ثورة مصر

هل يصبح الجيش عبئًا على الثورة؟

فهمي هويدي
أخشى أن تفلت من أيدينا اللحظة التاريخية الرائعة التي تعيشها مصر هذه الأيام، فنفوِّت فرصة لا تعوض لاستدعاء الحلم إلى أرض الواقع، ويصبح الجيش عبئا على الثورة وليس عونا لها.
(1)
في الأسبوع الماضي تلقى مدير فرع أحد المصارف في مصر الجديدة اتصالا هاتفيا من سيدة أبلغته فيه بأن في حسابها الشخصي أربعة آلاف دولار أميركي وترغب في تحويلها إلى جنيهات مصرية، أثار الطلب دهشة الرجل الذي كان يعرفها جيدا، فقال لها إن كثيرين في الظروف الراهنة يحولون مدخراتهم من الجنيه المصري إلى الدولار تحسبا للطوارئ. ولكنها ردت عليه قائلة إنها لهذا السبب تحديدا تريد أن تفعل العكس. إذ تريد أن تقوي الجنيه المصري ولا تضعفه. فوجئ الرجل بما سمعه فلم يتمالك نفسه، وجفف دمعة سقطت من إحدى عينيه.
تلك واحدة من القصص الكثيرة التي صرنا نسمع عنها هذه الأيام، في سياق التدليل على أن ثمة روحا جديدة أصــبحت تسـري بين المصريين بعد الثورة، أيقظت فيـهم ما كان كامنــا أو خامدا من مشــاعر الانتماء للوطن والاعتزاز به، والذين أنصــتوا للغة المــصريين واهتموا برصد سلوكهم منذ قامت الثورة، يدركون أن ثمة تحولا مثــيرا في ذلك السلوك تبدى في ما لا حصر له من الشواهــد والوقائع، التي تبــعث برسالة خلاصتها إن المصريين أدركوا أن الثورة ردت إليهم وطنهم من خاطفيه، وإنه صار وديعة يتعين عليهم أن يحتشدوا للحفاظ عليها والدفاع عنها بكل السبل.
قبل أيام تلقيت على هاتفي المحمول رسالة ممن لا أعرف هذا نصها: من اليوم هذه بلدك انت. لا تلق القمامة في أي مكان. لا تتجاوز إشارة المرور. لا تدفع رشوة لكائن من كان. لا تلجأ إلى تزوير أي محرر. لا تسكت على تقصير تجده في أي مكان. وفى ختام الرسالة دعوة إلى تعميمها على أوسع نطاق ممكن.
لم أكن وحدي الذي تلقيت الرسالة، لأنني صادفت كثيرين استقبلوها وتحمسوا لها. كما أنى صرت أتلقى اتصالات من أناس لا أعرفهم يسألونني عما يمكن أن يفعلوه لأجل البلد، وسمعت عن مناقشات جارية بين مجموعات من الشباب في القاهرة والإسكندرية والسويس تدور حول كيفية المساهمة في تغيير الواقع وعلاج مظاهر التردي فيه. وبعث إلىّ آخرون بأوراق تحدثت عن استراتيجيات المستقبل وخيارات النهوض به. ولست أشك في أن ما حدث معي تكرر مع غيري ممن هم أهم وأخبر منى.
ما أريد أن أقوله إن ثورة الشعب على النظام حين استدعت المجتمع وردت إليه روحه المغيبة، فإنها أطلقت في ذات الوقت ثورة في التوقعات. كأن الجماهير التي غيبت طويلا أصبحت متلهفة على تعويض ما فاتها وراغبة في إسراع الخطى صوب تحقيق أحلامها، وهو ما يبعث على التفاؤل والثقة لا ريب، لكنه يفتح الأبواب للقلق أيضا ــ سأقول لك لماذا.
(2)
شواهد الواقع تدل على أن ثمة مسافة ملحوظة بين التوقعات والممارسات. ذلك أن الثورة في مفهومها المبسط تعني إزاحة نظام وطي صفحته. وإقامة نظام جديد مختلف عنه. إلا أن ما حدث في مصر حتى الآن ليس كذلك بالضبط. وعند الحد الأدنى فإن القائمين على أمر البلد بعد نجاح الثورة تعاملوا مع ما جرى من منظور مختلف، حيث لم ينطلقوا من فكرة قطع الصلة بالنظام السابق وإقامة نظام جديد مكانه. آية ذلك أن رئيس الحكومة وثلاثة من الوزراء المرفوضين شعبيا يشكلون امتدادا للنظام السابق. وكذلك كل المحافظين ورؤساء الجامعات والقيادات الإعلامية والأمنية. وهو ما يعنى أننا في ما خص السلطة صرنا بصدد صورة معدلة للنظام القديم. كما أنه يعني أن الوضع المستجد لا يعد تجسيدا حقيقيا لفكرة «الثورة»، وأن إطلاق ذلك الوصف عليها هو من قبيل التعبير المجازي أو الحماسي. الأمر الذي يضعها في سياق ثورات أخرى جرى الحديث عنها، مثل ثورة المعلومات والثروة الإدارية أو الزراعية.. إلخ. كأن الملايين التي خرجت معلنة رفضها لنظام ما قبل 25 يناير، وكذلك مئات الشهداء ونظراؤهم الذين اختطفوا وعذبوا أو اختفوا، غير الآلاف الذين تعرضوا للإصابات والعاهات كانت هذه التضحيات كلها قدمت لكي تكتب بالدم شهادة ترميم النظام السابق، وإدخال بعض التعديلات على شخوصه وسياساته.
هذا الاختلاف في قراءة ما جرى في 25 يناير (رئيس الحكومة وصفه بأنه حركة وليس ثورة) أحدث فجوة بين التوقعات والممارسات. وبدا أن سقف الأولى أعلى بكثير من الثانية. ذلك أننا يجب أن نعترف بأن سقف التوقعات كان عاليا. لأن الإحساس بالمهانة والظلم كان كبيرا، الأمر الذي جعل شوق الناس شديدا للتخلص من كل ما هو صلة بذلك الماضي الكئيب، وحين سقط رأس النظام تصور الناس أن بقية الأركان المحمولة عليه سقطت بدورها. وظنوا أنهم أوشكوا أن يلمسوا حلمهم بأيديهم ويروه قائما على الأرض.
من ناحية أخرى، فإن القادة العسكريين وجدوا أنفسهم بصدد حمل ثقيل وتركة تنوء بحملها الجبال. وفوجئوا بتراكمات ثلاثين عاما من الجمود السياسي والفساد الاقتصادي قد وضعت بين أيديهم. ناهيك عما لا نراه من ضغوط خارجية، وما لا نعرفه من التزامات وتعهدات قدمها السابقون للأبعدين والأقربين. وإذا أضفنا إلى ما سبق أن أولئك العسكريين لم يكونوا طرفا في اللعبة السياسية، وأن تحملهم للمسؤولية لم تمض عليه سوى أسابيع محدودة، فستدرك أنهم في موقف لا يحسدون عليه.
هذه الخلفية تسوغ لنا أن نقول إن ارتفاع سقف توقعات الجماهير له ما يبرره، وإن ثمة أسبابا أن تساق لتفهم موقف القادة العسكريين وأعذارهم. لكن ذلك لا ينفي حقيقة وجود الفجوة بين التطلعات والممارسات.
(3)
إذا جاز لنا أن نلخص ما سبق فسنقول إن ثمة سببا جوهريا للفجوة الراهنة يتمثل في الاختلاف في قراءة الحدث الكبير، وهل هو ثورة على النظام الذي سبق ذلك التاريخ، تؤدي إلى طي صفحته، أم أنه ترميم لذلك النظام من شأنه إسقاط رأسه وإدخال بعض التعديلات على جسمه. إلى جانب هذه النقطة المفصلية فهناك عناصر أخرى فرعية تتمثل في تراكم المشاكل وتعددها وفى قصر الفترة الزمنية وخبرة القادة العسكريين والتزامات مصر تجاه الأطراف الخارجية خصوصا الولايات المتحدة وإسرائيل.. إلخ.
هذه الخلفية تستدعي السؤال التالي: إزاء الاختلاف في قراءة الحدث الكبير، كيف يمكن الترجيح بين الكفتين، كفة بناء نظام جديد ينطلق من كونها ثورة حقيقية، أم ترميم النظام القديم بما يقرب الحدث من الثورة الإدارية؟ ــ لا نستطيع أن نجيب عن السؤال قبل أن نتفق على تحديد من الذي صنع الثورة ودفع ثمنها، هل هو الجيش الذي قادها انتصارا للشعب، أم إنه الشعب الذي فجرها وتدخل فيها الجيش تضامنا مع الشعب؟
إن غاية مرادنا في تحرير هذه النقطة أن نتعرف على طبيعة الأدوار، وبالتالي حدود وحقوق كل طرف، بما يسمح لنا بأن نحسم عملية الترجيح بين الكفتين. وهي عملية ليست صعبة لأن وقائع الحدث الفريد تمت تحت أعين الجميع في مصر وفي العالم أجمع. من ثم فليس هناك خلاف على أن الشعب هو الذي تقدم الصف حين قام بالمغامرة ودفع الثمن، وأن الجيش تدخل لاحقا وأدى واجبه الوطني في الدفاع عن الشعب. إن شئت فقل إن الشعب هو الذي صنع الثورة وإن الجيش هو الذي تولى حراستها. وذلك الدور العظيم الذي قام به الشعب هو المفاجأة الكبرى، وهو الذي أضفى على الثورة فرادتها وأدخلها التاريخ من أوسع أبوابه، إذ العكس هو المألوف، حيث اعتدنا على أن يتولى الجيش قيادة الثورة، ثم يستدعي بعد ذلك المجتمع لكي يلحق به.
في ضوء هذا التحليل يصح لنا أن نتساءل: إذا أعلن الشعب أنه يريد إسقاط النظام ودعا إلى القطيعة معه بعد سقوطه، ومن ثم أرادها ثورة حقيقية تنقل البلد من عهد إلى آخر، وإذا جاء الجيش وسماها ثورة أيضا، لكنه أرادها امتدادا محسنا لنظام مبارك، فإلى أي طرف ننحاز؟ ردي المباشر إن الشعب هو صاحب الثورة، وإن الجيش الذي أعلن تضامنه مع الشعب ينبغي أن يواصل أداء واجب حمايته، من خلال الإصغاء إلى مطالبه التي اعترف بمشروعيتها منذ اللحظة الأولى لتحركه.. وإذا ما حدثت الفجوة بين مطلب الشعب وبين موقف الجيش، الذي يرعى الحكومة، فإن ذلك قد يحمل على محمل الحيرة والارتباك والتقصير في مرحلة. أما إذا استمرت الفجوة أو اتسعت، فلن نجد لذلك تفسيرا سوى أن الجيش تراجع عن موقفه، وبدل أن يكون رافعا وحاميا للثورة، فإنه يغدو عائقا أمام تحقيق أهدافها. وهو ظن أرجو أن يخيب وأن تكذبه الأيام المقبلة.
(4)
في هذا السياق لا أخفي مخاوف لا تستند فقط إلى تحليل لمعطيات الواقع وتقدير احتمالاته، بل لا أستبعد تأثري أيضا بما هو كامن ومخزون في الذاكرة التاريخية، التي تحتل فيها فكرة «الطغيان الفرعوني» موقعا بارزا. ولست صاحب الفكرة أو المصطلح، التي عني بتحقيقها الدكتور جمال حمدان، عالم الجغرافيا السياسية، في الجزء الثاني من مؤلفه الموسوعي «شخصية مصر». إذ ذهب إلى أن مصر بطبيعتها بيئة صانعة للفراعنة. ذلك أنها كدولة زراعية تعتمد اعتمادا كليا على فيضان النيل. ولأن الفرعون كان مالك الأرض، وهو الذي يتحكم في توزيع مياهه التي هي شريان الحياة، فقد اعتبر المصريون القدماء الفرعون واهب الحياة والموت. حتى صارت مصر في حقيقة الأمر «ضيعة الحاكم» ــ والتعبير للدكتور حمدان ــ الذي شرحه على الوجه التالي: إن الطغيان الفرعوني نتيجة حتمية للدولة المركزية، وكانت الدولة المركزية ضرورة حتمية للبيئة الفيضية. وكما كان لهذه المعادلة مزاياها الواضحة، فقد كان لها عيوبها الأوضح. إذ كانت مصر أول وحدة سياسية أو أول دولة موحدة في التاريخ، لكنها أيضا صارت بها على الأرجح أول طغيان في الأرض وأقدم وأعرق حكومة مركزية في العالم. بالتالي فإنها أصبحت تمثل أقدم وأعرض استبداد أيضا.. فقد دفع المصري منذ البداية ثمن وحدته السياسية المبكرة من حريته السياسية. واشترى الأمن الاجتماعي بالحرية الاجتماعية. وفى النتيجة أصبحت العلاقة عكسية بين المواطن والدولة، فتضاءل وزن الشعب بقدر ما تضخم وزن الحكم. وكلما كبرت الحكومة صغر الشعب.
أقتبس نصا عن نصيحة وجهها الملك خيتي لابنه مر يكارع (حوالى 2000 سنة قبل الميلاد) قال فــيه: «إذا وجدت في المدينة رجلا خطرا يتكلم أكثر من اللازم ومثيرا للاضـطراب، فاقضِ عليه واقتله وامح اسمه وأزل جنسه وذكراه وكذلك أنصاره الذين يحبونه… فإن رجلا يتكلم أكثــر من اللازم لهو كارثة على المدينة». وخلص الدكتــور حــمدان من ذلك إلى أنه منذ ذلك الأمد البعيد فإن المصـريين كانوا مطالبين بالصمت. وهي قيمة فسرها بعض الباحثين بحسبانها دعوة إلى الهدوء والسلبية والسكون، وإلى الخضوع والمذلة والانكسار.
لست واثقا من صحة ذلك التحليل، لاقتناعي بأن الخبرة المصرية على مدار التاريخ يتعذر اختزالها في دور البيئة الفيضية في صناعة التاريخ، لكني لا أخفي أن الخوف من هاجس صناعة الفراعنة يلح عليّ طول الوقت.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى