ملاحظات عن الطبقة الوسطى
ميشيل كيلو
كان الحديث عن الطبقة الوسطى يقترن دوماً بموقف من حدين: واحد يرى فيها تكويناً عابراً، وكياناً هشاً، متحولاً وغير ثابت، يعجز عن التماسك وإدراك الواقع في عالم التغير الاجتماعي والسياسي الذي يعصف بوجوده، وآخر يعتبرها تابعة لغيرها، فهي تتعين بما هو خارجها، ضمن واقع فاسد يشتري قياداتها، إن وجدت، ويجعلها على الأغلب معادية للثورة والتقدم، تتذبذب سياسياً كي ترفع ثمنها، علماً بأنها هي التي مكنت، في تاريخ أوروبي حديث، لصعود النازية والفاشية، وهي التي لعبت أخطر الأدوار في إحباط ثورة اجتماعية ناضجة، كانت بلدان أوروبية عديدة مؤهلة لإنجازها، بما في ذلك الدول الأكثر تقدماً منها .
ولعل من يعرف كتابات بعض قادة الاشتراكية في القرنين التاسع عشر والعشرين يتذكر ليس فقط التشخيص السياسي والاجتماعي لواقع وهوية الطبقة الوسطى، وكان سلبياً في معظم التقديرات والتحليلات، وإنما يتذكر أيضاً الصفات التي أطلقت عليها عند رجل مثل “لينين”، الذي وصفها ب “الحقيرة”، في كل مرة ذكرها فيها . آية ذلك أن موقف الطبقة الوسطى اعتبر رئيسياً، وأن نجاح الثورة كان، في نظر هؤلاء القادة، يتوقف على الجهة التي ستساندها هذه الطبقة، التي لطالما اعتبرت آخر حصن للنظام القديم .
ارتبط التقويم السلبي لدور الطبقة الوسطى بنظرية ترى أن المجتمع الحديث ذاهب لا محالة نحو الانقسام إلى طبقتين: واحدة تعمل وأخرى تملك، واحدة مستغلة وأخرى مستغلة (بكسر الغين)، وأن الطبقة الوسطى، أو ما يسميه علم الاجتماع الحديث “الفئات البينية”، محكومة بالتبعثر، لذلك تتعرض لفرز دائم يقودها واقعها المتناقض إلى كتلتين: واحدة كبيرة تسقط إلى الأسفل، نحو عالم من يعملون ولا يملكون، وأخرى صغيرة تصعد إلى طبقة من يملكون ولا يعملون .
ليس مجتمعنا مكوناً من طبقتين، بل هو مختلف كثيراً، أو كما يقال، بنيوياً، عن النموذج المجتمعي الذي تم تحليله والتنبؤ بتطوره في أوروبا . إنه مجتمع يتكون من بحر من الطبقة الوسطى، أو بالأحرى من “الفئات البينية”، له زائدتان متفاوتتا الحجم لكنهما صغيرتان، تمثل إحداهما ما أود تسميته عالم العمل، والثانية عالم الملكية، علماً بأن العلاقة بينهما ليست هنا علاقة عمل/ رأسمال، كما كان الأمر في أوروبا . بسبب حجمها الكبير، تلعب الفئات البينية عندنا دوراً مجتمعياً فائق الأهمية والحيوية، يبعدها كثيراً عن التوصيفات السلبية، التي أطلقت عليها عند غيرنا . إنها، هنا، قوة عمل وإبداع مجتمعي يكاد يكون مقرراً وشاملاً، وهي قوة استمرار وليست عامل اهتزاز وقلق، كما أنها هي التي تحمل الدولة، وعنها تصدر السياسة، ومنها تنطلق الثقافة في الجزء الأكبر من أنشطتها وإبداعاتها . ولعله ليس من المبالغة القول، في هذه العجالة، إن المجتمع الحالي ما كان ليوجد في صورته الراهنة لولا الطبقة الوسطى، التي تمثل ليس فقط ثقله الرئيس، وإنما قوة دفعه ومنتجه وسبب بقائه، في جميع أصعدته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية . . . الخ، حتى إن انحطاط هذه الطبقة يعني انحطاطه ونهوضها يعني نهوضه، بالنظر إلى استحالة رؤيتها بدلالة غيرها من مكونات المجتمع، وحتمية رؤية كل ما عداها منه بدلالتها هي .
أعتقد أن واحدة من كبريات مشكلاتنا السياسية كمنت خلال القرن الماضي بأسره هنا، وأن هذه المشكلة تتضخم في ضوء تطورات عالميّ العمل والملكية الحديثين، وتتجلى في افتقارنا إلى رؤية خاصة بنا للطبقة الوسطى ككيان مجتمعي قائم بذاته ومقرر، تأخذ بعين الاعتبار خصوصياتها عندنا وأهميتها ودورها، باعتبارها العمود الفقري لوجود مجتمعنا، والجهة التي تحدد مصيره، وعليها يتوقف كل شيء فيه . في الغرب، ورغم تجريدية التحليل الافتراضي، كان هناك شيء من الحقيقة في فهم الطبقة الوسطى وتعيين مكانها من المجتمع، الذي لا شك في أنه كان منقسماً، ويمعن أكثر فأكثر في الانقسام، إلى جهتين متناقضتين هما عالم العمل وعالم رأس المال . أما عندنا، حيث لا يعين هذا الانقسام نمط مجتمعنا ولا يحدد مصير مكوناته، وتغيب بالتالي المشروعات السياسية والتاريخية المنبثقة منه والمتفقة مع مصالح هذه أو تلك من قوتيه، أو القادرة على التوفيق بينهما، سواء كان التوفيق عابراً أم دائماً، فإن الطبقة الوسطى لا تشبه مثيلتها في الدول المتقدمة والمجتمعات المتطورة، ولا تسلك سلوكها، رغم ما يشوب مواقف أطراف ومكونات منها من تذبذب هنا أو هناك، في هذه المسألة أو تلك، كما أنها لا تلعب دوراً كدورها في العمل والإنتاج، رغم أن من يصعدون إلى الأعلى يكونون منها بصورة شبه دائمة، في حين لا يسقط أحد منها إلى الأدنى، لسبب جلي هو أنها تضم قطاعات غفيرة الأعداد من الفئات الدنيا والفقيرة، نتيجة عدم تعينها بالعلاقات النابعة من مصالح وأدوار حدين متنافرين/ متناقضين، وتعينها ببنيتها الذاتية، التي تجعلها ضرباً من مجتمع قائم بذاته، تراتبي يجمع مكونات متفاوتة، يتم انطلاقاً منها، بدرجة رئيسة، إنتاج الحياة الاجتماعية في سائر أوجهها وحقولها، على أن يكون واضحاً أن للدولة عندنا، وليس للطبقتين العاملة والمالكة، دوراً حاسماً في إعادة إنتاج مكونات معينة منها، لكونها الفاعل الرئيس الذي يمثلها، بينما مثلت الدولة في الغرب عالم الملكية بالدرجة الأولى . عندنا، تمثل الدولة هذه الفئات، لذلك نراها تضبط حركتها في إطار أنساق اجتماعية أوسع منها، وكثيراً ما تحجر عليها وتحول بينها وبين امتلاك وممارسة الحرية الضرورية لأي تغيير يطاولها أو يمكن أن يؤثر في وظائفها، المستقلة نسبياً عن أية مجموعة اجتماعية، بما في ذلك الطبقة الوسطى . والحق، أن نمط الدولة المركزي، الذي نشأ في حاضنتها وانطلاقاً منها، ما إن تولى مقاليد الأمور حتى منعها من ممارسة العمل العام، وقصر دورها على جوانب محددة من الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، وما يتفق وسيطرته من فعاليات ثقافية وأيديولوجية، لعلمه أنها مصدر الخطر الوحيد عليه، وأنه لا يجوز أن يترك لها حرية العمل والتفكير، لأنها قد تخلق ساحة مستقلة عنه، في حاضنتها المجتمعية الواسعة . لا أغالي إذا قلت إن مصدر أزمات دولنا العربية يكمن في هذه المفارقة بالذات، التي وضعت النظام الرسمي في مواجهة حامله الاجتماعي، وأجبرته على بلورة حامل بديل، أنشأه انطلاقاً من السلطة، فهو سياسي الطابع وإن كانت دائرة عمله تلزمه بممارسة أدوار اقتصادية واجتماعية وثقافية وأيديولوجية، باعتباره مجتمعاً سلطوياً بديلاً لمجتمع الطبقة الوسطى المدني .
هذه ملاحظات أولية تريد إثارة نقاش حول ظاهرة لطالما أهملنا التمعن فيها ودراستها، رأينا نتائجها المباشرة في الأحداث الأخيرة، التي فتحت أعيننا على حقيقة رئيسة هي أن الفئات البينية لم تفقد دورها، رغم ما تعرضت له طيلة نيف وخمسين عاماً من تعسف رسمي، وأن طاقاتها كبيرة إلى درجة لم يشهد لها تاريخ أية منطقة أخرى من عالمنا مثيلاً .
الخليج