إسقاط نظام المحاصصة الطائفيّة العرقيّة الحزبيّة هو الهدف الأوّل والأخير للشعب العراقيّ
سلام عبود
خلال الأيام القليلة الماضية التي رافقت ثورة الشعوب العربية ضد جلاديها وطغاتها المتنوعين، انفرد العراق عن خلق الله جميعا بميزتين خاصتين، راحتا تتكرّران يوميا على لسان الجميع صغارا وكبارا، يسارا ويمينا، هما: اختلاف الواقع العراقي عن غيره، واعتبار التغيير السياسي خطا أحمر لا يجوز النطق به.
ومن عجائب الواقع العراقي الخاصة جدا أن الجميع بدا راضيا عن هذين الشرطين المميزين، الشاذين إنسانيا، الى حد أن بعض المتظاهرين والنواب والمعارضين والعسكرين والحزبيين واللاحزبيين والمثقفين والأميين اعتبروهما دليلا على حسن النيات، وعلى الأصالة “المميزة”والطاعة واحترام القوانين. أي اعتبروهما، من دون خجل، دليلا على العبودية الدائمة، المعترف بها رسميا وعلنا، شعبيا وحكوميا.
لقد بدأ الأمر بالحديث عن أن العراق دولة ديموقراطية منتخبة، كما لو أن الانتخاب كنز الكنوز الفريد في نظر السياسيين الأميين، وهذا شأن أعجب من عجيب. كيف يكون حكم العائلة الاقطاعية ديموقراطيا! كيف يكون الطائفي والعرقي ديموقراطيا! كيف يكون الحزبي الذي يتقاسم وطنا ممزقا ديموقراطيا! وكيف يكون حكم مبنيّ على صيغة معادية لفكرة المواطنة ديموقراطيا! وكيف يكون حكم مؤسس على التقاسم الفاسد للسلطة والقوة والثروة ديموقراطيا! كيف تكون حكومة الميليشيات المسلحة حزبيا وحكوميا، والجنود المقنّعين، ديموقراطية؟ هذه أمور لا تدخل إلا في عقل جاهل، أحمق، من نمط الحكام العراقيين والمطبّلين لهم.
عسكري نكرة، من طراز حسين كامل والكيمياوي، رفعه بعض الإعلاميين التافهين الى منزلة القعقاع الجديد، اسمه قاسم عطا، يحدد، بوقاحة لا متناهية من على شاشات التلفزيون، للعلماء والمفكرين والأكاديميين والمهندسين والأطباء والحقوقيين والفنانين ما هو ممنوع وما هو غير ممنوع سياسيا وحقوقيا ودستوريا. سياسيون جهلة يعتقدون أن نظامهم سيصلح لو صلحت الخدمات، وأنه سيكون أفضل من نظام صدام وزين العابدين، الذي تفوق عليهم في الجانب الخدمي. هذا نظام إجتماعي أكثر من تافه.
شذاذ آفاق يرصدون حركة المواطن الأعزل من شرفات العمارات ولا يحسنون رصد الإرهاب والفساد بالمهارة والشطارة نفسها هم صناع الإرهاب والفساد الحقيقيون، وهم المجرمون الأكثر خطورة على مستقبل هذا الشعب.
العراقي كغيره من البشر يحتاج الى كرامة والى مواطنة والى حقوق مدنية دستورية، لا الى محاصصة طائفية عرقية أو حزبية. إن نظاما يقوم على هذه العناصر الثلاثة الفاسدة هو المصدر الأساسي للارهاب والفساد والطغيان وسوء الإدارة والسرقة العلنية، سواء جاء على دبابة أميركية أو بانتخابات أو عن طريق الحزب الواحد، سواء كان رئيسه مالكيا أو علاوّيا أو بارزانيا أو طالبانيا أو صداميا أو حسني مبارك أو بن علي. هذا نظام لا يختلف في جوهره عن نظام قرضاي في أفغانستان، بل أجزم فأقول إنه أسوأ منه بملايين المرات من حيث المحتوى، لأن نظام قرضاي “المنتخب ديموقراطيا” أيضا يقوم على توازن عشائري، صوري وطنيا، مسنود من قوات الاحتلال، بينما يقوم نظام الحكم الفاسد لدينا على مزيج من أسوأ عناصر التركيب الاجتماعي تخلفا ووضاعة في التاريخ البشري كله: الطائفية السياسية، والنزعة العرقية، ونزعة التقاسم الحزبي، وفقدان الانتماء الوطني، وفقدان الكرامة البشرية، وغياب الحقوق الدستورية.
إن العراقي ، كما يدعي الوضعاء من السياسيين والمثقفين، مختلف عن غيره من البشر، ولا يحتاج الى إصلاح سياسي، وإن سقف أحلامه تقتصر على إصلاح الشؤون البلدية والخدمية، وتنحصر فيها، وإذا تجاوز ذلك عُدّ مجرما من قبل الفاسدين الفاسقين المتخلفين. إن العراقي مثل المصري والتونسي لا يقبل ولا يستحق أقل من الكرامة، والمواطنة، والحكم الدستوري المدني الحقيقي، التي ستقود كلها مجتمعة الى إصلاح الفساد السياسي أولا، ثم القضاء على الفساد الخدمي تاليا.
إن من يستصغر المواطن العراقي ويضعه في معادلة احتقارية إذلالية واستعبادية: الإصلاح الخدمي، إنما هو أرعن وسفيه لا يفهم قوانين المجتمع، ولا يفهم أن الشعب العراقي يستحق أكثر من هذا، وأنه أحد أكثر الشعوب معاناة وحاجة الى التغيير، وليس أقلها علما وتحضرا وتمدنا. إن الحل الوحيد لأزمة الواقع لا تكمن في الخدمات، ولا حتى في من يقفون خلف نظام الخدمات الفاسد، سواء في الإدارات المحلية أو في الدوائر العليا للسلطة فحسب، التي يجب أن تسقط غير مأسوف عليها، بل تكمن في تغيير بنية النظام والتركيب الاجتماعي القائم، الذي قاد الى نشوء هذا الخليط السياسي كله، تكمن في بنية النظام المجتمعي المختل والمشوه، الذي جمع في داخله شرور النظم السابقة كلها وأضاف اليها ميزاته الجديدة الفريدة حقا: الاحتلال والطائفية والنزعة العرقية، والفساد المالي والسياسي والقانوني باعتبارها منظومة حكومية رسمية، مميزة جدا، وخاصة جدا، لم يعرفها مجتمع آخر من قبل، بهذه الكثافة والقوة والعفونة.
إن من يستصغر الشعب العراقي، ومن يجعل هذا الشعب المبتلى بالطغاة مختلفا وأقل منزلة من غيره من الشعوب هو جلاد جديد، لكنه جلاد منحط ومتخلف. فالبعث الصدامي الذي أمسك بخناق السلطة، لم يكن يرفض مبدأ التغيير السياسي من منطلق استصغار المواطن والوطن، بل على العكس، كان يفعل ذلك تحت شعارات كاذبة هي شعارات الحروب العظيمة والعراق العظيم من أجل الاستئثار بالسلطة. واليوم تحل علينا طغمة من الحكام التافهين الذين يستأثرون بالسلطة ويتقاسمون ويتحاصصون الوطن أيضا، ولكن تحت شعارات وضيعة ومخجلة أخلاقيا وإنسانيا.
إن المجتمع العراقي هو أحوج من المجتمع التونسي والمصري الى دولة مدنية عصرية ترفض التحاصص الطائفي العرقي الحزبي، وتعلي مبدأ الكرامة والمواطنة والحق الدستوري.
إن المواطن العراقي لن يقبل إلا بدولة يحقّ فيها للعربي أن يكون رئيسا للجمهورية ووزيرا للخارجية، وللسني أن يكون محافظا للنجف، والشيعي محافظا للأنبار، ولكل عراقي أن يكون محافظا لكركوك، ويحق فيها للمسيحي والمندائي والتركماني والكردي والسني والشيعي أن يكون رئيسا – عادلا وعارفا وآدميا – للوزراء.
أنتم لا تبنون وطنا، وإنما تبنون حاوية قمامة سياسية، أيها السياسيون الجهلة!
أيها العراقي: ارفض أن تكون أقل من الآخرين، فأنت لست أقل منهم منزلة وكرامة ومواطنة وإنسانية، إنما حكامك هم الأكثر وضاعة وفسادا وجهلا.
صن مواطنتك وكرامتك وحقك المدني الدستوري!