ثورة ليبيا

ضريبة الخيانة

نديم جرجورة
أرعد الرجل وأزبد، محتفظاً، ظاهرياً، برباطة جأش خبيثة. تطاول على شباب مفعم بالأمل والرغبة في الحرية، وبالجرأة على مقارعة التنين. انتقص من القيم الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية لأفعالهم المتحرِّرة من كل قيد، إيديولوجي أو حزبي، غربي أو عربي. واجههم. هلّل لنظام بائد. دافع عن تنين مترنّح. أنشد ترتيلة التقديس لرئيس منزو في عرينه المفتوح على رياح التغيير. تمسّك بالرئيس هذا حتّى الرمق الأخير. أراده إلى الأبد. أو ربما إلى ما بعد الأبد. جعله إلهاً منزلاً من قواميس الرجعية والعنف والجنون. لا يستطيع الرجل أن يعيش من دونه. فهو، في لحظة قديمة، نصّب نفسه إلهاً من نوع آخر، محتكراً كرسيّ الكوميديا، وهو من الكوميديا براء.
إنه الزعيم. نقل عدوى الجنون السياسي إلى الفن. أو بالأحرى ساهم في تثبيت مفردات السياسة والنظام الحاكم في الإبداع. أقول الإبداع ولا أعني اشتغالاته، خصوصاً في مرحلته الفنية الأخيرة. كأنه صُدم ببراعة أدائه في الفيلم الأول لمروان حامد «عمارة يعقوبيان»، فانزلق مجدَّداً إلى دَرْك لا قاع له. في التمثيل، كما في السياسة. في التمثيل: ادّعى رفضاً للفساد والتطبيع، ساخراً من القوى اليسارية. انتقد أصولية رجعية وزواج المال والسلطة. لكنه لم يخرج من العموميات، لأنه فضّل ستاراً باهتاً من الإضحاك المسطّح. في السياسة: ظلّ مرتبطاً بالنظام الحاكم مباشرة، موجّهاً سهامه الانتقادية الساذجة، غالباً، ضد أصولية إسلامية متزمّتة وعنيفة. ضد حالات نافرة مارسها النظام وحاشيته، باستيحاء لا مثيل له. أرعبه انكشاف اسمه في اللائحة الخاصّة بجماعات أصولية إرهابية، تضمّنت أهدافاً بشرية مصرية محدّدة للتصفية الجسدية. ارتمى في أحضان التنين. فالتنين لا يكتفي بحماية أمنية، بل بمصالح لا أحد يعلم خفاياها. أو بالأحرى، بدأت حقائقها تظهر للعيان، لأن شباب «ثورة 25 يناير» مصرّون على «الحقيقة» و«العدالة»، وعاملون يومياً وميدانياً، بعيداً عن أي تنظير وأدلجة وتجييش شعبوي مفرغ من أي معنى، من أجل هاتين «الحقيقة» و«العدالة»، من دون الذهاب إلى خارج ما.
لم يكن انتقاماً، وضع اسمه على لائحة العار تأديباً من شعب أراد حرية وخبزاً وكرامة، في مقابل أناس انفضّوا عن الحرية والخبز والكرامة من أجل سلطة موبوءة، أو منصب بائد. لم يكن ثأراً. لم يكن تشفّياً. أولئك الذين صنعوا ثورة لاعنفية حقيقية لا يعرفون انتقاما أو ثأراً أو تشفياً، بل مساءلة ومحاسبة وفقاً لمنطق التاريخ وواقع العصر. الزعيم في الفن لا يختلف عن الزعيم في السياسة. تسلّط على منصب فَقَده منذ زمن بعيد، ولم يحترم إرادة شعب أفضت، في بداية الطريق الطويلة إلى الحرية والخبز والكرامة، إلى الإطاحة بأبرز رموز النظام الفاسد. أما هو، فأطيح به منذ زمن بعيد أيضاً، لأن كثيرين انفضّوا عن أعماله الأخيرة.
لن ينجو الزعيم. غالب الظنّ أنه وأمثاله بدأوا يدفعون ضريبة الخيانة.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى