مصــر تســتعيد روحهــا
فواز حداد
في دمشق بداية الستينيات من القرن الماضي، كنا بضعة شبان صغار من هواة الأدب طلبة التجهيز الأولى المرحلة الإعدادية، قد قطعنا شوطاً في القراءة، ما أتاح لنا التعرف في تلك الفترة إلى نجيب محفوظ، فقرأنا ما كتبه حتى ذلك الحين من «عبث الأقدار» إلى «السكرية». بعدها كان صدور أية رواية له ابتداء من «اللص والكلاب» تعد بالنسبة إلينا حدثاً أدبياً مثيراً. وكان من الطبيعي بعد الإعلان عن صدورها في القاهرة، أن تصل إلى دمشق خلال أقل من شهر، نشتريها من «مكتبة النوري»، وكيل دار «مكتبة مصر» في ذلك الحين، ولا يكاد يمر أسبوع أو أسبوعان حتى نقرأ عنها عدة مراجعات نقدية لعبد القادر القط أو علي الراعي أو محمود أمين العالم في مجلة «المجلة» المصرية التي رأس تحريرها الأديب يحيى حقي، أو في غيرها من المجلات، وأحياناً في ملحق يوم الجمعة لجريدة الأهرام. منذ ذلك الزمن تابعنا محفوظ، ونزعم أننا قرأنا رواياته كلها، وبعضها أكثر من مرة. وكان من فرط تأثري به، أنني عندما ذهبت إلى مصر لأول مرة في أوائل الثمانينيات تمشيت في شوارع القاهرة بألفة عجيبة وكأنني مازلت أدرج على صفحات مؤلفاته «خان الخليلي» و«زقاق المدق» و«السكرية».
بدأت رحلتي إلى الأدب بمجرد تعلمي القراءة، وربما كان موقع بيتي على مقربة من بسطات الكتب المستعملة المنتشرة على أرصفة شارع الفردوس وبوابة الصالحية، والأكثر جاذبية تواجد عدة مكتبات مشهورة من بينها دار اليقظة العربية والمكتبة العمومية في شارع فؤاد الأول آنذاك، كان أحد أسباب شغفي بالأدب، ففي صغري أثناء ذهابي إلى المدرسة كانت واجهات المكتبات الزجاجية تسترعي نظري فأقف متأملاً الأغلفة الملونة للكتب. وكانت هدية أخي الأكبر لي أنه اشترى لي مجموعة المكتبة الخضراء، بعد أن لاحظ انكبابي وأنا في الصف الثاني ابتدائي على قراءة المجلات المصورة «سمير» و«زوزو»، إلى أن حققت قفزة بالذهاب إلى «المركز الثقافي المصري» في حي أبي رمانة، والذي أصبح بعد الوحدة السورية المصرية «المركز الثقافي العربي». كنا أنا وأصدقائي هواة المطالعة نقصد المركز في العطلة الصيفية يومياً صباحاً وحتى الظهر، أشبه بالدوام الوظيفي. لتجمعنا الغرفة الصغيرة المخصصة لكتب الناشئة، وبهذا الدأب استطعنا أن نقرأ أغلب ما احتوته، وكانت تضم أقاصيص كامل الكيلاني وغيرها من الروايات العالمية المشوقة والمبسطة مثل ايفنهو وسجين زندا وبينوكيو، من إصدار دار المعارف. في ذلك الوقت كان ممنوعاً على صغار السن قراءة كتب الكبار في القاعة المجاورة، لكننا تجاوزنا شرط السن وانتقلنا إلى القاعة الكبيرة الغاصة برفوف الكتب المجلدة، وكان انقضاضاً مشهوداً على تلك الثروة الهائلة من الروايات الانكليزية والفرنسية والروسية المترجمة، ومعها الروايات العربية ليوسف السباعي وإحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ وقصص يوسف إدريس ومسرحيات لتوفيق الحكيم.
كانت الرواية اكتشافنا المبهر والمبكر جداً، بحيث وقبل أن أتم الرابعة عشرة من عمري قرأت ما احتواه المركز من مؤلفات الروائيين والقصاصين المصريين، فلم يفتنا عادل كامل (روايته الوحيدة مليم الأكبر) محمود تيمور وعبد الحليم عبد الله ومحمود بدوي وإبراهيم الورداني وأمين يوسف غراب ويحيى حقي ويوسف الشاروني… الخ. وبعد سنوات اطلعنا على الكتابات النقدية التي تتطرق لهذه الأعمال، فتعرفنا على محمد مندور وأنور المعداوي ولويس عوض ورجاء النقاش وغالي شكري وصبري حافظ… وغيرهم.
لكن الرواية لم تكن مدخلنا الوحيد إلى الثقافة المصرية، كانت أبواب الأدب قد تفتحت لنا،
ما استجرنا إلى الكتب والمجلات الثقافية الشهرية من «الهلال» و«كتاب الهلال» و«روايات الهلال» إلى «كتابي» و«مطبوعات كتابي»، وفيما بعد مجلة «المجلة»، و«الفكر المعاصر» (رأس تحريرها زكي نجيب محمود، ثم فؤاد زكريا)، و«المسرح» (رأس تحريرها رشاد رشدي)، «السينما»، «الفنون» و«تراث الإنسانية» و«الفنون الشعبية» وسلاسل النصوص المسرحية: «روائع المسرح العالمي» و«مسرحيات عالمية» و«مسرحيات عربية» و«مسرحيات مختارة».
غير أن النهم للثقافة لا يقف عند حد، وهذا ما قادنا إلى عوالم التراث والفكر، فقرأنا طه حسين بطبعات بيروتية، واطلعنا على المنشورات الرصينة لـ«دار المعارف» المصرية»، سواء سلسلة تحقيق التراث وعلى رأسها «تاريخ الطبري»، أو سلسلتها الشهيرة «اقرأ» التي أشرف عليها طه حسين. كما اعتنت دار المعارف بنشر كتب جماعة علم النفس التكاملي التي أشرف عليها الدكتور يوسف مراد، كذلك جماعة التحليل النفسي وترجمتها لبعض أعمال فرويد لاسيما «تفسير الأحلام» بترجمة متقنة ما زالت ناصعة حتى اليوم، بالإضافة إلى مختلف تيارات علم النفس، وأيضاً الاهتمام بالفلسفة ترجمة وتأليفاً أو تعريفاً بالمذاهب الفلسفية القديمة (التراث اليوناني وترجمة أعمال أفلاطون) والحديثة (المثالية والمادية الماركسية والوضعية المنطقية والظاهراتية والوجودية…) قام عليها كبار المفكرين المصريين أمثال: إبراهيم مدكور وعثمان أمين وزكريا إبراهيم وفؤاد زكريا وزكي نجيب محمود…. الخ أما الفلسفة الإسلامية، وكان لها الكثير من المختصين أمثال عبد الرحمن بدوي وأبو العلا عفيفي ومحمد سامي النشار وحسن حنفي وغيرهم، بالإضافة على علم الجمال والاجتماع… عدا عن نشر الموسوعات بأنواعها التخصصية المختلفة مثل «الموسوعة الإسلامية»، «الموسوعة العربية الميسرة» «الموسوعة الفلسفية» «موسوعة علم الاجتماع» «الموسوعة الاشتراكية»…. وغيرها.
ولقد أسهم لطفي الخولي في مجلة «الطليعة»، وأحمد عباس صالح في مجلة «الكاتب» برفد قراءاتنا اليسارية السياسية، كما وبالدرجة الأولى مقالات محمد حسنين هيكل التي كنا ننتظرها كل أسبوع، يجذبنا فيها عدا عمقها السياسي ومجاراتها للأحداث الساخنة لغتها الآسرة، السلسة والواضحة.
من حسن حظنا، أنه في ذلك الوقت كان النهوض القومي قد بلغ ذروته، وشهد تجلياته في الثقافة، طرح أبانها شعار «الثقافة للجميع»، انعكس بتوافر الكتاب بأسعار رخيصة، وكان الترويج لهذه السياسة في إصدارات الدار القومية تحت شعار (كل ست ساعات كتاب). ما أتاح لنا أن ننهل ثقافتنا الأدبية والتشكيلية والسينمائية والمسرحية من خلال ما تنشره المطابع المصرية لمختلف دور النشر.
من الصعوبة بمكان الإلمام بالنتاج الثقافي المصري في فترة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، إن لم نتطرق إلى مشروع «الألف كتاب» الأول والرائد باختياراته الموفقة وترجماته الأمينة وطباعته الجيدة، والتي تميزت عن مطبوعات الألف كتاب الثاني والهيئة العامة للكتاب والمجلس الأعلى للثقافة، التي عانت من رداءة الترجمة وامتلائها بالأخطاء المطبعية والإملائية والقواعدية، طبعاً مع الكثير من الاستثناءات.
يصح القول: هذا غيض من فيض هائل شكل البنية التحتية لثقافتنا، التي لم تتوقف عند نوع أو اتجاه واحد ولا محدد، كنا نقرأ للجميع ومن مختلف صنوف المعرفة. وهذا لا يعني على الإطلاق إهمال النتاج السوري واللبناني، لكنه لم يعادل المصري بحجمه ولا بتنوعه، والأهم نوعيته وغزارته على كافة المستويات. وما ساعد على امتداد هذه المرحلة، هو النهوض القومي الشامل في المرحلة الناصرية، الذي عمّ البلدان العربية، ولم يقتصر على فكر دون آخر. وانعكس نهضة شاملة اجتماعية وأدبية وسينمائية ومسرحية… أفرزت نهضة مسرحية أنجبت كتاباً كان من بينهم نعمان عاشور، الفريد فرج، محمود دياب، نجيب سرور ميخائيل رومان… كما شجعت مجلة «المجلة» وغيرها الكتاب الشباب الذين أطلق عليهم جيل الستينيات ممن يتصدرون اليوم المشهد الروائي والقصصي المصري مثل: جمال الغيطاني وإبراهيم أصلان، محمد البساطي ويوسف القعيد وغيرهم كثير.
لم أقصد القيام بجردة مختصرة للنتاج الثقافي المصري في مرحلة مضت، وإنما أردت من موقعي كقارئ تبيان مقدار تأثيرها في جيلي، وكان لها الفضل في تأسيس الجانب الأكبر والاهم من ثقافتنا، والتأكيد على أنها كانت ثقافة منفتحة على عكس ما يشاع عن المرحلة القومية الناصرية في الوطن العربي، لذلك لا أبالغ في القول إن ثقافتي مصرية، ومديونيتي لها كان كبيراً، وما زال. اطلعت من خلالها على الثقافة العالمية، وأدركت أهمية التواصل مع الحضارة الغربية من دون إهمال لثقافتنا العربية أو تجاهل لمكوناتها الدينية، وأن الحضارة الإنسانية ملك للجميع، وهي حضارة تجمع ولا تفرق. وهذا ما أفادني فيما بعد في رحلتي الروائية والتي كان زادها متنوعاً دون تمييز بين التراث والحداثة والتاريخ والإسلام والمسيحية والوثنية والفلسفة وعلم النفس والمجتمع والسياسة والفنون كافة.
الآن، ليس من الغريب التحدث عن تراجع دور مصر العربي، فقد شهدت العقود الثلاثة الماضية انكفاءها، بدعوى أن مصر مكتفية بذاتها، تحملت الكثير من التضحيات من جراء العرب، وكأن مصر ليست عربية. وهي دعوى وجدت الكثير من الرواج حتى باتت مبرراً للتنصل من العروبة لدى البلدان العربية كافة.
اليوم هل تفتتح مصر عودة العرب إلى العروبة؟
ثورة مصر في هذه الأيام المصيرية تطرح هذا الشعار، وإن كان مضمراً كأمر لا جدال عليه، ولا محل نقاش. وعلى التأكيد في مؤازرتنا لمصر، أكثر من ضرورة، إذ نحن بحاجة إليها، إنما ينهض العرب معاً أو يسقطون معاً.
في هذا الاعتراف، أكثر من عرفان بالجميل لمصر والمصريين، لقد قدمتم لنا الكثير، وها أنتم تجددون التضحيات بتحد لا نظير له لنظام فاسد وراسخ، حان أوان تداعيه، سواء كان انهياراً أو بالتقسيط.
لن نبالغ في يقظة مصر، إذ مصر لم تنم، وفي حركات الشارع التي لم تهدأ طوال حكم السادات ومبارك أكثر من دليل على ذلك. إنما مصر ثارت، هذه المأثرة حققها شبانها، وأصبحت ثورة جميع الأجيال والأعمار، الرجال والنساء، المسلمين والمسيحيين، المتدينين وغير المتدينين، ثورة لا تستثني أحداً, وإذا كانت ثورة شعبية ذات مطالب حياتية ومعاشية وضد الفساد، فهي ليست هبة القطيع الأعمى، بل ثورة أخذت تبتكر آلياتها وطقوسها من واقعها اليومي، فمن يوم الغضب إلى يوم الرحيل، والمظاهرة المليونية، ويوم الشهداء، وصلاة الغائب وقداس الأحد، حتى أسبوع الصمود.
ثورة تشهد على عودة السياسة إلى المجتمع. وأن السياسة باتت شأن الجميع، لا شأناً يحتكره الحكام والخاصة والمفكرين وأولي الرأي فقط. لم تعد حبيسة الغرف المغلقة، باتت تلعلع في الساحات، أجنداتها مكتوبة على اللافتات، ومهما كان مصيرها غامضاً وطريقها طويلة وعقباتها أكثر من أن تحصى، وسواء نجحت أو أخفقت، فقد وضعت ركائز لا رجوع عنها لما سيأتي بعدها. وإذا كان لنا أن نتفاءل ففي جميع الأحوال لن تعود مصر ولا المنطقة العربية كما كانت، لقد حدث التغيير، وإن كان ليس بالوسع تقدير مداه.
مصر استعادت روحها، روح محمد عبده وسعد زغلول وطه حسين، سيد درويش وسلامة موسى وزكي نجيب محمود، فؤاد زكريا ونجيب محفوظ، جمال عبد الناصر وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب…
(روائي سوري)
السفير الثقافي