عروبة جديدة تبدأ من ولاء الناس لأوطانهم
دلال البزري
العروبة القديمة كنا قد ضجرنا منها قبل اندلاع ثورة اليوم. كانت عروبة أنظمة وأحزاب “معارضة” لها، متعايشة معها. عروبة رسمية، موالية و”معارضة”. كان لها لغتها الخاصة، تحزرها عن بُعد؛ لغة مكرّسة، انصهارية، انتصارية وتسلّطية. لا ينال منها، ولو باللسان، غير المنشقين عنها، أو المزايدين عليها. لغة كانت تشرع الباب واسعا امام أقصى الانجرافات والانحرافات: بكلماتها وشعاراتها الرنانة، كانت تفرض قبضتها، تطمع بدولة عربية أخرى، تحتلها، تتحكّم بخيوط قراراتها، تروّض “معارضين” لها بالمال والدعم. لا تُحصى الأمثلة على هكذا عروبة في تاريخنا المعاصر، ومنذ عهد الاستقلالات الوطنية عن الاستعمار القديم… عن “عروبات” غزت شقّت وأشقَتْ، وحوّلت حياة بشرها الى جحيم دنيوي.
ولكن على أرض الواقع، كانت هذه العروبات تؤجّج الشوفينيات الوطنية، “القطرية”؛ تنشد الخوف والكراهية، وتجعل التنوع والاختلاف سموماً، قنابل موقوتة، تضطهد الأقليات غير العربية وتحتقر هويتها من جهة، وترسّخ، من جهة اخرى، الكليشهات، السلبية دائما، بين عرب من دول مختلفة وتركّب الحساسيات والسخريات بين أفرادهم وشعوبهم. الى أن أصبح “الأشقاء” غير العرب في الوطن الواحد عرضة للعزل والتهميش، فيما “الاشقاء” من هذا القطر أو ذاك، مادة تندّر ونميمة وصفات ثابتة معمّمة دائما. فنامت الجذوة العربية، بردت أطرافها، وخبت تلك العروبة التي انهضت العرب يوم استقلالهم عن الاستعمار القديم. “عروبات” ما قبل الثورات الأخيرة هذه لم تكن صحية ولا خلاّقة ولا آمنة.
ما الذي تغير الآن، مع اندلاع الثورات العربية؟
الثورة جاءت عفوية نديّة وشعبية، مشبعة بالروح الوثابة. العروبة التي ولدت معها تطبّعت بها، واكتسبت ملامحها: ثورة ديمقراطية بعروبة ديموقراطية. الملايين من العرب تسمّروا خلف الشاشة أو الكمبيوتر يتابعونها بشغف واهتمام غير مسبوقين، قلوبهم معلقة على مجريات الثورة، يحلمون لها بالنصر، ويسألون عن المقبلين الجدد عليها، يرصّون صفوفها. لحظات المتابعة العربية للثورة وحّدت العرب عبر الاعلام، وحولتهم الى كتلة واحدة من الشغف والأحاسيس والتمنيات. كتلة واحدة لا تحتاج الى الكلمات. بعد ذلك، هل يمكن تصور كمية بيانات التأييد والمقالات والمذكرات والتعليقات التي صدرت عن العالم العربي، عن مثقفيه وشبابه ومواطنيه…؟ كلهم أصحاب اهتمام واحد، وبهجة واحدة.
هذه البهجة صارت محمولة، يوما بعد آخر، على معرفة جديدة. متابعو الحدث التاريخي لا يستطيعون مواصلة الاهتمام بالذي يحدث من دون ان يعرفوا مكوّنات كل بلد عربي معني به: الثورات المنتصرة حتى الآن، وتلك التي ما زالت حاصلة هي دروس مباشرة ومكثّفة في الجغرافيا والتاريخ والاجتماع السياسي. حتى هذه اللحظة صرنا نعرف أين يقع البلد المعني بها، ولاياته ومناطقه، اسماء مدنه، لهجاته المحكية، هندام اهله، ونشيده الوطني ،علمه الوطني، (بل العلمين الليبيين، ما قبل معمر القذافي وما بعده)؛ نتآلف مع شوارعه وجاداته، نعرفهم من الصورة: هذا ميدان التحرير، أو الاسكندرية، وتلك بنغازي، وهذه جادة بورقيبة، وتلك تعز، ميدان اللؤلؤة… والباقي على الجرار. والتاريخ، أيضا، له دروس اخرى: كل بلد بمفرده، ظروفه لدى تسلّم الطغاة السلطة، مدد تسلّطهم، ما سبقهم من أنظمة حكم، احزاب المعارضة التي عاشت في كنفهم او رحلت عنهم الخ.
ثم هناك القوانين أو البنى السياسية التي أطّرت لتنظيمهم: دول مؤسسات، دول قبائل متحالفة أو متخاصمة، دول من دون مؤسسات، وطرق متنوعة في محاولات احتواء الثورة… او مواجهتها بالمدفعية الثقيلة والمرتزقة، أو “البلطجية” المصرية، التي ألقت الضؤ على البلطجيات العربية الأخرى. تحفظ اسماء القبائل الليبية واليمنية، لعل ذلك يعينك على فهم التعرجات التي تأخذها الثورة في هذا البلد العربي أو ذاك. قبائل حاشد وبكير في اليمن، قبائل المقارحة والقذاذفة والورافلة في ليبيا… وملَكية طارئة في البحرين.
كل هذا تتابعه عن كثب، لا عبر الدرس والتمحيص، بل عبر الاعلام، التلفزيون خصوصا. انه درس جماهيري بامتياز. يستفيد منه الملايين الذين انكبّوا عليه. وقد لا تُتاح الفرصة للشعوب العربية بتلقي هكذا دروس الا في ثورة اخرى، أو في حدث شبيه يصيب العرب أجمعين.
ثمة مكوّن آخر في هذه العروبة الجديدة: هو التشابه المذهل الذي كشفته هذه الثورة بين الاوجاع العربية السياسية المختلفة: تتكلم الثورة عن الطغيان، عن المدد اللامتناهية في الحكم، عن التوريث، عن الفساد، فلا يلتفت المواطن العربي حوله الا ليرى صنوا نظيرا لهذه الاوجاع في داره.
الآلام السياسية العربية واحدة. وقوة الثورة انها حدّدتها بدقة متناهية، من دون ان تفقد قابليتها للتعميم على جميع الدول العربية، حتى في البلدان “الرائدة” بديموقراطيتها، مثل لبنان. هذه الآلام جذرية في فشلها ببناء دول سوية، بديموقراطية ومؤسسات، والرد الثوري عليها بالقدر نفسه من الجذرية. مشكلة واحدة، حل واحد؛ وهذه تحتاج الى تضافر المهارات العربية بغية انجاح الانتقال الى مجتمعات بديلة، ذات تطلعات واحدة.
كل هذا يتوّجه أمل مشترك، انبعث مع كسر الخوف، وأنبأ عن شخصية عربية جديدة خلعت رداء اليأس وازدراء الذات، ورفعت رأسها اعتزازا بما تستطيع ان تفعله. محت عار الارهاب وبن لادن، وخرجت بصورة اخرى عن تلك التي اراد “مقاومو” الارهاب من حكامها إلصاقها بها حفاظا على عروشهم من الانهيار. اما وان الانهيار قد حصل، سلميا، أو في طريقه الى ذلك… ولم يخرج حتى الآن البعبع الارهابي، فهذا ما سوف يطبع الشخصية العربية بملامحه التفصيلية في العقود المقبلة.
ولكن يجب الاّ ننسى: ان هذه العروبة مدعومة بعودة الروح أيضا الى الاعتزاز الوطني، “القطري”، الذي كان اللسان العروبي القديم ينبذه، ويعتبره إضعافا للوحدة القومية العربية وتخاذلا إزاء مهامها التاريخية. الآن تبدّلت الاشياء: المتظاهرون الثائرون أعادوا إحياء وطنيتهم المهدورة عبر العشرات من الرموز والشعارات والأغاني والكلمات والإشارات. صرتَ تسمع بمن يفخر ببلده ويضعه في مرتبة الأولوية في ترسيم هويته. هذه الهوية الوطنية بالذات كانت تائهة منسية، واذا بإعلائها تتحول الى طاقة جبارة تزحزح العروش الراسخة. المصريون التونسيون الليبيون اليمينون البحرينيون… كلهم ينادون وطنهم ويشحذون منه المنعة والصمود وصفاء العقل والقلب. ولولا وحدتهم، لما انتصرت الثورة، ولن تنتصر أية ثورة غير موحّدة وطنيا.
هذه العلاقة الجديدة بالوطن لا تريح العروبة القديمة، ذات اللسان الانصهاري. لكنها منسجمة تماما مع العروبة الجديدة. فالعروبة الجديدة ولدت مع الوطنية الجديدة، وهي، مثلها ايضا، تطبعت بطبائعها: عفوية شعبية وثّابة مشبعة بالأمل؛ ولا تناقض بين الاثنتين، العروبة والوطنية. الأولى تغذّي الثانية وبالعكس.
نقطة أخيرة حول مكوّنات العروبة الجديدة. حتى الآن لم تظهر القضية “المركزية” كما درجت ان تفعل في لحظات ومناسبات شبيهة. وهذه إشارة لا لبس فيها لخروج هذه العروبة عن تقاليد العروبة القديمة.
ولكن مهلا: فلسطين لم تطرح، وكذلك “الاسلام هو الحل” لم يطرح… ولا اتفاقية كامب دافيد. والأرجح أنّ سبب غياب هذه المسائل عن شؤون الثورة في لحظة اندلاعها وأثناء حصولها هو في انها باتت غير قادرة على ان تجمع كما تجمع غيرها من مسائل الحرية والكرامة والعيش اليومي. هذا لا يعني انها مطوية تماما. قد تعود وتظهر وقد لا تعود. لكن الممكن حصوله، بناء على المعطيات التي وفرتها الثورة حتى الآن، وبناء على نوع اهتمامها وانكباباتها انها، أي الثورة، سوف تضع مصلحتها الوطنية كاعتبار محوري من اعتبارت موقفها. وهذا ايضا خروج عن العروبة القديمة التي لم يكن لسانها وطنيا، “قطريا”، إلا للتشبيك مع أحابيل السلطة والسلطة المضادة المديدَتين.
المستقبل