الحريـــة والعـــرب
ماريو بارغاس يوسا
أليس سقوط مبارك هو أفضل دليل على أن التاريخ ليس مكتوباً سلفا وبأنه يأخذ اتجاهات عصيّة على كل النظريات؟ على الغرب الليبرالي والديموقراطي أن يحتفل بهذا الحدث.
إن الحركة الشعبية التي هزّت بلاد كتونس, مصر, اليمن, ولها انعكاسات وصلت إلى الجزائر, المغرب والأردن هي التكذيب الأشد مباشرة لمن يعتبرون, كثوماس كارليلي, الذين يعتقدون «أن تاريخ العالم هو سيرة للرجال العظماء». ليس بإمكان أي زعيم, مجموعة أو حزب سياسي يستطيع أن ينسب إليه هذا الزلزال الاجتماعي الذي أطاح رأس التونسي بن علي والمصري حسني مبارك ووضع على حافة الهاوية علي عبد الله صالح وصار يبث القشعريرة في أجساد حكومات بلاد كالأردن, الجزائر, المغرب والعربية السعودية.
من الواضح أنه لم يكن ممكنا لأحد توقع ما حدث في هذه المجتمعات الشمولية وان العالم أجمع, لا سيما المحللين, الإعلام, ومؤسسات الفكر والرأي ووزارات الخارجية الغربية الذين تفاجأوا نتيجة الانفجار الاجتماعي السياسي العربي كما تفاجأوا عند انهيار جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي وأقماره الصناعية. ليس من التعسف استحضار هذين الحدثين: فكلاهما له أهمية مماثلة في المنطقة التي تحدث فيها وتطلق بالتالي لتداعياتها السياسية أهمية كبرى في بقية العالم. أليس هذا دليلا على أن التاريخ لا يمكن كتابته مسبقا وان بإمكانه أن يتخذ اتجاهات غير متوقعة, هاربة من توقعات كل النظريات التي تسعى لقوننة التاريخ ضمن قنوات منطقية؟
وعلى هذا, فليس من المستحيل تمييز بعض العقلانية في هذه الحركة المعدية من التمرد والتي تبدأ, كما في القصص الفانتازية, بشاب قتل نفسه حرقا، شاب تونسي فقير ويائس ومن الريف يدعى محمد بوعزيزي وبسرعة النار تنتشر العدوى إلى كل الشرق الأوسط والدول حيث يجري هذا الحدث تعاني من الدكتاتوريين عبر مئات السنين, الفاسدين حتى النخاع, ولهم في الحكومات, أقارب ومقرّبون وزبائن من القلة قد كدّست ثروات هائلة, مؤمناً عليها في بنوك في الخارج, في حين أن الفقر والبطالة ونقص التعليم والصحة, تشير إلى أن النسبة الأعلى من السكان تعيش في مستوى الكفاف, وأحيانا المجاعة. والفساد المستشري ونظام المحسوبيات والامتياز قاطعة كل قنوات التطور الاجتماعي والاقتصادي على الغالبية العظمى من السكان.
العولمة
الآن, وقد كان هذا الوضع في العديد من البلدان على مر التاريخ, لم يكن من الممكن حدوث هذه الثورات دون وجود عنصر حاسم: العولمة. إن ثورة المعلومات أخذت تحفر في جسد رقابة الأنظمة الصارمة العربية التي وضعتها بهدف استغلال ونهب شعوبها وحبسها في الجهل والظلامية التقليدية. أما الآن فمن الصعب, ويكاد يكون مستحيلاً تقريبا, للحكومات أن تخضع مجتمعا بأكمله لبراثن إعلامية بهدف التحايل عليه وتضليله كما كان الأمر في السابق. إن الأجهزة النقالة, الانترنت, المدونات, الفيسبوك, التويتر, المحطات الفضائية وكل المصادر التكنولوجية السمعية والبصرية قد حملت إلى كل أصقاع العالم حقيقة عصرنا وفرضت المقارنات والتي, بالطبع, أظهرت للجماهير العربية بشاعة وبربرية الأنظمة التي تحكمها والمسافة التي تفصلهم عن الدول المتطورة. وقد سمحت نفس أدوات التكنولوجيا الجديدة هذه للمتظاهرين بالتنسيق في حركتهم وإدخال عنصر النظام لما كان يبدو في البداية انفجاراً عشوائياً ومظهراً فوضوياً. فأحد أكثر المظاهر المفاجئة لهذه الثورة العربية كانت في الجهد المبذول للمتظاهرين لمنع التخريب, كما في مصر, في الوقوف بوجه البلطجية الذين أرسلهم النظام لارتكاب اعتداءات لتشويه الثورة وتخويف الصحافة.
إن البطء (إن لم نقل الجبن) بالطريقة التي اتبعتها الدول الغربية, لا سيما أوروبا, في ردة فعلها, مترددة أولا أمام ما يحدث وتلاها بعد ذلك تصريحات جوفاء عن نوايا حسنة لصالح تسوية متفاوض عليها, بدلا من دعم الثوار, مما لا بد أنه سبّب خيبة أمل كبيرة لملايين المتظاهرين الذين خرجوا إلى الشوارع في الدول العربية، داعين إلى «الحرية» و «الديموقراطية» ومكتشفين أن الدول الحرّة تنظر إليهم بشك وأحيانا بذعر. ونرى, بين أمور أخرى, أن الأحزاب السياسية لمبارك وبن علي, هي أعضاء فاعلة في الاشتراكية الدولية, فيا لها من طريقة لتعزيز الديموقراطية الاجتماعية وحقوق الإنسان في الشرق الأوسط.
حصان طروادة
إن الخطأ الصارخ للغرب هو في رؤية حركة التحرر العربية كحصان طروادة واعتبار أن الأصولية الإسلامية بإمكانها السيطرة على المنطقة بأكملها وتكون شبيهة بالنموذج الإيراني, لتمتد يد الأصولية في كل الشرق الأوسط. والحقيقة أن الفورة الشعبية لم تكن موجهة من الأصوليين وانه لحد الآن على الأقل, فإن هؤلاء لا يقودون هذه الفورة ولا ينوون القيام بذلك. يبدو أنهم أكثر وعياً من المستشارين الغربيين, بأن ما يحرك هؤلاء الشباب من كلا الجنسين مصريين وتونسيين, يمنيين وباقي الشباب, ليست هي الشريعة والرغبة في أن يحل محل هؤلاء الطغاة بعض رجال الدين المتشددين. لا بد أن يكون المرء أعمى أو منحازاً إن لم يكن يرغب بملاحظة أن المحرك السري لهذه الحركة هو غريزة من أجل طلب الحرية والتحديث.
إننا لا نعرف بالتأكيد إلى أين ستنجرف هذه الثورة, وبالطبع, لا يمكن استبعاد في ضوء الارتباك السائد حاليا, أن تسعى الأصولية أو الجيش لاستغلال الموقف لصالحهما. ولكن, ما نعرفه أن هذه الثورة في أصولها وفي بذرتها الأساسية, هي حركة مدنية, وليست دينية, وان ملهمها, بوضوح, هو مثل ديموقراطية تدعو للحرية السياسية, حرية الصحافة, انتخابات حرة, ومحاربة الفساد, العدالة الاجتماعية, فرص العمل والتنمية. وينبغي على الغرب الليبرالي والديموقراطي الاحتفال بها واعتبارها بمثابة تأكيد على القيم التي تمثل ثقافة الحرية ومنح كل تأييده للشعوب العربية في هذه اللحظة في حربها على الطغاة. انه ليس عملا عادلا فحسب بل هو أيضا وسيلة لضمان صداقة وتعاون مع شرق أوسط مستقبلي حر وديموقراطي.
لان هذا هو الآن احتمال حقيقي. حتى قبل التمرد الشعبي فقد بدا من الصعب التفكير به للكثيرين منا. ما حدث في إيران, وبشكل آخر, في العراق, كان يبرر تشاؤما في ما يخص الخيار الديموقراطي في العالم العربي. ولكن ما حدث خلال الاسابيع الأخيرة يجب أن يمحو هذه الشكوك والمخاوف المستوحاة من تحيّزات ثقافية وعنصرية. فالحرية ليست قيمة تقدّرها فقط الدول المتعلمة والمتطورة. الجماهير المغيّبة, المقهورة, والمستغلة, تقّدر الحرية أيضا, بطرق ملتوية غالبا, اكتشاف أن الحرية ليست كيانا خطابيا خاليا من الجوهر, بل هي مفتاح محدد للخروج من البطش, أداة لبناء مجتمع يستطيع المجتمع رجالا ونساء العيش فيه بدون خوف, في حدود القانون, وفرص التقدم. حدث في آسيا, في أميركا اللاتينية, في البلاد التابعة للاتحاد السوفياتي. والآن ـ أخيرا ـ يحدث في البلاد العربية بقوة وبشجاعة فائقة. أن واجبنا هو إظهار تضامننا الكامل, لان التحول في الشرق الأوسط لأرض حرة لن يستفيد منه ملايين العرب فحسب بل العالم بأسره عامة (بما في ذلك, بطبيعة الحال, إسرائيل, برغم أنه يبدو أن الحكومة المتطرفة لنتنياهو غير قادرة على فهمه).