ثورة ليبيا

ليبيا تفتح شهية الغرب مجدداً؟

نهلة الشهال
أراكم تجيبون أن تلك الشهية لم تنقطــع يوماً! وهذا صحيح. ولكن هناك الأسلوب، وهو ذو اثر مهم. فبــينما مالت الولايــات المتحدة بسرعة، ومن خلفها سائر العواصــم الغــربية الكبرى، إلى تبني حل التضــحية برأس النظــام في تونس ومـصر إنقاذا لما يمكن إنقاذه، تراها في ليبــيا تتمهــل لمدة تزيــد عن عشرة ايام، صامتــة تماماً طــوراً، معبرة بعد ذلك عن رخاوة غير متناسبة وحجم الجريمة الجارية، لتنتهي بقرارات عقابية في مجلس الامن، على رأسها منع سفر القذافي وأبنائه وتجميد أموالهم، وإحالة «الملف الليبي» الى المحكمة الجــنائية الدولـية. وما بدا ارتباكاً، قد توجد له تفسيرات، تحول فجأة الى ما يظهر كمناورة مشبوهة للغاية، وكأنها تريد توظيف الانتفاضة الليبية ضد القذافي لمصلحة بناء وضعية تضع البلد برمته رهينة بين يديها.
هناك سلسلة من الملاحظات المترابطــة التي تؤطر الموقف: أولها أن تكتيك التضحية برأس النظام، الذي اتبع في الحــالتين التونسية والمصرية، تبدى عن «مخاطر» جمة! فالمنتفــضون هناك لم يكتفوا بالتدابير الجزئية، وهم مستمرون في مطالباتهم السياسية والاجتماعية التي تنضج وتتجذر يوماً بعــد يوم. والتجذُّر هنا ليس أبداً التطرف، على ما يُفهم عمومــاً من المفردة، بل هو مرتبط باكتساب الرؤية العامة للوضــوح والشمــول. ولنا في استمرار التظاهرات المليونية كل يوم جمعة في مــصر، وفي اتساع دائرة التحركات الاجتماعية أيضاً وعلى السواء، دليل أول. كما تدل على الوجهة نفسها تظاهرة الجمعة الفائت في تونس التي جمعت أكثر من مئة ألف إنسان، يطالبون برحيل حكومة محمد الغنوشي، وبجمعية تأسيسية تعيد تعريف النظام وتركيبه. وقد وجد الوزير الأول نفسه مضطراً فعلاً للاستقالة، ولرمي الكرة في ملعب من ركزوا على رحيله كمكسب رمزي لا بد من تحقيقه، باعتباره من أركان النظام السابق. وهم، هؤلاء بالذات، يجدون اليوم أنفسهم أمام تحد كبير يتعلق باقتراح خطوات تؤمن استمرار الثــورة وتجنب الفوضى في آن واحد، حيث الوصول إلى جمعية تأسيسية، أقر الغنوشي بضرورتها أثناء استقالته، يفترض التوصل إلى توافق متماسك بين القوى السياسية الفاعلة… وتشي هذه السياقات باستمرار الصراع في البلدين، وهو نقطة القلب من كل ممارسة سياسية. ومن المؤكد أن نتائج هذا الصراع ليست معروفة بعد، وأن قوى مناهضة الثورة، ووكلاء مصالح الغرب، و«حكماء» العلاقات الدولية ليسوا محــرومين من وسائل الفعل. كما لا يمكن ألا يكون هناك أثر فادح وسلبي لسنوات القــمع السالفة، مع ما حملته من إضعاف التنظيمات الســياسية والنقابية ونخرها أحياناً من الداخل، وتقليص مجال الخبرة العامة للناس.
ولكن، ولمرة، الصراع نفـسه ليس شكــلياً، ولا يهــدف المنتفضون الذين يخوضونه من جهتهم، إلى تسجيل موقف مبدئي، بل هم معنيون بكل التفاصيل، ويخططون لتحقيق نجاحات متتالية، ولكسب المعركة في نهاية المطاف. وقد يقدرون، وقد ينجحون جزئياً، وقد يُهزمون. ولكن قواهم موازية – على الأقل – لقوى خصومهم، مما يجعل الصراع الدائر جـدياً ومفتوحاً. وهذا، من دون أدنى شك، أمر يشغل دوائر النفوذ الأمــيركية والغربية، وهو يحملها على مزيد من الحذر تجــاه السـياقات الجارية والمقبلة.
ثانياً، وعلى الرغم من التشابهات والمشتركات المتعددة، إلا انه يُلحظ مقدار التنوع في الأوضاع العربية بناء على المعطيات المخصوصة لكل مجتمع، وبناء أيضاً على موقع كل بلد بالنسبة للمصالح الإستراتيجية للأطراف النافذة في العالم. والانشغال بتأمين استمرار تدفق النفط الليبي، وبتأثير تغــير الأوضاع في ليبيا على العديد من الـدول الأفريقية (وأفريقــيا هي واحدة من أهم ساحات الصــراع على النفــوذ وعلى المغــانم في العالم، إن لم تكن قد غدت أهمها على الإطلاق)، لا بد أنهمــا اعتــباران يدخلان بشدة في حسابــات التعبير عن الموقف الأميركي. كما يدخل في حسابه ذلك المدى الجغرافــي المتواصــل، الذي يشهد هذا التغيير، بدءاً من مصر، مروراً بليـبيا، وانتهاء – مؤقتاً – بتونس. وهو مدى يطل على المتوسط في جهــته اللــصيقة بأوروبا. ويدخل في هذا المشهد العــديد من الحـسابات العائدة إلى التدبر، ومنها أيضا هلوسات متعلقة بتنظيمات مرتبطة بالقاعدة.
ثالثاً، لا بد أن الافتقاد إلى أشخاص ومؤسسات سلطوية راسخة، ذات صلة بالدوائر الغربية، قد كان له بدوره أثر في دفع واشنطن إلى التحفظ بداية، وإلى التأخر في مطالبة القذافي بالرحيل. فهذا النقص جعل صيغة التضحية برأس النظام مستعـصية. وقد يكون ذلك مفهوماً من زاوية النظر الأميركية نفسها. إلا أن موقف واشنطن شجع القذافي على التعنت، مراهناً على الحاجة الأميركية والغربية إليه. وعبر إبنه، سيف الإسلام، عن ذلك في إطــلالته الأولى على الناس يوم 20 شباط/ فبراير، ساخرا من سذاجتهم لأنهم يحسبون أن الغرب سيمكِّنـهم من ليبـيا. ثم بعد ذلـك بيومين، عزز بالتأكيد هذا الشعور كلام كلينتون، المقتضب والمائع بشكل صادم، حين اكتفت بالمطالبة بـ«عودة الهـدوء ووقف العنف»، وذلك بعد دقائق من خطاب للقـذافي الأب، كان من أوله إلى آخره عبارة عن تهديدات بإعدام الجميع وبحرق البلد، وهو خطاب استوجب وصفه بـ«المرعب» من قبل المستشارة الألمانية مركل.
انتهى الأمر إذاً إلى قرارات مجلس الأمن تلك، علماً أن المعارضة الليبية بكل أطيافها شددت على رفض التدخل الدولي، لكونه، وبحسب خبرة العراق الحاضرة بقوة في خلفية المشهد، يضر بالمجتمع الليبي قبل إضراره بالنظام، ويقيد ليبيا نفسها بعقوبات قد لا تنحل مع نهاية القذافي نفسه، وهي على هذا وذاك قد تشجعه على المضي حتى النهاية في معركته، كـ«ضحية» من جهة، ولانسداد آفاق الإفلات من أمامه. فمنع سفره وعائلته مثلاً، يعني استماتته في استعادة زمام الأمور. وإحالة «الملف الليبي» إلى المحكمة الجنائية الدولية غامض في تعابيره وحمال أوجه. والشائعات التي صاحبته، والتي تتكلم عن تطبـيق البـند السابع – وهو بند وصائي – تؤشر إلى نوايا خبيثة. إن قراءة المسلك الأميركي بصورة متصلة مترابطة، منذ بدايـة الانفجار الليـبي وحتى هذه اللحظة، ترسخ القناعة بوجود تـلك النوايا لدى واشنطن، متغلبة على فرضية تأويل مسلكها على ضوء الارتباك والتخبط.
ها واشنطن إذاً، تلتقط أنفاسها بعدما فاجـأتها، كما فاجأت العالم كله، لحظة الانفجار العربية. ها هي تعود إلى عادتها القديمة. ولكن واشنطن اليوم أضعف من ذي قبل بكثير، فكيف تكون ممارسة شيطان ضعيف؟ والأهم من إرضاء هذا الفضول، هو معرفة كيفية تحوط الشعوب المنتفضة من وحش جريح؟ كيف تعوض بسرعة ما فاتها من خبرة وتقاليد نضــالية، وما لحق بها من تشوهات بحكم انكسارات العقود الأربعـة الفائتـة، وكيف تختار دوماً الأساس والوجهة الصائبة، كيف تعزز الحوار الوطني – هذه المعجزة الضرورية – بوجه الحلول السريعة، القاطعة والتعسفية. الدور لتونس التي افتتحت المسيرة، فهل تبلور نموذجاً يعتد به؟
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى