صفحات مختارةياسين الحاج صالح

ســـؤال الممانعـــة مع سمير قصير

null
ياسين الحاج صالح

حتى وفاته قبل عام، ثابر جوزف سماحة على الانحياز لتصور عالِم وتقدمي للقومية العربية، تصور يفتح العروبة على قيم التحرر والمساواة والديموقراطية في العلاقات الدولية، ويعترض على الامبريالية في الغرب دون أن يرد الغرب إلى الامبريالية، ويرث روابط الحركة القومية العربية بالعالمثالثية والتحرر الوطني والاشتراكية، أيام كانت هذه تمثل خروجا إلى العالم وانتسابا إليه لا انسحابا منه وخروجا عدميا عليه.

ثمة تصور آخر، ماهوي وأصولي، كان يتقدم ويفرض نفسه منذ سبعينيات القرن العشرين. تصور يرد القومية إلى الهوية، ويعرف الوطنية بدلالة الموقف من «خارج» غربي متماثل مع نفسه، فلا يجد سندا إيجابيا لدعوته في غير «الإسلام». عبر عن صعود هذا التصور منذ ثمانينيات القرن السابق مؤتمرات تعقد في بيروت، توحد بين القومي والإسلامي. وأسهم مفهوم «الأمة» الذي تواطأ قوميون عرب وإسلاميون على تقاسم معناه في منح شعور بالاستمرارية. جوزف سماحة نفسه كان يستخدم هذا المفهوم الملتبس أحيانا.

بدا كأن الصيغة الماهوية من القومية العربية لا تجتهد لمحو أميتها، بل بالأحرى لمحو ما تعلمته ثقافيا في «عصر النهضة» أو «العصر الليبرالي» (الليبرالية والعلمانية وتحرر المرأة..)، وفي زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية (التحرر الوطني والاشتراكية). ولعل من شأن نظرة سريعة أن تظهر الفارق الشاسع بين مثقفين قوميين في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن العشرين وبين أبرز خلفائهم اليوم. نظرة سريعة أخرى إلى مطبوعات «مركز دراسات الوحدة العربية» حتى التسعينيات ومطبوعاته اليوم تجسد الفارق.

لم ينزلق جوزف سماحة إلى تزكية أمية «الأمة»، إلى تعريف الأمة بأصلها و«طبيعتها» لا بـ«ثقافتها»، لكنه ظل محدود الأثر على النزوع العام للفكرة القومية العربية نحو مزيد من «الطبيعة» و«الأمية» و«الأصل»، ومن الامتناع على الثقافة أو ممانعتها. لماذا؟

لقد تمركز تفكير جوزف سماحة في الشأن العربي حول العامل الجيوسياسي. هناك إسرائيل وأمــيركا والوطــن العربي والأمن القومي العربي والمقاومة والممانعة والحرب والتسوية. والمقاربة الجيوســياسية هذه قومـية بالفطرة وصراعية بالضرورة. ترى العالم عبر ثنائــية هم ونحن، العدو و«الأمــة». إن لم ينزع هذا التفكير إلى تصور الدول ككـيانات سياسية مصمتة، تتـماثل مع نظمها الحاكمة، فإنه لا يوفر أساسا متينا للتفكــير في البــنى الاجتــماعية والثقافية لدولنا وسياساتها. لا يتعدى ما يمكن أن يقال في مثل هذه الحال كلاما عاما عن الاستبداد. أو ردا للدول العربية إلى محور ممانعة ومحور «اعتدال».

والحال يبدو أن جوزف سماحة لم ير أو لم يشأ أن يرى النكوص الماهوي للفكرة القومية العربية. لقد استند في نقد أوضاع دولية وإقليمية جائرة إلى فكرة كانت تمعن في خسارة روحها النقدية والتحررية. وبصورة نسقية كان نقد سماحة القومي يقوده إلى الاصطفاف إلى جانب قوى «ممانعة»، فيسكت على استبداد سياسي فاحش، وعلى نزعات أصولية متفاقمة، وعلى ممارسات طائفية غير خفية للممانعين من دول ومنظمات (لا تقتصر عليهم بلا ريب، لكنهم غير مقصرين فيها).

يبدو كذلك أن جوزف سماحة ورث نزوعا نظريا متأصلا عند القوميين العرب إلى التحفظ على الدولة «القطرية» وبذل الولاء للأمة، فلم يهتم بمنازعة تشكيلات ما دون الدولة لهذه على شرعيتها، ولا عنى بأن الدولة القلب للممانعة تتصرف مثل منظمات ما دون الدولة، ممعنة تخريبا في «الأمة» المحكومة. ولا يتعارض إسقاط القوميين للدول من دائرة اهتمامهم النظري مع عشق خالص لها في المجال العملي. عشق اقتضى الدول الأكثر انتسابا إلى الفكرة القومية العربية إلى تفظيع بمواطنيها لا نظير له في العهود الاستعمارية، وإلى تطويب الدول أملاكا شخصية تورث. ولقد أسهم المفهوم المشترك للأمة في إضعاف شرعية الدولة، كيانا ومؤسسة حكما، من فوقها (الأمة العربية) وسهل إضعاف شرعيتها من تحتها (تنظيمات ما دون الدولة التي تطابق ذاتها مع مفهوم للأمة الإسلامية). ورغم عمى هذا المفهوم عن مشكلات الأقليات، إلى أنه كان يظهر عقدة نقص واضحة أمام أية أقلية أو منظمة دينية تنتحل النطق باسم «الأمة».

ليس جوزف سماحة غريبا عن هذه الإشكاليات. يقربه منها المفهوم الذي ربما تمحور تفكيره في السنوات المنقضية من هذا القرن قبل وفاته حول «الممانعة». لم يبتكر المصطلح، لكن لا ريب أن لترويجه لهذا المفهوم الفضل الأول في تزويد المعسكر الممانع بوعي ذاتي كان عاجزا كل العجز عن تزويد نفسه به. يتكون المعسكر هذا كما ألمحنا من دول استبدادية، بل طغيانية، ومن تشكيلات ما دون الدولة ذات إيديولوجية إسلامية. ورغم أن الأخيرة حركات منخرطة في مقاومة صريحة لإسرائيل، إلا أن مقاومتها لا تطل على أي أفق عام أو مشروع مستقبلي، يتخطى تقديس المقاومة نفسها. ويتكثف غياب المشروع في دلالة المفهوم السلبية التي تحيل إلى المنع والامتناع والتمنع والمناعة.

وقد يكــون الأصل في ذلــك افــتراض أن المشــروع موجود، وأن المقاومة والثبات هما كل ما يــلزم. ولعل جوزف سمــاحة لم يكن بعيدا عن هذا الافتراض. لكن أين المشروع؟ أين الحركة القومــية التي يمكن أن توحد بين مطلبي التقدم الحضاري والنهوض الثقافي وبــين الاستقلال الوطني والتعاون أو، إن شئت، الوحدة العربــية؟ علمــا بأن لا معنى للكلام على مشروع، ولا بالخصـوص على مشــروع قومي، دون توحيد المطلبين؛ علما كذلك بأن الحركة القــومية العربــية في تجسداتها الناصرية والبعثية كانت قدمت صيغة ما لوحدة المطلبـين. وإن تكن صيغة متهافتة بسبب التمركز المفرط حول السلطة المطـلقة التي أفقدت المشروع روحه وحلت محله.

انقضت ثلاثة عقود أو أربعة على إخفاق المشروع ذاك ونهضت خلالها حركات إسلامية طامحة إلى السلطة، محافظة اجتماعيا وفقيرة فكريا. ويبدو أن زمانها هي الأخرى آخذ بالانقضاء.

لكــن لــمَ لا تكــون «الممانعة» هي الحركة القومية الجديــدة؟ لمَ لا يكون النظام الســوري وحــزب الله وحمــاس… هم الحــركة القـومية الجديدة؟ ليكن، ما هي ثقافة هذه الحركة؟ ما هي قيــمها؟ أيــن الحرية والمساواة؟ أين القانـون؟ أيــن الدسـتور؟ أيــن الدولــة؟ وقبــل الجميع، أيـن القــومية؟

.. وغياب المشــروع يسوغ استراتيجية جديدة، يحتل تجديد الفكر وتوسيع الطاقة الاستيـعابية لثقافـتنا مركزها. ومن التقاء فكر متجدد وثقافة ناهضة بحركة اجتماعيـة يمــكن أن يتشكل مشروع جديد أوسع أفقا وأغنى بالطاقة التحررية. بيد أنه يندر أن تجد التجديدات الفكرية معادلا حركيا مزامنا لها. قد ينقضي جيل أو أكثر بينهما. وهذا يمنح الأولوية الآن للنقد: نقد السلطات ونقد الدين ونقد السياسة ونقد الثقافة ونقد «الأمة» …

ولعــل في ذلـك الوفــاء الأصـدق لجـوزف سماحـة الذي بقـي «ثوريـا» حتى أيامه الأخـيرة. فحيثما تكن الثورة غير ممكـنة، ولـو لأن فكــرتها مشوشـة اليــوم، فإن النـقد ممـكن. فـهو اسـتمرار بطريقة أخرى للثورة، وهو بـعد منقـذ من الجـزع والبـؤس ونــفاد الصـبر، الأعراض التي يظهر مثقفو العمل أو الثورة السابقون من أمثالــنا استعــدادا خاصا للإصابة بها.

والنقد هو ما لم يكتف به المثقف اللامع جوزف سماحة. رغب أن يكون قريبا من «العمل». وحين اقترب كثيرا… مات. لم أكد أتعرف على جوزف سماحة، لكن أفضل أن أتخيل أن المثقف اللامع والصحافي الرفيع المستوى جوزف سماحة مات لأنه أراد أن يجعل من الصحافة أداة نضال وعمل، في زمن ربما يناسبه أكثر أن تبتعد الصحافة والثقافة عن العمل لتنقذ نفسها. لكن، من يدري؟ ربما دهمته، فقتلته، نوبة شعور مسمم بأننا إنما نتخبط تخبطا مشينا لا ينتهي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى