركات النفطية، وتقاسم معها موارد البلاد ونهب ثرواتها، ودخل في علاقات مع مافيات السلاح والتجارات غير المشروعة. ومثل كثير من الحكّام العرب، كان خطابه العلني المندّد بالمصالح الغربية مختلفاً كلياً عن ممارساته الداخلية في العلاقة مع هذه المصالح. كان يشتري نظامه من التشهير بواسطة الصفقات المالية. تجلّت هذه السياسة في الانتفاضة الاخيرة حيث تردد عدد من الدول الاوروبية في التنديد بقمع التظاهرات في ايامها الاولى خوفا من ان يطيح موقفها صفقات معقودة مع النظام، فيما لو ان الانتفاضة فشلت وعاد القذافي للإمساك بمقاليد البلاد. لعل ما ادلى به رئيس الوزراء الايطالي سيلفيو برلوسكوني في الايام الاولى للانتفاضة من أنه “لا يريد ازعاج الزعيم الليبي” عبر التعليق على الاحداث، يشكل ابلغ تعبير عن المواقف الاوروبية. لم تدل الدول الغربية بتعليقاتها على الاحداث الليبية إلاّ بخجل، بعدما وصل القمع وقتل المدنيين وتهديم البلاد الى مرحلة بات من المعيب على الذين يدّعون الدفاع عن حقوق الانسان السكوت عليها.
لم تُنتهك حقوق الانسان في ليبيا خلال الاحداث الاخيرة فقط، بل ان تاريخ هذا النظام هو انتهاك متواصل لحقوق الانسان. تدرك الدول الاوروبية خصوصا ما يجري في ليبيا من اضطهاد وقمع للحريات واعتداء على الحرمات وغيرها من الممارسات غير الانسانية التي برع النظام الليبي في ممارستها، لكن هذا النظام كان اقل الانظمة تعرضا للنقد من جانب الدول الاوروبية، وتجاهلاً لما يحصل داخله. كان التجاهل مقصوداً، لكون الدول الغربية وشركاتها غارقة في صفقات مربحة جدا في الاستثمارات النفطية او في شراء الطائرات والدبابات والاسلحة الثقيلة، وهو سلاح بدا ان وظيفته تنحصر في قتل الشعب الليبي وليس الدفاع عن البلاد في وجه الاعتداءات الخارجية المحتملة. هكذا اطيحت كل فلسفة حقوق الانسان، ولم تعد تشكل مطلبا، بل تحول الحديث فيها عبئا قد يطيح المصالح الغربية في هذه البلاد. كان القذافي يدرك قوته في هذا الجانب، ويعرف ان الدول الاوروبية ساعية الى رضائه، وان مبادئ حقوق الانسان تتوارى وراء المليارات الموعودة. لذا كنا نرى القذافي يتصرف بجلافة في زياراته الاوروبية ويفرض نمط سلوكه من دون اعتراض السلطات والمسؤولين في تلك البلاد.
الانتفاضة الى أين؟
لعل سؤال المصير المقبل للانتفاضة هو أصعب الاسئلة جوابا وتوقعات. لقد دخلت ليبيا في منعطف خطير من انتفاضتها وما يمكن ان تؤول اليه الامور. فهي تقوم في وجه نظام وزعيم لا يتردد في إبادة الشعب بكامله وتدمير كل انجازات البلاد من اجل البقاء في السلطة، وهذا ما تجري ممارسته اليوم بأبشع الطرق والوسائل. الانتفاضة تقوم في بلد يختلف كثيرا عن مصر وتونس من حيث تركيبه الاجتماعي ودرجة تطور المجتمع المدني فيه. فليبيا تتكون من قبائل وعشائر بدأت تنقسم على نفسها بين موالٍ للانتفاضة ومتمسك بسلطة القذافي، وهذا ما يهدد بصراع مسلح في ما بينها وادخال البلاد في حرب اهلية، لم يكن نجل القذافي سيف الاسلام قليل الافصاح عن هذا المصير، على غرار ما جرى في العام 1936، تالياً تقسيم البلاد. وهي سياسة كان الزعيم الليبي يمارسها خلال حكمه عبر “فرّق تسد” وتأجيج النزاعات والروح التناحرية والتنافسية بين هذه العشائر والقبائل. كما ان ليبيا تبدو مفتقرة الى مجتمع مدني ومنظمات اهلية يمكنها ان ترفد الانتفاضة بمطالب مدنية وسياسية تتصل بدولة القانون والحرية والديموقراطية وحقوق الانسان.
يبقى السؤال عن دور الجيش وموقعه وما اذا كان في الامكان ان يحسم الموقف ويجبر القذافي على الرحيل، على غرار ما فعله الجيشان التونسي والمصري. ينظر كثير من المراقبين الى صعوبة هذا الاحتمال، لأن الجيش سيتفكك الى مكوّناته الاولى، العشائرية والقبلية، وقد يحصل تمرد في قياداته العليا، وهو ما يعزز النظرية الليبية الرسمية في ذهاب البلاد الى حرب اهلية بين مكوّناتها من قبائل وعشائر. يفاقم الامر صعوبة ان النظام الليبي عمد منذ البداية الى إضعاف الجيش ومنع تكوّنه كقوة حسم في البلاد، خوفا من طموحات الضباط السلطوية، وعمد في المقابل الى تطبيق نظرية “الشعب المسلح” في وصفه مبدأ مركزياً وارداً في “الكتاب الاخضر”. هذه الميليشيا الشعبية تضم اليوم حوالى مليون ونصف مليون من الشباب المدرّب والحامل للسلاح، اي ما يوازي ربع الشعب الليبي. ان انقسام هذه الميليشيات والتحول في ولاءلات بعضها، يشكل احد عناصر الاقتتال الاهلي الواسع. لذا تبدو المخاوف كبيرة مما ينتظر ليبيا، وما اذا كان في إمكان قوى الداخل ان تتغلب على النظام واجهزته من خلال تواصل التحركات بشكل يومي. هذا في وقت بدأ النظام يتفكك من داخله، ويشهد استقالات لمسؤولين وديبلوماسيين فيه، وهو مؤشر جيد في سياق ازاحة النظام.
لن يأسف احد على زوال هذا النظام الذي ينتمي الى اهل الكهف، ولن يذكره احد بأي فضيلة، لا في داخله ولا في خارجه. لكن الخوف ان يقترن زوال الطاغية بانهيار البلد وتفككه، بما يجعل من الصعب اعادة اللحمة الى ارضه. فهل تكون ليبيا البلد الثالث في شقّ الطريق نحو استنهاض عربي على قاعدة الحرية والديموقراطية؟ لن يتأخر الجواب كثيرا في هذا المجال ¶
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى