الحوار الملغم بالمصالح.. الموقف الأمريكي مما يجري في ليبيا
غسان المفلح
وأنا أتابع ثورات الشعب العربي واحتجاجاته على نظام إقليمي وسلطوي عربي بالدرجة الأولى ودولي أيضا، خاصة ما يجري الآن في ليبيا، حيث القذافي أصر على أن يعطي النموذج لما هي عليه أنظمة القمع والفساد والدموية، وأنا اتابع هذه التفاصيل التي دخلت بها الشعوب العربية مرحلة تعزيز الذات وإعادة بعض الحقائق إلى موقعها، تذكرت حوارا مهما دار بيني وبين باحثين أمريكيين معروفين، كلا على حدة بداية عام 2008، الأول هو ديفيد شنكر، والثاني هو لي سميث، والسبب أن النظامين الليبي والسوري كانا مثالين بشكل دائم في ذلك الحوار، لن اتوقف كثيرا عند حواري مع ديفيد شنكر الذي يعتبر من مثقفي وإعلاميي المحافظين الجدد المقتنعين بأن على أمريكا والغرب، أن يوليا أهمية لموضوعة الديمقراطية في الشرق الأوسط، رغم أن الرجل لا يخفي ميوله نحو مصالح إسرائيل وأمنها، إلا أن له وجهة نظر مختلفة، أقله كما فهمتها أنا، يرى أن نظما ديمقراطية في المنطقة وعملية سلام هما الضامن لأمن إسرائيل. لكن الزاوية الأكثر حساسية في حواري معه ومع لي سميث هي التي تتعلق بفضاء الإسلام فوبيا، حيث أن الرجل مقتنع مثل غيره أن الإسلاميين المتشددين يمكن أن يستفيدوا من الديمقراطية وينقضوا عليها، لكنه يختلف عن الآخرين بانه يرى ان هذا لا يمنع دعم الديمقراطية في الشرق الأوسط.. خاصة ان لديفيد شنكر تجربة غنية في متابعته لـ’حزب الله’ منذ أيام عمليات خطف الأجانب في لبنان.. إضافة لمتابعته لنشاطات القاعدة وصولا إلى ‘فتح الإسلام’، وكان مقتنعا أن كل التنظيمات المسلحة المتشددة في لبنان، للنظام السوري والإيراني يد في تأسيسها.. بدءا من ‘حزب الله’ وانتهاء بـ’فتح الإسلام’.
لم يكن الحوار صعبا بما فيه الكفاية، لأن الرجل لا يخفي جملة المصالح التي تقف خلف رؤيته، بوعي أو بدونه، لهذا فان الحوار معه واضح وصريح رغم الاختلاف. كنت أصر على أن لإسرائيل النسبة العظمى في أسباب العنف والفساد السياسي والمالي في الشرق الأوسط، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر، كما أن الرجل مقتنع بان إسرائيل حريصة كل الحرص على استمرار الوضع السياسي القائم في سورية وعلى جبهة الجولان، كما هو منذ عام 1974 واستمرار حالة اللاحرب واللاسلم، هذا ما كنت اتوقع أن اجد صعوبة في الحوار معه حول هذه النقطة، لأن سورية والوضع السوري كان هو الهدف والغاية من فتح هذا الحوار، إلا أن الرجل كان مقتنعا أن مشاكل الشرق الأوسط أهمها تتمحور حول عدم حل القضية الفلسطينية.
أما الحوار الآخر فكان مع الباحث المعروف في شؤون الشرق الأوسط وتنظيم القاعدة وله أكثر من مؤلف حول هذا الموضوع، لي سميث.
لي سميث كان يحمل بجعبته كل تنظيرات الأسلاموفوبيا، ومن جهة أخرى يريد ان يعرف رأي بعض من المعارضات العربية والسورية بالمواضيع التي تشغله في الواقع، وأهمها أن الإسلام المتشدد، وعلى رأسه تنظيم القاعدة هو أس المشاكل في الشرق الأوسط.. أما النفط وإسرائيل وأنظمة الاستبداد الفاسدة والمدعومة من الغرب، كانت كلها قضايا ثانوية، رغم اعترافه بأهميتها، هذا الحوار نشره الباحث في جريدة ‘الواشنطن تايم’، وكان امنيا في عرضه للحوارات التي أجراها مع كتاب ومعارضين سوريين، خاصة في تلك المقالة، أما كتابه الذي صدر لاحقا فلم أطلع عليه في الواقع، لأنه لم يترجم إلى العربية.. كان من الصعب بداية إقناعه بأن ثلاثية الرعب الشرق أوسطية تنظيم القاعدة وغيره من التنظيمات الجهادية أو الارهابية، كما يسميها، هي نتاج لهذه الثلاثية: النفط والغرب، ومن ضمنه إسرائيل وأنظمة القمع والفساد العربية.. كانت مجمل آرائي تتمحور حول مستويين:
الأول ـ إن الارهاب نتيجة لما سبق، هذا على المستوى التحليلي، أما على المستوى الثاني والسياسي بمعناه اليومي، فقد حاولت أن افند له العلاقة الاستخباراتية بين الغرب ونظم المنطقة من جهة، وعلاقة الاستخبارات هذه بإنشاء الشبكات الارهابية، ودعمها في السر والعلن أحيانا.. كأنني وقتها لاحظت أنه تفاجأ بما قاله له العديد منا، حول هذا الأمر، خاصة أنه لم يكن بوارد الاقتناع أن بدائل هذه النظم لن تكون إسلامية متشددة أو خلافه، أي فوضى ما لم يكن هنالك قرار ونية بذلك، كما يحدث الآن في ليبيا.. إنه قرار القذافي، إما انا ولا أحد في ليبيا، حرب أهلية وخلافه غير مهم، المهم أن يبقى هو قائد الثورة.. وضربت له مثالا على المصالحة التي كانت جارية آنذاك بين القذافي من جهة والإدارتين الأمريكية والبريطانية من جهة أخرى، وهما قبل أيام كانتا تتهمانه بالإرهاب وأنه يحاول امتلاك أسلحة دمار شامل، سلمها القذافي لهما كلها! لماذا قبلتا المساومة معه؟ لعاملين الأول النفط والثاني التعاون الاستخباري الذي قدمته ليبيا لهما.. حتى أني سألته سؤالا مباشرا، ما الذي تغير في علاقة القذافي مع شعبه ومع شعوب المنطقة وأنظمتها، فأجاب ‘لا شيء’ كنت أعتقد ان القطع الذي حاولت سياسات المحافظين الجدد مع السياسة الأمريكية التقليدية أعمق مما جرى، لولا أنهم حولوا العراق إلى فوضى، ونتيجة ضعفهم جراء العراق استطاع الأوروبيون اقناعهم بضرورة حل المسألة مع القذافي ومع النظام السوري، الموقف الأمريكي يلخص ليس فقط بجملة المصالح العليا للولايات المتحدة الأمريكية كما يردد الساسة الأمريكيون هذه العبارة دوما، بل الموضوع أعقد من ذلك بكثير، فاللوبيات هنالك كثيرة ومتداخلة، صحيح أن هنالك لوبيات أقوى من غيرها وتطفو على السطح دوما، كالإيباك الداعمة لإسرائيل مهما كانت مواقفها، حتى لو ارتكبت مجازر بحق شعوبنا العربية، لكن أيضا هنالك لوبيات تحمل تعصبا دينيا وتمييزا عنصريا ونزعة ثقافوية تتحدث عن أن شعوبنا يجب ان تبقى متخلفة، كل هذه اللوبيات تجتمع على قضية واحدة تلعب دورا في المواقف الأمريكية من المنطقة، وهي أنها ضد مصالح شعوب هذه المنطقة.. هنا تتكثف السياسة اليمينية التقليدية للحزبين الرئيسيين مع تمايز طفيف للحزب الجمهوري، وهذا سببه كما أعتقد أن الايباك أضعف تأثيرا في هذا الحزب، ما خلا حقبة المحافظين الجدد وكنا كتبنا عنها كثيرا..
الآن الموقف الأمريكي لم يختلف كثيرا عن الموقف الأوروبي من ثورات الحرية في مصر وتونس وليبيا، وآخرها تصريحهم لسلطنة عمان ألا تستخدم العنف ضد المتظاهرين العمانيين.. يتأتئون حتى يروا ما الذي يحدث على الأرض، وهذه التأتأة كانت مع القذافي كما كانت مع مبارك… لكن القذافي أعطى نموذجا مختلفا، كان من الصعب عليهم أن يتأتئوا في إعطاء موقف… انتقلوا الآن إلى الجهة الأخرى، علهم يستصدرون قرارا من مجلس الأمن يسمح لهم بالتدخل العسكري، وهذا ما ترفضه بالقطع المعارضة الليبية، وكثير من دول العالم، بما فيها روسيا والصين، الصين التي لم تكن ترغب في التدخل في أي مسألة تخص القذافي..
نعم القذافي جردهم من نفاقهم سواء أمريكيا أو أوروبيا، كانوا أضعف من أن يتحملوا وزر دعمه بأي شكل كان أمام هذا الهول من المجازر بحق الشعب الليبي من جهة، وخوفا من معارضة داخلية من جهة أخرى..
ما يميز الأمريكيين حتى عندما يتأتئوا عن الأوروبيين أنهم في مواقفهم يحاولون قدر الإمكان ألا ينافقوا في خطابهم، ليس لديهم خطاب مزدوج كما يقول بعضنا، لأنهم ليسوا مضطرين له مطلقا… هم من القوة ما يجعلهم اوضح في الدفاع عن المصالح العليا للولايات المتحدة الأمريكية كما يقال.
‘ كاتب سوري