ثورة ليبيا

جماهيـــر وجماهيـــر

عباس بيضون
الجماهير التي تركض مولولة تحت القصف الجوي، التي تعبر فوق قتلاها وتواصل السير. الجمهور الذي يستمر سلمياً حتى حين يجد السلاح. الجمهور الذين يعاود التقدّم حين يمطره الآخرون رصاصاً ويثابر الى ان يُسْقط في أيدي الجنود والضباط فيتحيدون او ينظمون إليه. لم يحصل في أي من البلدان الثلاثة الثائرة، «تونس، مصر، ليبيا» أن مزقت الجماهير شخصاً باشرها بالعدوان رغم كثرتها وحشدها. لا نعرف ان هناك من وثب عليه المتظاهرون وقتلوه رغم ان جماهير ملايينية واجهت مسلحين أفراداً حرضتهم السلطة على إيذائها، قامت ثورات ولا نعرف ان قصاصاً انزل بأحد او ثأراً قصد أحداً او ان عنفاً قوبل بعنف وإجراماً ووجه بإجرام. لا نعلم أن «الوحش الجماهيري» كما تصفه كتابات كثيرة افلت من عقاله وغلت في رأسه شهوة العنف والقتل. هناك فرق بالتأكيد بين جمهور ظافر منتصر وجمهور يعاني ويقاسي ويسير غير آمن من أن يتعرضوا له بالقتل والإجرام. فرق بين جمهور يشتفي ويثأر وينزل العقاب وجمهور سائر الى قدره المخيف. فرق بين جمهور تغلي غريزيته البدائية وجمهور يعرف أن عليه ان يلجم غريزته الخائفة ويضبط سلوكه وينتصر على نفسه فلا يهرب او يتخاذل امام عنف ينزله به مجرمون ورصاص يمطرونه إياه. ايمكن لنا عندئذ ان نفكر بأن ثمة جماهير وجماهير. ثمة جماهير تندغم في آلة غريزية فتاكة وجماهير تمشي الى خطر محتوم وموت محقق وتمسك أنفاسها لكي لا يطيح بها خوف غريزي، ويخرجها عن طورها ويحرفها عن مسيرتها. الموت يترصّدها وهي تتابع، أليس في هذا من الزهد والتضحية والنبل ما يخالف إطلاق تلك الصورة البربرية للجماهير الهائجة التي لا يروي غليلها سوى مزيد من قطع الرؤوس.
ثمة جماهير وجماهير. بعد أربعين سنة ونيفاً تنتفض الجماهير الليبية. لقد قدمت امثولة الصبر والسكوت وابتلعت الدروس الجنونية للقائد، واستعراضيته الطاووسية وأرديته الامبراطورية، ونامت على ذلك أربعة عقود كاملة. سلخ الليبيون أعمارهم كلها تقريباً وهم نظارة لرجل يجمع بين السفاح والمهرج والممثل والمنحرف والميغالوماني، هذا الرجل الذي لا يكنّ ولا يهدأ، إذا تكلم فهيهات ان يسكت، هو حبل هذيان لا يقر على شيء. يلعب بالأفكار لعبه بالأزياء. كلما عنّت له فكرة هجرها الى غيرها وتداولته الدوائر جميعها فهو عربي إسلامي، افريقي، بحسب ما يخطر له. ثم انه في سرعة كلامه وسرعة أفكاره يتكلم عن الجميع ويفكر عن الجميع فهم جمهوره وسميعته، وهو الملقن والمتكلم والمفكّر، ثم ان الثابت فيه خصيصة واحدة، هو انه بطّاش، يقتل على الظن، ويقتل بالمئات ويقتل حتى مدعويه وضيوفه. وليس في هذا من تقاليد الضيافة وخيمة الإعرابي، التي يحملها معه اينما حل، شيء، وشاء القذافي ان يكون بديلاً لشعبه، ان يكون لسانا عنه وذراعاً عنه. يتكلم نيابة عن شعب ويبطش نيابة عن شعب، ثم تراءى له انه وشعبه اثنان ولا يجوز إلا ان يكون واحداً أحد، فحلَّ شعبه وجعله هملاً، وحلّ الدولة وجعلها شبحاً، وحل الجيش وجعله صورة وفي هذا الفراغ حل وحده وحاشيته ومخابراته وأمعنوا في تهميش الدولة وللشعب حتى بات القذافي وحده منظوراً وما عداه نسياً منسياً. ليس عجيباً اذن ان يستشيط القذافي حين يكتشف ان الشعب الذي وضع عليه ألف قفل، لا يزال حياً ولا يزال له لسان وذراع. وحين يكتشف ان الصبر الذي سكت به الشعب عن نزوات القائد وشطحه قد تحول الى قوة وعصب وعضل، وقد خرج الشعب أخيراً أقوى عصباً وعضلاً، واستحق بهذا الصمت الطويل والصبر الأطول ان يثور وان يصمد في ثورته. استشاط القذافي حين عقّه الشعب وهو الذي جعل له اسماً بين الأمم، وهو الذي نصره على ثلاث دول وثلاث قارات، وهو الذي صار بفضله خير شعب بين الشعوب، كما صارت أمته بفضله خير أمة أخرجت للناس. ألم يكف القذافي انه رضي بهذه الأقوام لزعامته حتى انقلبت عليه. ألم يكفه انه جعل منها جماهيرية عظمى، ورضي بأن يخرج منها وينسب إليها وانه سوّدها هكذا بين الشعوب حتى ثارت عليه. لقد جعل لها مجداً ورسالة وخرج هو منها هادياً وبشيراً فكيف تهيأ لها ان تعقه وتنكر فضله، «من حق» القذافي ان يستشيط فهذه الأمة التي شرّفها بانتسابه لها لم تقدر هذا الشرف، وهو الذي تزاحمت الأمم عليه. أليس ملك ملوك افريقيا، أليس نسر الإسلام فكيف تخالفه هذه الليبيا، أليس مجدها وعزّها وسيفها ولسانها. ألم يجعل منها جماهيرية وعظمى بعد ان كانت دويلة نائية لا يدري بها أحد. ألم تهزم بفضله أسطولاً جويا أميركيا من 170 طائرة، ألم تنتصر على أسطول بحري بريطاني، ألم تغلب جيشا فرنسيا جراراً. كل هذا مذكور في خطبة العقيد الذي لم يجد في المتمردين سوى مجانين أدمنوا عقاقير (حبوب) الهلوسة. وابناء عاقيّن جروا العار على آبائهم وأولادهم وأهاليهم وقبائلهم. مثل مبارك وبن علي لم يجد القذافي في ما جرى غير سلوك ابناء جاحدين.
أخفى القذافي ليبيا، لقد نجحت الغرابة كما نجح الاستعراض في اخفاء ليبيا خلف رئيسها وهذياناته. كانت هذيانات القائد طوباوية «حكم اللجان الشعبية» لكن الطوبى غالباً ما تكون استبداداً دموياً. والحق ان القذافي نجح في تحويل ليبيا كلها الى حكاية خرافية، لم ير العالم كما يجب اغتيالاته حتى لضيوفه (اليوم نعرف من الهوني ان جثمان السيد موسى الصدر دفن في سبها) لم ير السفاح الذي فيه، لقد سلّى العالم ولقد نجح خياطوه في تقديمه بصور شتى، من القيصر الى الدرويش. هذه الملابس لم يكن في أي منها صاحب مدية ولم يظهر منها ملطخاً بالدم. لقد اضحك العالم فيما كان يسنّ سكاكينه ويزرعها في الرقاب.
وإذا قارناه بمبارك وبن علي بدا قاتلاً بالسليقة، قاتلاً بمزاج بل بدا قاتلاً فحسب وما الممثل الا لإخفاء الجثث. كان المضحك الذي فيه يسمح للقاتل بأن لا يترك أثراً، بل ان المضحك الذي فيه كان يسخر من قتلاه اولاً ويسخر من العالم الذي لا يتعرف عليهم. كان مبارك وبن علي لطيفين بالنسبة للقذافي الذي كان تألهه يتيح له ان يقتل ويقتل بدون أي تأنيب، وخطبته الأخيرة، بعد ألف قتيل، والتي رحم فيها الثوار والعالم بأسره ليست سوى سخريته من القتلى وثاكليهم.
كانت ليبيا الى حد كبير مسرح العقيد. لقد لعب بها كلها، في البداية أخفى الشعب، أخفاه في لجان ومجالس، ثم أخفى الدولة في عملية تذويب كاملة، عملية تجويف الشعب وتجويف الدولة، بقي هو وطغمته في الملعب. لم ير أحد الطغمة التي لم تكن أكثر من عصابة، رأيناه هو وحده، هو بأرديته الغريبة. هو بتهريجه وخطبه النبوئية، كنا نضحك كلما رأيناه ولم نسأل مرة أين اختفى الناس، أين اختفت الدولة. «ليبيانا» كان القذافي يقول ذلك بعظمة لسانه، فلا نملك الا ان نضحك. كان لويس الرابع عشر متواضعاً بالنسبة إليه، كان ابا العباس السفاح مجسداً ومجدداً. جامع رؤوس وآمراً بالسيف والنطع، واليوم نصدقه حين يقول إنه سيدمر ليبيا بيتاً بيتاً. نفهم منها انه سيقطع رؤوس الليبيين واحداً واحداً. مع ذلك نضحك مجدداً فلا يزال القذافي يخدعنا. المهرج فيه لا يزال يتفوق على السفاح.
ليبيا التي منحت التاريخ القديم فراعنة ومنحت التاريخ الروماني اباطرة لن تغتر بهذا القاتل في ثياب الامبراطور، انها صفحة جديدة من التاريخ لا نعرف من يبدأها، اننا ندخل الى العصر مع جبل من الأسى. يطالبون بملكية دستورية في البحرين، بديموقراطية بلا حدود في مصر وتونس وأيضا في ليبيا، ليس هناك من يجازف بنصيبه من الديموقراطية مثل اللبنانيين. ليس هناك من يحولها سواهم الى خنادق أهلية، من يقايضها باستبداد ملائم، من يستدعي مستبدين من الخارج حين يعزون في بلده. حين يكسب الآخرون ديموقراطيتهم بثمن مأسوي ستأتي ساعة حساب الذين كسبوها بلا تعب، ولم يبذلوا جهداً في سبيل البقاء عليها ستكون ساعة حساب قاسية او ربما لن تكون سوى سكرة جديدة أو سهوم طويل.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى