القذافي : التسلّط وإلغاء الدولة
رشيد خشانة
اتسمت الثورة الليبية بعنف ووحشية لم تُلوثا الثورتين التونسية والمصرية، بسبب ما أحدثه حكم العقيد معمر القذافي من جروح عميقة وضغائن دفينة. تفجرت الصراعات القديمة وتحول مسلسل تحرير المدن من سيطرة النظام إلى معارك طاحنة بين الأهالي والقوات الحكومية قبل أن تنضم الأخيرة إلى الشعب. ويُعزى هذا إلى أن القذافي لم يسع إلى إعطاء فسحة حرية أو تنفيس احتقان أو فتح نوافذ وإن صغيرة في جدار الحكم السميك، طيلة أكثر من أربعين عاماً، مخافة أن ينقلب السحر على الساحر.
قال سيف الإسلام القذافي في آخر مقابلة له إلى قناة “العربية” إنّه كان يُخطّط مع والده لإجراء إصلاحات شاملة على النظام السياسي. وزعم أنّ معمر القذافي استقبل بعض قادة المعارضة الذين انتفضوا على حكمه، وذلك قبل أسبوعٍ من اندلاع الثورة، ووعدهم بإجراء إصلاحاتٍ جذريّة تشمل وضع دستور وإجراء انتخابات وسنّ قوانين جديدة. قد يكون ما قاله صحيحاً، غير أنّ تفجر الثورة سبقه، بعدما أطلق الشباب شرارة الإنتفاضة في 17 شباط/فبراير مدفوعين بوطأة الإحتقان السياسي الذي أوجده انفراد أسرته بالحكم وتكلس النظام السياسي.
بهذا المعنى يمكن القول إنّ العقيد القذافي فوّت على نفسه فرص الإصلاح القليلة التي كان يمكن أن تجعل نظامه مقبولاً من شعبه، إذ عطّل بنفسه في 2008 مشروع سنّ دستور، بعدما أطلق مبادرة في هذا الإتجاه سنة 2003 على لسان نجله سيف الإسلام، ساعياً لإيجاد “ميثاقٍ وطني” يضبط السلطات غير المحدودة التي كان يتمتّع بها. وضرب سيف الإسلام موعداً في الأول من أيلول/سبتمبر 2008 بوصفه الحدّ الأخير لسنّ الدستور وإقامة انتخابات حرّة.
شملت الإصلاحات الموعودة جملةً من القوانين بلغ عددها 21 قانوناً أساسياً، ومنها قانون الإستثمار وقانون المرافعات وقانون العقوبات، لكنّها لم تُعرض على “الموتمر الشعبي العام” (البرلمان) للتصديق عليها. وأتت تلك المحاولة في سياق تحوّل ليبيا “من دولةٍ محاصرة ومقاطعة إلى دولة لديها كرسي في مجلس الأمن”، مثلما قاله سيف الإسلام آنذاك [1]. أكثر من ذلك، ربط سيف الإسلام الذي كان الوجه الناعم الذي استخدمه والده لتسويق نظامه لدى النخب الليبية، تلك المبادرة ببناء مجتمعٍ مدنيّ فيه نقابات حرّة وحقيقية ومؤسسات وروابط ومنظّمات حقوقية واتحادات. ومعنى ذلك محاولة إرساء شرعيّة دستورّية تحلّ محل “الشرعية الثورية” التي استند عليها القذافي منذ صعوده إلى سدّة الحكم. لم تكن ليبيا تمتلك دستوراً رسمياً، إذ أن النظام الذي حكمها طيلة أربعة عقود هو ذاك الذي وضعه “الكتاب الاخضر”. لكن لا القذافي الأب ولا نجله كانا صادقين في مبادرة سنّ الدستور، التي شكّلت مناورة لكسب الوقت والترويج للنظام القائم لدى العواصم الغربية لا غير. ولا أدلّ على ذلك من أن القاضي الذي رأس لجنة تحرير مشروع الدستور أعلن بوضوح أنّ “الكتاب الأخضر” هو دليله في الصياغة، وأنّ هدفه “ليس التغيير وإنّما تجميع كلّ شيء في ملفٍّ واحد”.
رئيس دولة افتراضي
بعد تلك المبادرة التي خلّف إجهاضها إحباطاً واسعاً لدى النخب السياسية، فاجأ العقيد القذافي الليبيين بدفع سيف الإسلام إلى تولّي منصب رئيس دولة افتراضيّ بتسميته “منسّقاً للقيادات الشعبية” في ليبيا في تشرين الأول/أكتوبر الماضي. هذا المنصب مرتبط نظرياً بكلّ من مؤتمر الشعب العام واللجنة الشعبية العامة (الحكومة) والأجهزة الأمنية وهي أضلاع الحكم في البلد. وتزامنت تلك الخطوة مع هدم مجمّع سجون أبو سليم القريب من العاصمة طرابلس في نيسان/أبريل الماضي، في محاولة لمحو آثار المجزرة التي نفذّها القذافي وأولاده وزبانيته في 1996، والتي ذهب ضحيّتها 1200 سجينٍ سياسيّ بحسب منظّمات حقوقية. وقد رمى قرار الهدم إلى إبطال التحقيقات التي كانت جارية لتحديد المسؤوليات عن تلك الجرائم والإلتفاف على طلب المنظمات الحقوقية إجراء تحقيقٍ محايدٍ وشفاف عن المجزرة.
ويمكن القول إن الفترة الوحيدة التي أبصرت ارتخاء قبضة القذافي الأمنيّة كانت بين 1987 و1989، أي في أعقاب الغارات الأميركية على طرابلس وبنغازي في 1986، والتي دفعته إلى نوع من البراغماتية، سرعان ما محاها الصراع المفتوح منذ تلك الحقبة مع مُكوّنات الحركات الإسلامية والقومية والاشتراكية.
فـ”الضباط الأحرار” كانوا قد وجدوا لدى استيلائهم على السلطة في 1969 مجتمعاً قبلياً وبدوياً بنسبة 75 في المائة، إذ اقتصرت المدن تقريباً على طرابلس وسبها وبنغازي. بلد قليل السكان، لم يكن عددهم يتجاوز 2.5 مليوناً في تلك الفترة، لكنّه يتمتع بثروة نفطيّة وغازيّة كبيرة. أحدث الحكام الجدد تحوّلين أساسيين، هما إنهاء الملكية وقيام الجمهورية العربية الليبية في 1969، وإعلان “سلطة الشعب” في مؤتمرٍ كبير عُقد في 3 آذار/مارس 1973. غير أن هذا الإعلان حمل في طيّاته فكرة الجماهيرية وتكريس شعار “من تحزَّب خان”، أي منع التعدديّة. ومن المعلوم أنّ الأحزاب السياسية محظورة في ليبيا بموجب القانون رقم 17 لسنة 1972 الذي جرّم التحَـزّب، إذ نصّ في مادته الثانية على أن “الحزبية خيانة في حقّ الوطن وتحالف قوى الشعب العاملة الممثلة في الاتحاد الاشتراكي العربي”، أي الحزب الحاكم آنذاك [2]؛ والذي تحول لاحقاً إلى “حركة اللجان الثورية”، التي باتت تمثِّـل قبضة النظام وعموده الفِـقري. وظهرت في هذا السياق المرجعية الإشتراكية للنظام، بعدما كان القذافي يؤكّد أن ثورته ليست لا شرقية ولا غربية.
وبحسب الباحث التونسي المختصّ بالشؤون الليبيّة توفيق المنستيري، فإن القذافي متأثّر بآراء جان جاك روسو. إذ أن المثقف الليبي القمودي، الذي درس في تونس وكان يُتقن العربية والفرنسية، هو الذي ترجم له فصولاً من كتب روسو، فأعجب بأفكاره السياسيّة وخاصة فكرته عن سلطة الشعب، القائمة على الحكم الطبيعي. ورجح المنستيري أنّ هذا التفكير “لاقى تجاوباً لدى القذافي ورفاقه المتحدّرين من أسرٍ بدوية”. واعتبر أن “العناصر البدوية في الثورة أبعدت الحضر وتخلّصت منهم سريعاً، لأن البدوي لا يفهم ما معنى حدوداً أو قانوناً وضعياً، وهو يتهرّب عادةً من المدينة، ولا يثق إلاّ في بدوي مثله”. كما يعتقد المنستيري، الذي عكف على دراسة النظام السياسي في ليبيا على مدى أكثر من ثلاثين عاماّ، أن القذافي كان هو منظّر المجموعة طيلة المرحلة الأولى، قبل أن يأتي المنظّرون اللاحقون أمثال رجب بودبوس ومهدي أمبيرش؛ واصفاً النظام الذي أرساه القذافي بكونه نظاما بدوُقراطياً Bédouinocratique، مختلفاً عن أيّ نموذجٍ من النماذج المعروفة في العلم السياسي الكلاسيكي [3]. ومن سمات هذا النظام غياب الدولة le non Etat وعدم وجود رئيس بل هناك قائد، ولا أحزاب بل لجان شعبية تُسيّر الإدارة، ولجان ثورية هي الثورة، ثم أتت بعد ذلك لجان المراقبة.
تضييق قاعدة النظام
مع انفراد القذافي تدريجياً بالحكم على حساب “مجلس قيادة الثورة”، بدأت قاعدة الحكم تضيق. فبقدر ما ضرب الحكم “الثوري” من المعارضين اليساريين والقوميين والإسلاميين، أقصى قادة الحكم “الثوري” ذاتهم واحداً بعد الآخر. وبدأ رفاق سلاح القذافي يبتعدون عنه أو ينقلبون عليه، وأبرزهم الرجل الثاني السابق الرائد عبد السلام جلود، الذي احتمى بقبيلته “المقارحة” في نهاية المطاف، منذ أيار/مايو 1993، مثلما أنّ القذافي محمي من قبيلته “القذاذفة” هو الآخر.
وهذا يعني أن القذافي عندما يحرص على أن يُقيم في الخيمة أثناء سفراته إلى الخارج، فذلك ليس لتوجيه رسالة إلى المجتمعات الغربية وحسب، وإنما هي رسالة إلى الليبيين مفادها “أنّني لم أغادر القبيلة”. قد يبدو لنا الأمر فولكلورياً، لكنّه إشارة قوية إلى جماعته، فهم لم يختاروا رئيس دولة بل “قائداً” (وهذه العبارة الأخيرة تُترجم خطأ في الغرب بـ”Le Guide” بينما الأصح هو ترجمتها بـ”Le Leader” [4])، وهي البنية التي سيظلّ القذافي مُحتمياً خلفها إلى الرمق الأخير، زاعماً أنّه ليس رئيس دولة ولا رئيس وزراء كي يُطلب منه الإستقالة من منصب.
انزاح القذافي خلال فترة حكمه من النموذج القومي الناصري إلى الإطار المحلّي الليبي، ومن ثم إلى الدائرة المناطقية والقبليّة، متمسّكا بتلك الهوية العشائرية، ورافضاً النمط الإجتماعي الحضري، وأبعد في الوقت نفسه كل الوزراء المنتمين إلى المدن واحداً بعد الآخر. وتماهت هذه البنية الإجتماعية مع إعادة تشكيل للنظام السياسي على أساسٍ من الإحتكار والفردانية أدّت إلى تهميش “الضباط الأحرار” البالغ عددهم آنذاك 80 ضابطاً، والتخلّص من القيادة الجماعية التي جسدها “مجلس قيادة الثورة” المؤلّف من إثني عشر عضواً، بحلّه في 1977 [5]. وهكذا نجح القذافي في تصفية أو تنحية صُناع الإنقلاب الأبيض الذي بات يُعرف رسميا بـ”ثورة الفاتح من سبتمبر”، إذ لم يبق من الأعضاء الإثني عشر سوى ثلاثة، ظلوا نظرياً معه إلى الشوط الأخير لكن في مواقع هامشية، وهم الفريق أبو بكر يونس جابر والرائد الخويلدي الحميدي واللواء مصطفى الخروبي. لكن جميع الناس في ليبيا يعرفون أنّ وزير الدفاع أبو بكر جابر على سبيل المثال لا يتحكّم سوى بوحداتٍ هامشية، فيما الفرق الأحدث تسليحاً والأعلى كفاءةً، يقودها أبناء القذافي الساعدي والمعتصم ومحمد وخميس. هكذا احتلّ تدريجياً الأبناء مقاعد الرفاق السابقين في المواقع القيادية، إذ كان محمد نجم ومختار القروي أول المستقيلين من “مجلس قيادة الثورة” في 1972 احتجاجاً على رفض القذافي تسليم السلطة للمدنيين خلافاً للوعود التي قطعها “الضباط الأحرار”. ثم قضى محمد المقريف في ظروف غامضة خلال السنة نفسها. أمّا الأعضاء الباقون فقُتل منهم لاحقاً كل من بشير الهوادي وعوض حمزة (1975) وعمر المحيشي (1984)، فيما انشقّ عبد المنعم الهوني طيلة ربع قرنٍ قبل أن يتصالح مع القذافي في السنوات الأخيرة [6].
من هذا المسار الإقصائي الذي قلّد فيه القذافي زملاءه من الزعماء العرب والأفارقة، معطوفاً على تضييق مجال الحريات بضرب العمل الحزبي وتقييد الجمعيات والسيطرة على الصحافة، تحوّلت بنية النظام الليبي سريعاً إلى نظامٍ استبداديّ أوجد كل أنواع المعارضات التي تبارت في مقاومته والعمل على إسقاطه؛ إن كانت من التيارات الإسلامية أو من دائرة “المعارضة الوطنية” كما يحب الليبيون أن تُدعى. ومع اتجاه النظام إلى كتلةٍ أسرية استأثرت بمقدّرات الإقتصاد وبمراكز القرار في الدولة وبالمواقع الحسّاسة في المؤسّسة العسكرية، بات التغيير في ليبيا أعقد وأغلى ثمناً منه في جارتيها تونس ومصر. وإذا كان الجيش دعم الثورة في تونس وحماها في مصر، فإنّ الجيش الحقيقي في ليبيا الذي يملك التجهيزات المتطوّرة والتسليح الأحدث والتدريب الأكثر فعالية ليس الوحدات المتمرّدة التي تخلّت عن القذافي وإنّما الألوية الأمنية التي يقودها أبناؤه والمتمترسة داخل قاعدة باب العزيزية.
معركة إسقاط القذافي ستكون إذاً أطول وأعنف من إسقاط بن علي ومبارك. هذا إذا لم يأتِ حسم جويّ للمعركة من الخارج، مثلما تُلوح بعض العواصم المعتادة على مثل هذه التدخّلات.
* كاتب سياسي، إعلامي تونسي .
[1] “سيف الإسلام يُطالب مجددا بسَـنّ دستور.. لكن الوضع في ليبيا لا يبدو مُهيئا لهذه النقلة!”: موقع سويس أنفو بالعربية – 15 آيار/مايو 2010
[2] “استفاقة المجتمع المدني الليبي تضعه في مواجهة مع “الأجهزة” “– موقع سويس أنفو بالعربية – 21 تشرين الأوّل/أكتوبر 2010
[3] Taoufik Monastiri : Encyclopedia Universalis, art. Mu’ammar Kadhafi
[4] “حصيلة 40 عاما من حكم القذافي: “نظام استبدادي أعاد إنتاج الزّعامة القبلية” – موقع سويس أنفو بالعربية – 1 أيلول/سبتمبر 2010
[5] Nora LAFI, Olivier PLIEZ, Pierre ROSSi : Encyclopedia Universalis, art. Libye
[6] Jeune Afrique : supplément Libye 1/ 9/2009