المسألة الدينية» موضوعاً لتفكير نقدي
ياسين الحاج صالح
أراد جورج قرم في كتابه «المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين» (دار الفارابي، بيروت، 2007) أن يتقصى «نسابة» العنف التوتاليتاري الحديث عودا إلى الحروب الدينية التي واكبت الإصلاح الديني في أوروبا ومازجته… رافضا ردها إلى الثورة الفرنسية ما تلاها من إرهاب، على نحو ما يفضل مزاج محافظ ويميني ساد الثقافة الفرنسية والأميركية في ثمانينات القرن العشرين وما بعدها.
وينتقد قرم السرديات التي تحتفي بـ»عودة الديني»، وتجعل منها نتاجا طبيعيا لـ»انهيار الإيديولوجيات العلمانية، المكرس باختفاء الماركسية». ويرى، على الضد من ذلك، أن «عودة الديني» «ظاهرة سياسية كبرى ليس لها من الديني سوى الاسم»، لكونها «غير مرتبطة بأي تطور كبير على صعيد تطوير العقيدة الدينية من الناحية اللاهوتية والسياسية أو التعبيرات الإيمانية». ويميل، بالمقابل، إلى الربط بين تسييس الديني أو توظيفه سياسيا وبين أزمة السلطة في المجتمعات التوحيدية، الأمر يسهم في حجب أزمة الديني ذاته في رأيه. وتعود أزمة السلطة ذاتها إلى «انهيار التراث» حسب العبارة التي اختارها المترجم خليل احمد خليل (أُلف الكتاب بالفرنسية في الأصل)، وربما كان أنسب اختيار كلمة تقليد نظرا إلى أن الدلالة الشائعة لكلمة تراث العربية تحيل إلى الموروث المكتوب، فيما تتسع دلالة تقليد للأعراف والنظم والاستعدادات الموروثة. ويبدو أوفى لمقاصد المؤلف رد أزمة السلطة إلى انهيار العالم التقليدي، بما في ذلك «تغيرات فوضوية ومنحرفة في طريقة التعبير عن الإيمان الديني ذاته». ويفضل المؤلف الكلام على الاستعانة بالدين في عالم العولمة بدلا من الكلام على عودة الدين. وعلى ربط الاستعانة تلك بالحداثة «بوصفها أزمة في الثقافة والسلطة»، وخيبة للعالم.
على أن كتاب قرم يساعد أيضا، وربما أولا، في وضع العنفية الإسلامية العاصرة المعاصرة في سياق نسبي ومقارن ينزع عنها شذوذها واستثنائيتها، ويسهم من ثم في عقلنتها وتنظيم التفكير في شأنها في الوعي العام. ففي فصل طويل بعنوان «الأنماط الأولية لأشكال العنف الحديثة: الحروب الدينية في أوروبا» يتاح لقارئ العربية الاطلاع على سياق من «العنف الفائق» المنسي، مشابه من وجوه عديدة للحال السياسية الدينية الراهنة في العالم العربي إلى درجة ربما تغري بالاعتقاد بأننا من الوجهة هذه نعيش اليوم في القرن السابع عشر الأوروبي. إن الحرب الدينية «حرب بلا رحمة، فهي تثير الإنسان على الإنسان، وغايتها ليست الهيمنة على الخصم، بل تدميره وتحويله إلى رماد- كما يفعل مفتشو المحاكم» (محاكم التفتيش). ويرجع المؤلف «أشكال العنف الثورية الحديثة، أكانت فرنسية، روسية أم صينية، وكذلك أساليب مراقبة الفكر بالنميمة والجاسوسية» إلى الحروب الدينية.
كما نطلع على معادل مسيحي لعقيدة «الولاء والبراء» التي تستحضرها التيارات الإسلامية الأشد انغلاقا وميلا إلى التطرف والعنف. لقد أعلن البابا إنوسنت الثالث «أننا، بحسب الشرائع، لا يتعين علينا أن نحفظ الوفاء تجاه من لا يحفظه أمام الله». وجعل من أصدقاء الهراطقة كفارا، ودعا إلى الوشاية بهم والتوبة عن كتمان أسرارهم. وكان التنكيل بالهراطقة يعتبر «فعل محبة» على نحو ما يعتبر قتل المرتد عند إسلاميين تخليصا لروحه من إثم الارتداد. بل نجد معادلا لدى كالفن لـ»حاكمية الله» التي نصادفها إسلاميا عند كل من أبو الأعلى المودودي وسيد قطب.
والكتاب بذلك، ودون قصد على الأرجح، ينهض ضد مقاربة «عقلانية» رائجة في أوساطنا، تكاد تستفرغ كل جهدها في المزيد من «تشذيذ» العنفية الإسلامية المعاصرة وإخراجها من كل قياس، عقلانية تتميز بقوة مشاعرها وحدة حالاتها النفسية، لا بانضباطها النفسي ولا بتفكيرها التاريخي والمقارن. لا ريب أن «عقلانيتنا» هذه تنحو هذا المنحى بغرض عزل العنفية الإسلامية والتعبئة ضدها، لكن حصيلتها الفعلية لا تتعدى تغذية شعور قار بالبؤس والشذوذ، يفاقم من أزمة الضمير الإسلامي والعربي (تيمنا بعنوان كتاب بول هازار: أزمة الضمير الأوروبي، الذي يحيل إليه قرم في كتابه) بدل أن يساعد على وعيها ومعالجتها. وليس المقام مقام تساؤل عن علاقة المثقفين بالتعبئة، ولا عن صلة هذا الشاغل التعبوي في أوساطنا بنزعات ومطامح زعامية محبطة.
يدعو قرم إلى ميثاق جمهوري أو علماني عالمي، يشكل استئنافا عصريا للنداء الجمهوري للثورة الفرنسية. لكن مهما يكن نقده للاتهامات المحافظة للتنوير والثورة الفرنسية في محله… فإن من البين أن نداء الأخوة والحرية والمساواة على نحو ما كانت صاغته الثورة قد وصل إلى طريق مسدود في عالم اليوم. وتعويل المؤلف على أوروبا للوقوف في وجه العولمة الأميركية يبدو لنا ضعيف الأساس. فالغرب الحديث ككل متمسك بما حقق ويظهر استعداد لحماية أنماط حياة غير قابلة للتعميم عالميا، ولو بالعنف الذي استطاع أن يوصل وسائله إلى درجة غير مسبوقة من التطور والإتقان. قرم نفسه يظهر أن تعريف الغرب بتراث يهودي مسيحي يقترن مع مزاج محافظ جديد يمنح قيمة مركزية، سالبة طبعا، لعنف الثورة الفرنسية وتجربة الغولاغ السوفياتية (يمثل عليه بتاريخ فرانسوا فورييه للثورة الفرنسية، وهو مترجم إلى العربية)، ومع نظريات من نوع «صراع الحضارات»، ومع إبراز استثنائية الغرب، الاستثنائية التي تشكل نقطة إجماع، يتصالح عليها المحافظون والتقدميون الغربيون، ومن باب أولى المصالحة بين الأميركيين والأوروبيين. ولعل النزعة المحافظة المرحبة بعودة الديني هي نتاج إدراك عميق لكون الغرب محلّة في العالم، تتميز عن غيرها بأصلها، بعد أن اتسع هذا وتكشف مكونا من مليارات من محدثي الكلمة المطالبين بالمساواة.
لكن ما هو أهم من نزعة محافظة غربية نراها مرشحة للتفاقم أن ميثاقا جمهوريا أو علمانيا عالميا هو أمانة العالم كله، وليس رهانا يلقى على عاتق قارة أو أمة أو طبقة أو دين أو ثقافة. ففي النهاية ما من فرق جوهري بين رهن مستقبل العالم بأوروبا أو الغرب، وبين التعويل على الإسلام على غرار ما يقرر سيد قطب، أو على الطبقة العاملة حسب السنة الماركسية، أو على الأمة الفلانية على نحو ما يدعو القوميون من جميع الأمم… فلا ينقذ الكوزموبوليتية التي يتحمس لها مؤلفنا طرف بعينه في عالم متعدد الأطراف. ما يمكن أن يسهم في إنقاذها، وفي تجديد النداء الجمهوري هو الروح النقدية والضمير المستقل اللذان يتعين تنشيطهما في كل الثقافات والأمم والقارات، وفي كنف الأديان جميعا. هذا ربما واجب المثقفين المدعوين إلى التحرر من أزمة الضمير التي خلفها سابق انحيازهم إلى مشاريع آلت إلى الطغيان.
خاص – صفحات سورية –