شرق أوسط جديد ، لكنه عربي
محمد بركة
إذا كان الشرق الأوسط الكبير الذي أطلقته أمريكا في منطقة الشرق الأوسط ، غير موضوعي وغير واقعي وغير ممكن تاريخيا ً ، فلأنه انطلق أولا ً : من النزوع الإمبراطوري الأمريكي إلى الفعل المباشر في شؤون العام ، وثانيا ً : من المصلحة القومية الأمريكية التي تقتضي التدخل المباشر في الشؤون السياسية والاقتصادية وهو الأهم والثقافية لكل دول المنطقة ، وذلك بحجة نشر الديمقراطية والحرية ومجتمع المعرفة ، مستغلة ً بذلك التقارير العربية للتنمية الإنسانية لعامي 2002 – 2003 ، واعتراف هذه التقارير بنقص ٍ في الحرية والمعرفة وحقوق الإنسان والمرأة بصورة خاصة في المجتمع العربي ، وبالتالي لا مانع أن تكون أمريكا هي المبادرة في دعم الإصلاح على طريقتها ،
وذلك من خلال الأخذ بيد حكام ٍ وأنظمة ٍ بعينها ، تدعي أنها وطنية وتدعي أنها تقوم بإصلاحات سياسية واقتصادية وثقافية ، استجابة للطلب الأمريكي بتحسين سياستها الديمقراطية والحقوقية ، حتى وإن كانت هذه الأنظمة تدعي العداء للإمبريالية العالمية وعلى رأسها الإمبريالية الأمريكية ، فتتبعها الجماهير الغارقة بالجهل والفقر والتخلف ، متمسكة بهذه القشة المنقذة في رأيها . وبذلك تدعي أمريكا أنها لا تُلحق هذه الأنظمة بها مباشرة ، لكنها لا تتركها تفلت من قبضتها أبدا ً ، من خلال خلط الأوراق المحلية والقومية والإقليمية ، التي تستوجب ربط كل الحلول بالقوى الخارجية من جهة ، ومن خلال اختراع فزاعة الخوف من ثنائية الفوضى أو الأصولية الدينية من جهة ثانية ، وبهذا تكون قد وضعت كل هذه الأنظمة ، حتى التقدمية جدا ً ، من خلال الترغيب والترهيب ، أنظمة متهمة تحت الطلب ، ليكون تغيير هذه الأنظمة وهذه الحكام الوطنية والتقدمية ، أسهل إن هي خرجت على الخط الأمريكي .
لقد غاب على الإدارة الأمريكية أن التاريخ لا تصنعه أنظمة ٌ وحكام ٌ وأفراد ، بل تصنعه الشعوب العظيمة التي أحسّت بتفاقم بؤس الواقع السياسي والاقتصادي بعد أن تتصدى بشجاعةٍ وبدون مواربة لثقافة الخوف بعد معرفة أسبابها ووعي نتائجها ، لقد تناست السياسة الأمريكية أن الشرط الأساسي لقيام أي مشروع تغييري نهضوي مستقبلي في بلادنا العربية أو في أي بقعة ٍ من العالم ، هو الكتلة التاريخية صاحبة المصلحة في التغيير والنهضة ، إنها الشعوب التي تقوم على الحرية الفردية والديمقراطية السياسية والتوزيع العادل للثروة في إطار الحق والواجب ، ولقد أكد الجابري على أن تتجاوز هذه الكتلة التاريخية الأنظمة والأحزاب السياسية والنقابية كي يخرج البديل من جوف الشعب ، مشددا ً على أهمية الثقافي والعلمي في تكوين الإجماع الفكري والسياسي حول القضايا والأهداف الوطنية والقومية على حد ٍ سواء ، ولقد أثبت التاريخ أن الأهرامات لا تبنى من الأعلى ، بل من القاعدة ، تماما ً كثورة الأهرامات المصرية الجديدة التي تشكلت قاعدتها المتينة في ميدان التحرير ، ميدان التغيير الوطني الديمقراطي الحقيقي المشبع بثقافة المقاومة والحياة الحرة الكريمة ، التي تعيد صناعة تاريخ مصر من جديد لا بل تعيد صناعة التاريخ العالمي كله بشهادة المحللين السياسيين في العالم أجمع ، على أنها مدرسة ثورية جديدة يجب أن تدرّس في جامعات العالم ، خلافا ً لما كانوا يخططون له ، أن يجعلوا من هذا الميدان العظيم ، ميدانا ً للحمير والبغال والجمال المشبع بثقافة البلطجة الآتية من خارج التاريخ .
لقد أثبتت كل التجارب المحلية والإقليمية والعالمية أن كل الانقلابات الوطنية ، بل وكل الثورات التقدمية ، التي جاءت من الأعلى ، إما من شخصيات عسكرية وطنية ، أو من ثورات ٍ سياسية ٍ تقدمية ، كانت جميعها تقوم على شعارات ٍ سياسية ٍ اجتماعية ٍ اقتصادية ٍ عريضة ، تغري الشعوب اللحاق بها ، بحيث تقدم نفسها المدافع الوحيد عن مصالحها المباشرة من خلال هذه الشعارات الخلابة وطنيا ً وقوميا ً واشتراكيا ً . وانتهت جميعها إما في حكم الأنظمة الحزبية الشمولية المطلقة ، وإما في حكم الأفراد بالشكل المطلق ، وكما هو معروف من التجربة العالمية ، أن كل حكم مطلق فساد ٌ مطلق . لذلك كان الخاسر الوحيد في ذلك كله هو المجتمع ، أفرادا ً وجماعات وهيئات سياسية ومدنية ، وبالتالي الوطن والمواطن . ويكون بذلك أيضا ً الغائبان الكبيران في صميم الفكر السياسي التقدمي العربي هما ، الذات الجماعية للمجتمع ، والواقع الموضوعي بما هو ماض ٍ وحاضر ٍ ومستقبل ٍ لتلك الذات ، بمعناها التاريخي ، ففي مثلث الحرية والعقلانية والعلمانية الذي تشكل الحرية قاعدته المتينة والضامنة لكل أضلاعه ، لا تستطيع العقلانية وحدها أن تنتج فكرا ً حرا ً نظيفا ً إذا لم تجد غذاءها الكافي في العلمانية السياسية المتجددة دائما ً ، والقائمة على قاعدة الحرية ، وهكذا لا يقوم المثلث إلا بأضلاعه الثلاثة . وبغياب القاعدة تكون قد فشلت كل محاولات التغيير التي جاءت من الأعلى , بل أثبتت عدميتها من خلال وصولها إلى الحكم المطلق وفساده وإفساده ، وأمراضه اليسارية والقومية والثورية ، ولقد شكلت هذه التجارب خدعة ً توّهت الشعوب عن مسارها الطبيعي ، بشعاراتها الكبيرة غير الواقعية وغير الممكنة ، وبالتالي غيّبت المجتمع عن وعيه التاريخي ، إلى أن أفاق شباب تونس وشباب مصر العظام ، الذين أعادوا التاريخ إلى مساره الحقيقي . نعم إن الثورة التونسية أولا ً والمصرية ثانيا ً هما ، الثورتان الوحيدتان في الوطن العربي إن لم نقل في العالم ، قد بدأتا من الشارع المجتمعي بما له وما عليه من حقوق ٍ وواجبات مدنية وسياسية واقتصادية ، ولقد استطاعتا أن تفرض بشجاعتهما وعقلانيتهما وعلمانيتهما على الأنظمة والأحزاب السياسية عدالة قضيتهما ومصداقيتهما ، وبالتالي لاقت هذه الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية والمثقفين والأدباء والفنانين ، نفسها مقتنعة باللحاق بها ، بعد أن تحررت جميعها من أسر المفهوم النخبوي للثقافة السياسية ، ولقد أثبتت هاتين الثورتين ، أن الثقافة بمجملها نتاج المجتمع بأسره وليس نتاج المثقفين وحدهم ، خاصة ً في زمن الحاسب الإلكتروني الذي ينجز مليارات العمليات الحسابية في ثانية واحدة ، وما تقوم به تكنولوجيا المعلومات ( الانترنيت والفيسبوك والهاتف الجوال ) من هدم ٍ للحواجز الفاصلة في جغرافية الوطن والعالم ، والتي كانت من أهم مقومات البنى التحتية لثقافة الثورتين التونسية والمصرية ، بما قامت به من عمليات التواصل الاجتماعي بين كل مكونات الثورتين ، من شباب ٍ منسقين ، وشخصيات مثقفة ، ومهتمين بالشأن العام ، ولقد أثبتت هذه العلاقة فيما بين تكنولوجيا المعلومات والإبداع بكل جوانبه الإنسانية والمجتمعية ، النفسية والمعرفية والتربوية والأخلاقية الوطنية ، إنها جعلت الجميع في ميادين الثورة ، في بيئة ٍ من الحرص الصادق لكرامة الوطن والمواطن .
ثمانية عشر يوما ً في مصر وأكثر منها في تونس ، من الاعتصامات الشعبية المدنية السلمية المتدفقة كنبع ٍ فياض ٍ لا ينضب ، كانت مليئة بالانسجام التام والتنظيم المبهر والاحترام المتبادل بين كل هذه المكونات المليونية ولم يحدث ضربة كف ، أو طعنة سكين ,أو حالة تحرش واحدة ، وذلك بشهادة كل المراقبين العالميين ، هذا بالإضافة إلى حرصهم الشديد على المؤسسات العامة وعدم المساس بها ، اللهم ما حدث من اعتداءات تمت من البلطجية والخارجين على القانون والثورة من بقايا أزلام النظام البائد الذي كان يعتقد أنه سيبقى إلى الأبد ، لكنه قد رحل .
نعم إن هاتين الثورتين الشعبيتين الرائدتين قد أعادتا للتاريخ قوانينه التي غـُيبت ْ وألغيت من الحياة السياسية والاجتماعية في بلادنا العربية ، وأعادت لهذه القوانين تاريخيتها الإنسانية ، كحتمية التطور التاريخي في وعي الضرورة التي كان الشعبين التونسي والمصري كما ستكون كل الشعوب العربية ، فاعلة فيها ، ومن هنا كان انتصار قانون الحق والواجب في ميادين الشعوب على الباطل والبلطجة ، وانتصار قانون الواقعي والموضوعي والممكن في السياسة على كل ما هو خيالي وتبريري وكاذب ، وأخيرا ً انتصار القانون الوطني الديمقراطي على القوانين الاستثنائية وحالة الطوارئ سيئة الذكر . وانتصار الكتلة التاريخية ، كتلة الشعب بكل مكوناته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية ، وذلك من خلال امتلاك إرادة الحياة وكسر حاجز الخوف ، انتصارها على أنظمة الاستبداد والظلم والفساد ، لقد انتصر الشعب في تونس الياسمين ومصر الشباب ، وبدأت شمس شرق ٍ أوسطي ٍ جديد ٍ على الطريقة العربية ، تشرق من قلب الشعب العربي في تونس وفي مصر ، وليس من الأنظمة والحكام كما كانت ترغب الامبريالية الأمريكية ، وإنني واثق أن هذه الشمس ، شمس الحرية سوف تنير دروب كل الشعوب العربية في عملية التغيير الوطني الديمقراطي ، وإن أشعة هذه الشمس ستبدد ظلمة الاستبداد العربي الفاسد ، عاجلا ً أم آجلا ً ، وإنني واثق ٌ أيضا ً أن العد العكسي قد بدأ ، وعلى الشعوب العربية الواقعة تحت عسف الاستبداد ، كما على الأنظمة المستبدة فيها ، أن تعتبر من هاتين التجربتين الرائدتين ، وأن تـُعجّل في ملاقاة التغيير الوطني الديمقراطي بأقل خسائر ممكنة ، بشريا ً واقتصاديا ً ومؤسساتيا ً ووطنيا ً ، آخذين بعين الاعتبار اختلاف الظروف الاجتماعية والسياسية من بلد ٍ إلى آخر ، فليس المطلوب نقل التجربتين بحذافيرهما بشكل أوتوماتيكي أعمى .
وأخيرا ً وبعد أن تعاظم هذا الأمل وكبرت الثقة بهذه الشعوب العظيمة بتعاظم الفعل القاعدي المدني السلمي المتميز في ميادين التغيير الحقيقي بروح الحياة الحرة الكريمة ، لقد تأكدت أهمية المجتمع المدني الذي أثبت أنه قادر على حماية الوطن والمواطن بكل مؤسساته ومكوناته بغياب السلطة على مدى أيام الثورة ، خلافا ً لسراب قوانين الاستبداد الاستثنائية التي كانت تدّعي أن المجتمع المدني هو مجتمع الفوضى .
وإنني إذ أرى التغيير قادم ، فنجاحه يتوقف أولا ً على التخلص فرديا ً واجتماعيا ً وسياسيا ً من وهم احتكار الحقيقة واحتكار الوطنية وبالتالي احتكار الوطن، وثانيا ً على التخلص مسبقا ً من أخلاقية الكيدية والثأرية والإقصائية, والتمسك بالمقابل بأهمية المحاسبة القانونية تحت سقف الدستور، وثالثا ً على امتلاك أخلاقية الشراكة الوطنية والاعتراف بحق الرأي الآخر وذلك على طريق الحوار أولا ً والحوار دائما ً .
* السويداء/15/02/2011