زنازين لها أجنحة!
خيري منصور
الكوميدي يتسلل الى ذروة التراجيديا الان، سواء من خلال خطاب رئاسي لم يتورط بمثله حتى كاليغولا، او في الاستدارة الماهرة والمدربة لإعلام مراوغ، من حق سادته وسدنته على السواء ان يقولوا له وهم يرحلون: حتى انت يا بروتوس، والمشاهد التي لها مثل هذا الهول، وعنفوان القيامات لا تقبل الاختزال، فثمة من يرقص طربا لأنه حقق حلمه المزمن وانتصر على كابوسه المقيم، وثمة من يرقص ايضا لكن كالمذبوح من فرط الألم.
هناك قادمون وآخرون مدبرون في هذه الجدارية القومية التي ساهم ملايين الشباب العرب في رسمها وان كانت ألوانها من دمائهم ودموع امهاتهم. وللحظة نغمض اعيننا ونتساءل كيف عشنا وحُكمنا كعرب قرابة نصف قرن على النحو من التّقريد الذي استحق فيه الجنرال وحاشيته وفقهاء ملذاته ومحترفو الدفاع عن خطاياه براءة اختراع لأنهم عاشوا عقودا رغما عن التاريخ وعنّا جميعا وكأن كل رغيف او قطرة زيت او حفنة شاي كنا نتعاطاها كانت ملغومة بمخدر؟، والا كيف تواصل ذلك السبات؟ وبأية معجزة تحولت الهزائم الى اوسمة، واضيفت نقطة الى العار كي يصبح غارا على رؤوس خاوية لا هاجس لها الا البقاء على قيد السّلطة حتى لو كان ثمن ذلك ابتلاع خوازيق الاعداء كلها طواعية وعن طيب خاطر؟….
واجدادنا الذين قالوا شر البلية ما يضحك نسوا ان يضيفوا النصف الاخر لهذه المقولة وهو ان خير الضحك يبكي ايضا، ولا ادري كيف نقرأ عيون وايماءات وحركات وأجساد هؤلاء الذين طالما اصاب زفيرهم الكريه المشاهدين للشاشات الفضائية بالزكام الذي يتسبب به فيروس آخر لا علاقة له بالخنازير والطيور، انه فيروس الذرائعية العمياء وثقافة الكدية والمسألة ومواعظ لعق لعاب الكلب اذا تطلبت الحاجة ذلك!
والأرجح ان نظاما عربيا انتهت صلاحيته منذ بدأ او قبل ذلك، كان قد بلغ حدا من التعفّن بحيث لو ترك وحده سوف يسقط ايضا ولا يقوى على مقاومة جاذبية الأرض والواقع المفعم بكل هذا الشقاء ..
والسؤال الذي لا يقبل التأجيل هو: مَن ساهم في صياغة تلك النظم وقام بتجميلها ودافع عن اخطائها ؟ وهل كان الديكتاتور سيقوى على البقاء رغم صولجانه الذي قضمه السوس لولا هؤلاء الذين حولوا اعناقهم الى أعتاب؟
* * * * * * *
قد يسأل شاب عربي الان عن دور الثقافة في تشكيل وعيه، وقد يبحث هو وأقرانه عبثا عن تلك الرافعة المعرفية التي ارتكز اليها وهو يقفز من القاع الى السطح، رغم انه نزف من الدم ما يكفي لأن يطفو لينجو، لأنه على موعد محتم مع هذه اللحظة التي تحول فيها السؤال الداجن في اقل من يوم واحد الى مساءلة مدججة بملفات الفساد المتعدد الابعاد والرؤوس …
نعرف ان هناك مثقفين او اناسا حسبوا على هذه المحنة لاسباب تتعلق بالبطالة واهمال المقاييس كانوا قد غسلوا ايديهم من أية محاولة للتخطي او التجاوز، وثمة من استقالوا مبكرا من التاريخ والجغرافيا ايضا كي يتفرغوا لرعاية اوطان صغيرة لا تزيد مساحاتها الخانقة على مساحة شقة او جُحر.
ان ركوب الموجات ليس طارئا، بل هو حرفة لها روادها وفقهاؤها ودهاقنتها ايضا، نذكر للمثال فقط كيف قلب مفكرون ومثقفون ظهر المجنّ لثورة يوليو لمجرد ان غربت شمسها، وكيف قلب جنرالات معاطفهم كي يجددوا صلاحية الخدمة، ونذكر كيف اصبح من سبّحوا بحمد السد العالي ومصانع الحديد والصلب والتأميم من محترفي الهجاء لكل تلك المنجزات قبل أن يجف الماء عن قبر الزعيم. لكن شعوبا كابدت كل صنوف التضليل والغواية والشقاء لا بد انها تلقحت ضد هذه الجراثيم، وان كان عليها ان تضيف الى لقاحاتها وأمصالها الباسلة وعيا آخر بأن الجراثيم قادرة على التأقلم والهجرة السريعة من اليمين الى اليسار ومن الغرب الى الشرق ومن الموالاة الى المعارضة والعكس ..
يجب ان لا يكون خلط الاوراق تحت ذريعة التسامح بمثابة حاضنة دافئة لمن يهجعون بانتظار فرصة مضادة، فما كان لهذا الواقع ان يبلغ ما بلغه من الرثاثة والتدنّي والفاقة وفائض الخوف لولا ان هناك عوامل ساهمت في تلويث الثقافة وتهريب الواقع، فالتحالف اكثر من استراتيجي بين الديكتاتور في السياسة وكلابه المدرّبة على شمّ رائحة الوعي المضاد والمفارق، وان كان غونتر غراس قد حاول ان يتقصى كلاب الفوهرر المدلّلة فمن باب اولى ان يقوم امثاله من العرب في تقصّي مصائر الكلاب التي أدمت أقفيتهم، واصابت بعضا منهم بالسّعار، فاستدار مئة وثمانين درجة كي يهجو ما كان يمدحه للتو او العكس!
* * * * * * * *
كم يشعر المثقف العربي غير المرتهن الا لوعيه والذي لم يتورط بأية شهادة زور بالخجل الان وهو يصغي الى خطاب لا يستطيع اقترافه قطيع من طغاة روما في خريفها؟ ان هذا المثقف رغم براءة ذاكرته من الشعور بالاثم يتساءل باندهاش كيف كان محكوما على هذا النحو لعدة عقود؟ وأين كان يصب حبر المقالات والقصائد والروايات؟ هل كان ما كتب على الماء ام على الرمل واين كان المرسل إليه؟
ما يجري الان هو اليوم العاشر او الألف من الاسبوع، لهذا تراكمت المديونيات، بدءا من الثقافة والسياسة حتى الاقتصاد، ولا ندري بأية معجزة حوّل هذا النظام الشائخ الذي فقد اسنانه وكان حوله من يمضغ له لحمنا ويحشوه في فمه الأدرد فائض الثروة الى فائض فقر وادقاع وفائض الجغرافيا الى زنزانة تعج بثلث مليار انسان؟ وكيف حول الامتياز الى نقيصة، فالحكاية كما آل اليه فصلها قبل الختامي أبعد من الترحيل او الخُلع السياسي، رغم ان هذا الباتريرك العربي ذا الوجوه والأقنعة العديدة رفض بقوة كل المطالب بالطلاق وكان في كل مرة يقتاد شعبا كالزوجة الجريحة الى بيت الطاعة، وهذا ما أدى الى طرق باب آخر هو باب الخلع السياسي … ان من لم يؤتمنوا على متاحفنا وثقافتنا وذاكرتنا القومية وأشواقنا وترابنا وقبور أسلافنا ليسوا منّا، فالغزاة لا يأتون دائما من خارج الحدود وأردأ احتلال في التاريخ هو ذلك الاحتلال المموه والذي يأتي من نخاع العظم وليس من خارج الجلد!
* * * * * * *
كأننا قبل هذا الاندلاع من القمقم كنا نعيش ما قبل الماغناكارتا وما قبل العقد الاجتماعي وما قبل الدولة … رغم ان الثرثرة المرصّعة بالمصطلحات لم تكف عن المابعديات بدءاً من ما بعد الحداثة حتى ما قبل الاستعمار…
أخيرا … أين هو الحاسوب الذكي الذي يدلّنا على حقيقة حبِل بها التاريخ قرنا على الأقل …. وهي ان ما نزفناه من دم ودمع في سبيل استقلالنا عن غزاتنا قد يكون اقلّ مما ننزفه الآن من اجل الخلع السياسي والخروج من زنازين الارتهان؟؟