التمرين الأولي للثورة
فيصل لعيبي
في كل المراحل الإنتقالية التي تمر بها الشعوب، تبرز مجموعة من الحجج، التي تصبح من أسلحة النظم السياسية أو الأحزاب الحاكمة ، التي تخلف من أسقطته الحوادث على تنوعها ، فتخيف بها خصومها ومناوئيها دائماً.
تبدأ هذه الحجج ، من ترساتة الكتب الدينية السماوية ، التي تحذر المؤمنين من الشيطان وطرقه الملتوية في حرفهم عن سبيل الله الواحد الأحد، ومع ان الله والشيطان قد عقدا رهانهما على حساب الإنسان ، من وراء ظهره ، ودون أخذ رأيه ، ومن أجل إستمالته، كل الى جانبه، وكل حسب طريقته الخاصة به، وقد تركا نتيجة ذلك الرهان الى موعد قيام الساعة، و قرارهما هذا ، كما تعلمون، لا نملك نحن البشر له تبديلاً ، إلا أن هذه المسألة سوف يقررها في النهاية ،كما يبدو لي، الإنسان نفسه، وليس المتراهنين عليه مع الأسف، لهذا نجد الله يسابق الريح ويكثر من إرسال الرسل والأنبياء ويحذر الناس ويخوفهم ” بجهنم التي وقودها الناس والحجارة “، ويدعوهم الى الإبتعاد عن أو الإقتراب من الشيطان وكأنه غير متأكد من فوزه عليه، فمع تواتر الأنبياء والمصلحين والأولياء وغيرهم، ، نجد الشيطان يكتسح الساحة ، بدون منازع ودون أن يرسل لنا شياطينه ولا كتب أو رسائل شيطانية. فهو يعرف آية ” النفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها “، لهذا نجده يعمل بهدوء ودم بارد، واتباعه يزدادون يوماً بعد يوم وهم أضعاف مضاعفة، قياساً لعباد الله الحقيقيين، بل نجد العديد من دعاة الدين والمغالين فيه يلتقون مع الشيطان في أكثر من نقطة وموقع. وبما أني لم ألتق بالشيطان خلال عمري الذي قارب السبعين،وهولم يحاول الإتصال بي شخصياً،لأسباب تتعلق به على الأكثر، وبما ان النتيجة بين الله والشيطان لاتزال لحد الآن ، هي، لاغالب ولا مغلوب، فسوف أترك نتيجة هذا الرهان الى يوم القيامة، حيث ستجري السحبة هناك وتعلن النتيجة أمام الجميع.
هذا على الصعيد الروحي واللاهوتي، لكن العالم الواقعي يكشف لنا هذه الجدلية بطريقة ساخرة، حيث يحذر قادة الحزب الحاكم المنتصر أو الغالب، الناس من خطر الحزب المغلوب أومن القوة التي إنتصروا عليها تواً ، وهذا ما شاهدناه مع النازيين والفاشيين والستالينيين وسائر الأنظمة المستبدة، وكذلك النظم البرجوازية اوالرأسمالية في أوربا وأمريكا وسائر القارات، فلكل من هذه الإيديولوجيات شيطانها الذي تخيف به شعوبها وتتوعدهم بالعقاب الشديد ، فيما لو تم إكتشاف أي علاقة معه أو مع أتباعه المتربصين على الطرف الآخر من الجبهة.
وكما أن الشيطان كعدو لايمكن رؤيته ولا لمسه باليد، نجد أعداء هذه القوى ، أيضاً غير منظورين ولايمكن إمساكهم. فهم رهاب متفشي بيننا ولا نستطيع ملاحظته، بل هم من يدركون خطره، كما يدعي أولياء الأمور عندنا.
الكل يعلم أن النظام السابق في العراق، قد أسقطته قوات الإحتلال الأمريكي وليست المعارضة العراقية بكل فصائلها، وهذا ما يشكل نقطة سوداء في تاريخها المديد، وهي اليوم لاتملك غير نضالها السابق ، صحيح ، كان هناك من طالب هذه المعارضة في الإعتماد على الشعب، وقدم برنامجاً وطنياً للخلاص من النظام الفاشي ، وعلي ان أشير هنا، الى الحزب الشيوعي العراقي في هذا الصدد، لأنه كان قد بح صوته من كثرة النداءات التي تحذر من الإعتماد على الخارج في سقوط نظام صدام الدموي، إلا ان ” الكثرة تغلب الشجعان ” كما يقول المثل العراقي البليغ، أو كما قال الإمام علي بن أبي طالب : ” لا رأي لمن لايطاع ” في وصفه لحالته مع اصحابه، بعد أن يأس في إقناعهم بصحة توقعاته.
فبوصلة هذه المعارضة لا تشير الى ما يدعوا له الشيوعيون، فهم في عجلة من أمرهم وكانوا يفكرون بمقاعد الحكم وليس بعذابات الناس، إضافة الى إعتمادهم على الخارج ، في كل تحركاتهم ، حتى بعد وصولهم الى سدة الحكم .
و كان معظم من تسلّم السلطة في العراق، بعد إنهيار نظام صدام السريع، ينتمون الى أحزاب دينية وقومية، لا تملك خبرة في الحكم – إذا استثنينا الحزبين الكرديين (حدك واوك )، اللذان قسمّا المنطقة الكردية فيما بينهما، منذ عام 1991 – ولهذه القوى خيوطها مع دول الجوار المحيطة بالعراق وتتبنى بعض طروحاتها.
العديد من هؤلاء عاش في اوربا أو في بلدان الجوارالعراقي ، وكان بعضهم يعمل كأجير في مكاتب بعض المهن التي تتعلق بأمور الصيرفة وتحويل العملات الى العراق أو إيران وغيرها أو يبيع بطاقات الهواتف أو أجيراً لدى أغنياء الطائفة الشيعية والسنية في مجال العقارات أوعمالاً في مطاعم تجار الطائفتين الكبار وغيرها من المهن – هذا ليس إستصغاراً لأصحاب هذه المهن – وكان معظم هؤلاء والشيعة منهم بالذات، يأخذ دوره في شهر محرم، حيث يتهدل ويلطم في العزاء الحسيني، وغيرها من طقوس عاشوراء الغريبة على العقلاء ، وهم في قلب أوربا.
هؤلاء وامثالهم من يتحكم بنا اليوم، وهم نصف جهلة وعديمي الخبرة في السياسة، بمعناها الحقيقي والراقي المبني على ستراتيجيات متقدمة ، والكثير منهم يمارس السياسة كما مارسها صدام حسين وامثاله،وبينهم الكثير من عديمي الضمير وليس لهم وجدان أو أخلاق، مع ان هناك العديد من أصحاب الكفاءات والعقول والمتعلمين ينضوون تحت ألويتهم مع الأسف الشديد. ومع أنهم قد تربعوا على سدة الحكم في البداية عن طريق المندوب السامي الأمريكي بريمر، من خلال مجلس الحكم، لكن علينا الإقرار بعد ذلك ، أيضاً ، في أنهم قد جاءوا الى السلطة عن طريق الإنتخابات ، ومن خلال صناديق التصويت ، رغم حجم التزوير والترهيب والترغيب والفتاوى التي رافقتها.
فتحول العديد منهم بلمح البصر الى مليونيرية ورجال أعمال مهمين على مستوى المنطقة وصارالعديد منهم يوقع العقود ويأخذ القومسيون والرشا ويمارس السرقة وإغتصاب المال العام وحقوق الأفراد علناً ،دون رقيب أو حسيب .
كانت السنوات الثمان التي مرّت على العراقيين ، تحت هيمنة هؤلاء ، مليئة بالفساد والسرقات والقتل على الهوية وحملات التهجير الداخلي وتقطيع المدن الى محلاّت طائفية وبرز الإرهاب المنظم والقمع المدروس ، وتم إغتيال العقول والخبرات العراقية، بخطط موجهة ودقيقة، وسالت دماء غزيرة يتحمل قسطها الأكبر هذه الأحزاب ومن افتى بإنتخابهم ودعا الناس الى التصويت لهم ، من رجال الدين وآيات الله وحججه المختلفين .
لقد أسقط شعبنا نظام صدام حسين في عام 1991 أثناء إنتفاضة آذار المجيدة، لكن رفع أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، صور الخميني وغيره، وكتابة شعارات تريد الإقتداء بالنموذج الإيراني ، وهو إعتراف رسمي على تبعيتهم لإيران وتحول العراق الى حديقة امامية لها ، قد أرعب الأمريكان، الذين دعوا العراقيين للإنتفاض ضد النظام، مما دفعهم للسماح لصدام مجدداً في قمع الإنتفاضة وتحطيم اماني العراقيين دفعة واحدة ، بعد أن كبلوه بقيود لاتجعله يتخطى كرادة مريم، وبعد أن سيطر المنتفضون على 14 محافظة عراقية .
هكذا ضيع هذا الغباء جهود الملايين التي إنتفضت ضد النظام الدموي وذهبت تضحيات عشرات الألاف من الشهداء ادراج الرياح . لقد ربطوا مصيرهم بإيران ولا يزالون يتسترون على تدخلها السافر في شؤوننا ويبررون كل جرائمها بحق العراقيين بحجج واهية ، كما لا يزال العديد من قادة هذه الأحزاب وأعضائها المهمين ، مرتبطين بجهاز مخابرات النظام الإيراني ، كما ترتبط العديد من الأحزاب السنية والقوى السياسية ، ذات التوجه القومي والطائفي المتشدد، بسوريا وتركيا والسعودية والأردن وحتى مصر .
لقد شاهدت قبل فترة تسجيل مصور على اليوتيوب للنائب عزت الشابندر وهو يصف بعض قادة حزب الدعوة ، وقد نعت حيدر العبادي أحد اهم الرؤوس الكبيرة في هذا الحزب بالغباء، إذ يقول : ” كنت مسؤوله وكان أغبى الأعضاء الذين عرفتهم “. كما وصف أحدهم ب “المأبون “. فالفضائح التي تتكرر في تصريحات العديد منهم ، بين فترة وأخرى، تكشف المفاسد التي لا تعد ولا تحصى،و لاتزال روائحها الكريهة عالقة في الأجواء ، وكان آخرها ، قضية فصل الأناث عن الذكور في المدارس وغلق النوادي الإجتماعية والترفيهية وتحريم الموسيقى والنحت والتمثيل ورياضة السيرك المشوقة، كما سخر قبل فترة مقتدى الصدر من لعبة كرة القدم وغيرها من الأمور، التي لا تتماشى مع فكر القرون الوسطى الذي يتبنوه.
ليس بيني وبين رئيس الوزراء نوري المالكي أي خصومة شخصية، فأنا لا اعرفه وهو لم يسمع بي، ولم تجمعنا مناسبة ما، لكني كنت اتابع تصريحاته من خلال اللقاءات التلفزيونية، التي تبثها العراقية او الحرة وغيرها من القنوات، حسب توفر الوقت لي لمثل هذه القضايا ، وكنت ادرك حراجة موقفه في حكومة المحاصصة الكريهة، وكانت بعض حججه وتبريراته الى حد ما معقولة في أجوته على أسئلة الصحفيين، لكنه سرعان ما سقط من عيني عندما تستر على وزير تجارته ورفيقه في حزب الدعوة المدعو فلاح السوداني – أظن هذا هو اسمه – ومنع اكثر من مرة إستجواب بعض أعضاء حزبه من الوزراء الفاسدين، في البرلمان، وأزداد تدهوره عندي بعد الإنتخابات الأخيرة وقبوله وقادة الأحزاب المتنفذة في جعل سير الإنتخابات تجري بهذه الصورة، كما تأكد ظني برداءة مثل هذه الوجوه ، بعد إصرارها على المناصب بدلآً من مصلحة الشعب، وهنا يجب وضع علاوي وأحزاب الإسلام السياسي بفرعيها السني والشيعي والقادة الأكراد، الذين تحالفوا مع الطائفية بكل انواعها، وكانت سياسة الإبتزاز ولا تزال أسلوبهم الوحيد في التعامل مع الحكومة العراقية،بعج أن قلبوا ظهر المجن للقوى الديموقراطية ، التي كانت القوة المدافعة الوحيدة في العراق عن حقوق الكرد على مدى القرن الماضي ولا يزالون، وضع كل هؤلاء الى جانب المالكي في الرداءة وسوء الطوية والخداع والفساد البالغ الخطورة، حتى لا يظن القراء باني أهاجم الرجل دون غيره أوأتستر على البقية من حرامية بغداد المشهورين .
لقد طالت معاناة العراقيين مدة تزيد على السنة والحكومة لاتزال لم تتشكل بعد، فهل هناك دليل أقوى من هذا يدل على الشعور باللامسؤولية لدى هذه الفئة ؟؟.
كانت آخر تلفيقات المالكي، خطابه الى أبناء الشعب العراقي ، الذي طلب منهم ان لايشاركوا في مظاهرة البعثيين وتنظيم القاعدة والمندسين الذين لا يعلم اصلهم ولا فصلهم . ولأول مرة حسب معرفتي ، يناشد النقابات ويرجوها، وهو الذي قد عمل ولا يزال على إعاقة عملها بطرق مختلفة، بعد ان جمد ماليتها ومنعها من إجراء الإنتخابات السنوية التي كانت تجريها سابقاً وغير ذلك من أساليب العهود الغابرة.
هذا الخطاب الفضيحة ، الذي يعكس طريقة تفكير امثال المالكي ورهطه، خاصة بعد ان تنادى له العديد من حجج الله الذي إبتلي بهم العراق .
لماذا يخاف المالكي وأمثاله على العراقيين الذين خرجوا يوم الجمعة وهم لا يتعدون بضعة آلاف ، من عمليات إرهابية وإندساس البعثيين بينهم ويمنع وسائط النقل عنهم ويحظر التجول عليهم ويغلق الطرق ويحدد ساعات تواجدهم في ساحة التحرير، بينما لا يأبه أو بالأحرى يشجع الملايين التي تزحف بمناسبة وبغير مناسبة الى المراقد الدينية الشيعية،؟؟ ويضع في خدمتها كل إمكانيات الدولة العراقية وأجهزتها، ويعطل دوائر الدولة ، مع تبذير وهدر هائل للمال العام في سبيلها؟ في الوقت الذي يعرف فيه القاصي والداني ، بأنها الهدف المقصود بالذات من قبل الإرهابيين وتنظيم القاعدة والوهابيين والأحزاب السنية المتشددة والبعثيين الذين يصطادون في الماء العكر، وتذهب منهم سنوياً المئات من الأرواح والنفوس في الإنفجارات والمفخخات ؟؟ ؟
أي عاقل سيقتنع بهذا التبرير الذي أورده رئيس الوزراء وبقية الشلّة ، في طلبهم من المواطنين بعدم المشاركة في هذه الفعالية السلمية ، التي يعرفون هدفها بالضبط وهو فضح اللصوص الكبار والمفسدين من الرؤوس الأساسية في الأحزاب الحاكمة والدولة ؟؟ .
أني أرثي لحال الناس الذين إنتخبوا هؤلاء، وربما هم يستحقونهم، لأن القول المأثور والعميق الدلالة ، يقول : ” كيفما تكونوا يولّى عليكم ” . فقد كان الصداميون يستحقون صدام فعلاً ويستحقون المصير الذي آلوا إليه، كما يستحق من إنتخب هؤلاء هذا المآل الذي وجدوا أنفسهم فيه. أما الذين تظاهروا وخرجوا يوم الجمعة 25 شباط ، فقد أعلنوا مقاطعتهم لكل الدجالين من احزاب الإسلام السياسي الشيعي والسني على حد سواء ، وسخروا من آيات الله الكاذبين الذي شوهوا سمعة جماهير المظاهرة والصقوا بهم التهم وفبركوا القصص ، وهي أمور يقع عليها الحد ، وهم أعرف بها، لقد تم نسف جسور الثقة بين الأحزاب الحاكمة و المتنفذة في الدولة العراقية في شقيها العربي والكردي وبين الشعب وجماهيره الغفيرة .
هذه التظاهرة هي التمرين الأول على طريق العراق الجديد، ولقد كان على القوى الوطنية والديموقراطية بالذات ، ان تستخدم سلاح التظاهر وسلاح الإضراب العام وسلاح الإعتصام منذ دخول المحتل الى بغداد، وتشكل حكومة وطنية ، بعيدة عن هذه الوجوه الكالحة، حتى تجبر المحتلين على التعامل معها ووفق شروطها، ما دامت تستخدم أسلحة النضال الشعبي المجربة والتي أطاحت لحد الآن بثلاث أنظمة مستبدة وثلاث أنظمة أخرى، على وشك السقوط ، والحبل على الجرّار.
لندن في 26 – 2 – 2011