رياح التغيير
علي كنعان
لم يعد الكاتب قادرا على اللحاق بما يجري على أرض الواقع في العديد من المدن والساحات العربية. إن رياح التغيير العاصفة راحت تكتسح الحواجز والأسوار بشدة واتساع، ولن تقوى أجهزة القمع ولا العناصر الحزبية التي تحولت إلى عصابات بلطجية عشواء أن توقف الإعصار الجماهيري الهادر بين المحيط والخليج. ومن مظاهر الكوميديا السوداء المضحكة إلى حد البكاء، وهي فاجعة إلى أقصى حدود الضحك الهستيري.
من هذه المظاهر أن تقوم أجهزة الخدمات في النظام العربي القمعي بتوزيع الحبوب المسكنة وحقن المخدرات وفتافيت من الأطعمة على العائلات المسحوقة تحت وطأة القهر والفقر والإذلال.
الكرامة أولا يا سادة، قبل الخبز وبعده وإلى جانبه. المواطن الذي كتمت أنفاسه وهدرت كرامته طوال أربعين أو ثلاثين سنة أو حتى لحظة واحدة.. لا تعنيه ‘المكرمات’ التخديرية المفاجئة التي تهبط عليه في المواسم من شرفات القصور والدوائر الرسمية التي نهبته وأهانته وسلبته أبسط قيم الحرية والعدالة والكرامة والمساواة التي كان يحلم بالحصول، ولو على الحد الأدنى منها، بعد كل هذه السنين. وإذا كان جنرال الشتاء الروسي هو الذي أسهم في دحر قوات الغزو أيام نابليون وهتلر، فإن جنرال الفساد المستشري سوف يطيح بحماته ومستثمريه وعصاباته جمعاء. ويكفي أن نتأمل ما جرى في تونس ومصر، وما يجري في اليمن وليبيا والبحرين وحتى الجزائر، ولن نغفل عن الحريقة في دمشق. ولكن، من مرارة السخرية أن أنظمة العسف والاستبداد لا تقرأ التاريخ ولا تعتبر بدروسه، وفي النهاية لا أحد يستفيد إلا من تجربته المأساوية ذاتها، إنما بعد فوات الأوان.
إن سورية ـ لمن لا يعرفها- من أغنى البلاد العربية، لو كان هناك نظام سياسي يمتلك حدا أدنى من العدالة الاجتماعية والإنصاف بالمعاملة، حتى لا أقول المساواة. عندما كنت أقول للأصدقاء اليابانيين في جامعة طوكيو وخارجها: لكل سوري أربع شجرات من الزيتون فقط، فضلا عن القمح والقطن وسائر الحبوب والأشجار المثمرة العديدة بتنوعها ومواسمها، كانوا يشهقون تعجبا وإعجابا. وللعلم فقط، سكان اليابان يقاربون نصف سكان الأمة العربية ومساحتها تبلغ ضعفي مساحة سورية، ورقعتها الزراعية لا تزيد عن 14 ‘ من مساحة ذلك الأرخبيل الجبلي العجيب.
كان حزب البعث القائد كما اقترحته المنطلقات النظرية- يضع الاشتراكية في المرتبة الثالثة من أهدافه، لكن ذلك عهد مضى وانتهى مع انهيار المنظومة الاشتراكية، وربما بات الحديث فيه مضحكا لدى كثير من أعمدة النظام والجيوب السرطانية المتشكلة من حوله. وفي منتصف السبعينات، قبيل الانفجار الدموي بين الأخوان المسلمين والأخوان المستلمين، قلت لوزير إعلام صديق: أفكر بأن أكتب مسلسلا عن مسيرة البعث وتجربة جيلنا من النضال السلبي حتى اليوم. أشرق وجهه السمح وقال مباشرة: ابدأ الكتابة وسآمر بمنحك ستين ألف ليرة سورية سلفة على الحساب، أي ما يعادل ثلاثة آلاف دولار، وكان هذا المبلغ كافيا لشراء بيت تزيد مساحته عن مئة متر في أرقى الأحياء الجديدة بدمشق. قلت له: لكني سأذكر أن المناضلين الذين كانوا يتجولون بمشقة وحماسة وإخلاص بين القرى وهوامش المدن صاروا لا يركبون إلا سيارات المرسيدس من أحدث طراز، فامتقع وجهه وقال: لا، هكذا.. تخَّنتَها! الشاعر المتشائم لا يرى إلا الجانب المظلم من الصورة…
من يتابع محطات الإعلام العربي، لا بد أن يوجه تحية إكبار واعتزاز لقناة الجزيرة. لكن من يتأمل البث الفضائي السوري، فلا بد أن يصاب بالبلبلة والدوار. وإذا كان فيه ذرة من حب الوطن والكرامة الإنسانية والوعي المعاصر.. فلا بد أن يتساءل: في أي متحف يعيش هذا المخلوق العبقري الذي يشرف على ذلك الإعلام؟ هل سمع بالقرن العشرين وسقوط السلطان الأحمر؟ وهل يدرك أن سورية استقلت قبل أربع وستين سنة؟ وهل هذه هي سورية فعلا التي كان اسمها كوبا الشرق؟ أم أنها اصطفت إلى جانب ليبيا الكتاب الأغبر وكوريا الشمالية المحنطة؟
إن عمري لا يسمح بقبول أي تعصب أعمى أو تطرف عنصري مريب، وليس من عادتي ولا خلقي ولا قناعتي أن أدعو إلى إسالة قطرة من دم من أي إنسان، حتى لو كان جلادا مسعورا غاشما، وهذا يمكن إحالته للعلاج والمحاكمة لينال القصاص العادل. لكن الإصلاح الجذري ممكن بإنهاء الأحكام العرفية أولا، وبإبرام عقد اجتماعي جديد، ودستور عصري جديد، واستقلال القضاء والإعلام في ظل سيادة القانون، وإطلاق الحريات العامة، بدءا من حرية الاجتماع والتعبير. ولا بد للدستور الجديد أن يحظر تشكيل الأحزاب الدينية، دون أن ننسى أن عبارة (حزب البعث) تعني أنها تسمية ذات صبغة دينية ينبغي أن تخضع للبحث عن اسم سياسي بديل.
تلك هي بعض أحلام شاعر عجوز يرجو أن تتحقق بحكمة وأناة… وإلا فعلينا جميعا وعلى الدنيا أهوال الوبال، وليس السلام.
إن رياح التغيير صارت حتمية تاريخية لا مرد لها، رغم محاولات الالتفاف عليها ولو إلى حين- بإنشاء مزيد من مصدات الرياح وأجهزة القمع. ومن الواضح بلون فاقع ودوي مجلجل أن محاولات الالتفاف والتخدير يائسة بائسة، مهما لبست من أزياء البر والإحسان وغطت وجوهها بأقنعة الصدقات ومساحيق التجميل، فهي سوف تنتهي إلى مزبلة التاريخ، رغم المجازر الوحشية التي يمكن أن تقترفها أجهزة القمع المتربصة والمزودة بأحدث الأسلحة. لكن حكمة التاريخ تؤكد الصورة الشعرية القائلة: فكم غيَّر الدم لون المرايا؟ وكم غيَّر الدم سيرَ الفصول؟!
القدس العربي