ثورة ليبيا

الكتاب يحترق

ساطع نور الدين
يا للهول، انهم يحرقون الكتاب الاخضر..
يا الهي! من اين جاءوا بكل تلك النسخ؟ من منازلهم التي كان واجباً عليها ان تتزين بالكتاب وتضعه في صدارة الكتب واللوحات والتحف، او ربما في غرف النوم، ام من المكتبات التي كانت تعرضه في واجهاتها وتقدمه على مؤلفات الخالدين والعظماء. ام لعلهم حصلوا عليها من المدارس والجامعات التي كانت تفرضه في مناهجها، وتربي به اجيالها الناشئة التي ترعرعت على تخريفات العقيد وهلوساته.
كيف تسنى لهم ان يجمعوا مئات النسخ دفعة واحدة، ويجعلوا منها كومة عالية في الساحات العامة في بنغازي وغيرها، ويرشّوها بالمحروقات ثم يشعلوا النار فيها وهم يؤدون تلك الرقصة الصاخبة حولها، التي شاهدوها على الأرجح في أفلام الغرب الاميركي، حيث كانت النيران الوسيلة الوحيدة والأخيرة للهنود لكي يتحدوا المستعمر الابيض ويخيفوه، ويؤكدوا أن الدخان المرتفع في السماء هو البرهان على ان ارواحهم كانت وستبقى حرة، مثلها مثل هويتهم التي لم تتبدد حتى اليوم.
هي رقصة الحرية المستعادة. مع أن طقوس النار كانت منذ فجر التاريخ اكثر من صلاة، كانت أقرب الى طهارة من الذنب والعار الذي ألحقه العقيد بشعب كامل، ظنه العالم كله على سيرته ومثاله، معتوهاً او برياً، فاذا هو يحرق الكتاب لكي يعلن انه شعب طبيعي جداً، يعرف القراءة والكتابة والخطابة، ويرقص ويغني ويطلق النكات الساخرة التي لا تقل شأناً او فطنة عن نكات المصريين، او اي شعب آخر ابتلي بزعيم مشين.
كانت كومة النار وسحب الدخان المرتفعة من حريق نسخ ذلك الكتاب الذي لم يكن سوى شاهد على يباس عقل العقيد، وحاجته الدائمة الى مصحة عقلية، دليل انعتاق الشعب من أسر ذلك النص الغبي، وتبرؤه من الاتهام الدائم بأنه سكت طويلاً على حاكم أخرق، وتساهل معه حتى عندما كاد يدّعي النبوة، او يزعم انه يكملها منذ ان اختار تقويماً فريداً يبدأ بوفاة الرسول محمد، لا بهجرته التي كانت بداية الحساب القمري غير المعترف به في تلك المساحة الليبية المحاصرة منذ أكثر من اربعين عاماً بحالة غريبة من الجنون.
لم تكن رقصة النار إعلاناً ببدء المقاومة للعقيد، بل إيذاناً بالنصر على الكتاب الذي كان يتوقع له مؤلفه، فعلاً، ان يصبح قرآناً جديداً وشريعة اضافية وسيرة تضمّ الى سير الكبار من صناع الأفكار والنظريات التي تغيّر وجه العالم.. كانت الرقصة تعبيراً حياً بالأجساد البريئة عن أن النظرية الثالثة للخلق والحكم التي ألحقت الإهانة بالشعب الليبي كله وبكل من قرأ او كتب باللغة العربية، لا تستحق غير الحرق في الشوارع والساحات العامة، والمحو التام من ذاكرة الليبيين والعرب أجمعين.
النيران تأكل الكتاب، وهي تتوق إلى أكل مؤلفه. هكذا يتوقع اولئك الذين مارسوا تلك الطقوس الصاخبة، والذين لم تتح لهم يوماً فرصة مشاركة الآخرين ابتساماتهم الساخرة لدى قراءة بعض الآيات الهذيانية، لأنهم كانوا يعرفون جيداً أن العقيد لم يكن يمزح عندما كتبها ووزعها.. وهو لا يمزح الآن عندما يقول إنه لن يكفر بها!
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى