مهمات أمام الشباب العربي
سليمان تقي الدين
لا جدال في أن الشباب العربي هو الذي يصنع التغيير اليوم. لا يعني هذا أن الشباب فئة خارج المروحة الاجتماعية والسياسية لشعب من الشعوب. هؤلاء يأتون من مواقع اجتماعية واتجاهات سياسية وثقافية عدة. هم الفئة الأكثر استقلالاً وحرية حركة وحداثة تفكير ووسائل. هم الأكثر تهميشاً مادياً ومعنوياً والأكثر استشعاراً لبيئة الاستبداد والفساد والتبعية والاستغلال. يرفض الشباب الأنظمة القائمة ولديهم مطالب واضحة عبّروا عنها بحسب ظروف كل بلد، لكنهم لا يملكون برامج لبناء أنظمة مختلفة. ليسوا وحدهم في هذا الواقع، في العالم العربي وغير العالم العربي، بل هناك قضية عامة اسمها غياب المشروع الإنساني البديل. لا يكفي تغيير السلطة السياسية على أهميته الكبرى لكي يؤدي إلى بناء نموذج إنساني آخر. ولا يكفي تغيير السلطة لكي تتوفر الضمانات لمجتمع منفتح، حر، ديموقراطي يتطلع إلى العدالة الاجتماعية. هنا تكمن أهمية مشاركة النخب ذات الفاعلية والكفاءة لاقتراح البرامج وصياغتها وتوفير ظروف تطبيقها.
في العالم العربي طبعاً ما زلنا دون مستوى الدولة الحديثة. كل تغيير في اتجاهها مفيد ومهم. الدولة الدستورية، دولة القانون والحريات، القضاء المستقل وحقوق الإنسان والتنمية الشاملة المستدامة والحكم الرشيد عناوين ما زالت في أدنى درجات السلّم. نحتاج إلى ورشة إصلاح هائلة بقوى اجتماعية متضامنة متعاونة لإنجاز وإرساء القواعد الدنيا لهذه العناصر التي تشكّل الدولة الحديثة. النصوص والقرارات والمؤسسات وحدها لا تكفي. هناك حاجة دائمة لحراسة هذه الهياكل وتفعيلها وتطويرها. ثمة حاجة دائمة إلى قوى الضغط، إلى المؤسسات الشعبية لدفع الإصلاح وتعميقه.
الأحزاب البرلمانية ضرورة، التعددية السياسية والفكرية مهمة، لكن الشغل على الثقافة السياسية، على القيم والمعايير والقواعد هو الأهم. الهويات الإيديولوجية لا تعني شيئاً اليوم. الحزب الإسلامي أو القومي أو اليساري أو الليبرالي لا يعني بالضرورة أن الممارسة السياسية والمشروع السياسي يتطابق مع هذه الهوية، ولا تعني الهوية أنها الحل الفعلي لمشكلات المجتمع. هناك حاجة لصياغة برنامج وطني ينطلق من الهموم والاهتمامات والمطالب والأحلام التي عبّر عنها الشباب العربي في الميادين والساحات. قيم الحرية والكرامة والعدالة لا يمكن أن يختصرها تيار سياسي. هذه قيم أكبر من كل الأحزاب والتيارات والعقائد، هذه قيم تكبر وتتسع مع التطور التاريخي والإنساني.
المهمات التي تواجه اختيارات الشباب كثيرة. أي دستور، أي نظام برلماني وحزبي وأي قانون انتخاب، أي قضاء وأي قانون إعلام وأي توازن بين السلطات وما طبيعة الرقابة والمحاسبة والمساءلة، وأي توجه اقتصادي واجتماعي؟ أية سياسات خارجية وأمنية وأية علاقات مع أطراف المجتمع الإقليمي والدولي؟ أي نظام تربوي وأية ثقافات يتم دعمها وتشجيعها؟ هذه المسائل ليست بديهية أبداً ولا هي سهلة. الفجوة بين حماسة الشباب وحركته وبين نقص البرامج لدى كل القوى السياسية تحتاج إلى معالجة. النخب الثقافية، أو الكادرات العليا من المجتمع الملتزمة بالتغيير عليها أن تجد موقعها في حركة الشعب هذه.
لكن مهمة بناء الدولة الحديثة ليست متروكة للأفكار من خارج موازين القوى وضغوطات المجتمع ولا سيما مؤسساته القديمة وثقافته الموروثة. هناك الجيش والمؤسسة الدينية والأحزاب القديمة ومراكز الثروة والنفوذ والتفاعلات بين الداخل والخارج في ظل العولمة الراهنة. إذا صح ذلك فإن نشوء كتلة تاريخية وطنية موحدة التوجهات والرؤية ضرورة للمرحلة الانتقالية. في جميع الأحوال يحتاج أي مشروع وطني إلى تكوين قواه ومؤسساته. لقد عانى العرب من شبه القطيعة بين شعارات القائد الوطني أو القيادة أياً تكن والتنظيم السياسي.
لا يمكن بناء دولة حديثة عبر استعادة سياسة التفويض من الشعب إلى أية جماعة أو نخبة أو حزب. للديموقراطية أيضاً عيوبها المتزايدة اليوم بفعل التأثير المتعاظم للمال والإعلام وكتل المصالح الاقتصادية الفاعلة في مفاصل الدولة. النماذج العالمية ليست مثالية وليست جاذبة وليست صالحة للمجتمعات العربية. العرب لم ينجزوا مهماتهم القومية التحررية الوحدوية ولم يحلّوا مشكلات المواطنة ولا مسألة الأقليات ولم يتقدموا خطوات حاسمة لفصل الدين عن الدولة. ثورة العرب اليوم لتحقيق فكرة أن الشعب مصدر السلطات دونها أكثر من عقبة واحدة، عقبة الاستبداد والشرعيات المزعومة للحاكم وللدولة المستمدة من مصادر دينية. عرفنا نماذج أنظمة وطنية حملت إيديولوجيات قومية عابرة لكل الهويات الفئوية، لكننا لم نعرف نموذج الدولة العلمانية من الطراز التركي. شهدنا مخاضاً عسيراً لإنتاج الدساتير الوطنية في أكثر من دولة عندما كان الأمر يتعلق بمصادر التشريع. لا نريد تضخيم هذه المعوّقات ولا التهويل بنفوذ الثقافة الدينية ولكننا نستدرك لتحديد طبيعة المرحلة التاريخية الراهنة. قد لا نستعجل الإجابة على المسألة القطرية والقومية لكن من غير المعقول إرجاء التفكير بسياسات عربية مشتركة. ليس من دولة عربية قادرة على رسم سياسات وطنية بمعزل عن منظومة الأمن القومي. ليست فلسطين وتحديات إسرائيل إلا مثالاً من جملة أمثلة على ترابط القضايا العربية.
لا سياسة وطنية مصرية من دون السودان ومشكلاته، ولا سياسة يمنية من دون أمن الخليج، ولا أمن للخليج من دون تكامل مع السياسات والأمن العربي. ولا استقلال للعرب ولا كرامة وطنية من دون الاستثمار العقلاني التكاملي للثروات والموارد ومن دون سياسات اجتماعية عادلة في توزيع الثروة وإدارتها. هذه ليست فرضيات بل وقائع. مليون ونصف المليون مصري في ليبيا وقبلهم في العراق، ومثلهم عراقيون في سوريا، وأربعة ملايين فلسطيني في دول الجوار العربي، وعدة ملايين من العرب العاملين في الخليج. ومن غير المصادفة أن مجلس التعاون الخليجي هو الشكل الوحيد المستقر للتعاون بين كيانات عربية عدة، وأن ثغرته القاتلة كانت استبعاد العراق واليمن. وليس مصادفة أن الشمال الأفريقي لم يستقر منذ خروجه عن مفهوم التعاون العربي ليذهب في اتجاهات قطرية ومن ثم أفريقية دون حماية سياسية من العرب.
وليس مصادفة أن سوريا وكل دول قوس المشرق العربي لا يمكن لها أن تنطوي على كياناتها في فلسطين والأردن ولبنان والعراق. هذه ليست استعادة لأفكار قومية رومنسية بل هي الفهم الواقعي للجغرافيا السياسية أولاً ولأهمية التجمعات الإقليمية في النظام الدولي ثانياً، ولطبيعة الصراعات التي لم تنتهِ على دور هذه المنطقة بمكوناتها الإنسانية والطبيعية.
لكي يبقى الشباب العربي ممسكاً بقضيته، ولكي يتعزز مشروع التغيير ثمة حاجة إلى حوار وطني مفتوح تشترك فيه كل القوى والتيارات ذات المصلحة في بلورة النموذج الوطني المدني الديموقراطي.