يوسف شاهين وسينما الاختلاف
ميرفت المديني
لم يكن يوسف شاهين في يوم من الأيام مخرجا وحسب.. لم يكن مفكرا وحسب .إنما كان ومازال رمزا من رموز عالمنا العربي. ذلك أن شاهين الاسكندراني المصريّ… القوميّ… المسيحيّ هو أيضا عربيّ حتى النخاع. وعروبته ليست شعارات كاذبة وأقوال زائفة تخفى في ثناياها مصالح شخصية بل هي عروبة نابعة من وعي حقيقيّ بتاريخ عميق وحضارة ثرية وثقافة عريقة وخاصة تحديات واقع صعب وهموم مشتركة وتحديات كبرى.
منذ أكثر من 57 سنة ويوسف شاهين يعمل في حقل الفكر والإبداع السينمائي، 57 سنة من العطاء والالتزام، 57 سنة من الفنّ، 57 سنة من الأفلام والقضايا والمنازعات…
قيل عنه إنّه “رمزي” وأنّ أفلامه “معقّدة صعبة الفهم” وأنّها “أفلام مثقفين” وأنه لا يأبه برأي الرقابة والنقاد ولا حتى بالجمهور.
قيل أنه عصبيّ ،مزاجي، ديكتاتوري، إنّه “خواجة” (أجنبي) واتُّهم بأنه “صهيونيّ” عند عرض فيلم إسكندرية ليه سنة 1979. ولكنه أبدا لم يهتم، لأنه من خلال تجربته الثرية يعلم أن مع كل فيلم جديد تتأكد مسؤوليته عن اختياراته الفنية والفكرية.
غير أن إثراءه للساحة الفنية المصرية والعربية يتعدى بكثير عدد أفلامه ويتجاوز سنوات مشواره الفني والإنساني الحافل بالعطاء والالتزام … وإذا أردنا اليوم التحدث عن يوسف شاهين، فهل سنتحدث عن التزام الفنان المبدع أو عن وعي المفكر الناضج أو عن مشاكسات المواطن المثقف؟
قطعا لا يمكننا التجزئة، فشاهين خليط مثير للجدل… فهو مرح وقلق، عنيد ومزاجيّ، صلب وطموح مشهور ونجم من نجومية السينما العالمية… هو شاهين أو بالأحرى هذا البعض من شاهين لطالما شخصيته معقّدة وذات طبقات متفاعلة بين بعضها البعض.
ولد “يوسف جبرائيل شاهين” سنة 1926 بالإسكندرية من أب لبناني يمتهن المحاماة وأمّ مصرية، تلقى تعليمه الابتدائي في المدرسة المسيحية ثم في”الفيكتوريا كوليج”، عشق المسرح والسينما من طفولته وأحبّ روايات “شكسبير” وحاول تقديم البعض منها على مسرح المدرسة. تميّز في الأداء التمثيليّ والرقص، قلد “فريد استر” و”جين كيلي” و”استر ويليامس” حلم بجمال وأنوثة “ريتا هايوورث”… وطار إلى هوليوود سنة 6 194 لدراسة فن التمثيل والإخراج ببازادينا بلوس انجلوس، عاد إلى مصر سنة 1948 (عام النكبة) مليئا بالأحلام، أحلام الفارس البالغ من العمر مائة سنة، صلب القلب، طموح يتمنى أن يحتوي العالم من خلال مصر. كان يتساءل حينها ماذا يفعل من أجل مصر ؟ من أجل “ناس مصر” ؟
كيف يتسنّى له، هو المصريّ العربيّ، أن يكون يوما “مخرجا عالميّا”؟ كيف السبيل للوصول لتحقيق كلّ الأحلام والآمال ؟
سنة 1950 تمكّن الشاب شاهين من تركيز أوّّل حجر أساس في مسيرته الفنية بمساعدة المصور المشهور “ألفيزي أورفنيلي”، وكان بابا أمين باكورة أفلامه. لكن قبل ذلك تساءل شاهين وهو عاشق لسينما الهوليوودية: ما هي السينما المصرية؟ ما لونها ؟ أهدافها ؟ خطوطها الحمراء؟ إلى أين تسير بالمتفرج المصريّ والعربيّ، وهو الفنان الذي يحب السينما لدرجة القداسة ورغم صغر سنه، قدم شاهين في أول أفلامه فكرا مختلفا و صدى حقيقيا لعصره وأبناء عصره حتى ولو قارنّاه بأفلام جماعة كمال سليم وصلاح أبو سيف وغيرهما، كان صورة مكبّرة ومجسّمة لحال مصر السياسيّ الاقتصاديّ والاجتماعيّ، صورة بنية عامة في طريقها إلى التفكّك والانهيار، بنية مستسلمة لمخططات المتآمرين عليها بداية من الاحتلال البريطانيّ ومرورا بالفاروقية الجامحة والفوارق الاجتماعية البالغة.
كانت سينما بدايات الخمسينات ما تزال في ثباتها في الاهتمام بالكمّ عن الكيف والفكر الحرّ، لكن تلازم المنهج الفكريّ واكب شاهين منذ بداياته حتى إن وجهة نظره السياسية والإيديولوجية باتت أكثر نضجا مع فيلمه الثاني ابن النيل (1951) حيث قدم شاهين في هذا الفيلم تساؤلات واضحة عن الصراعات الطبقية من يملك ومن لا يملك؟ بين من يعيش ومن يحيى ؟ بين من هو راض بحياته ومن هو رافض لها ؟ طرح شاهين مرة أخرى قضية الديمقراطية بعد بابا أمين لكنه هنا أكثر جرأة وأكثر شجاعة.
وتتالت أعمال شاهين …
وتتالت الأحداث السياسية في مصر والعالم العربي: ثورة الضباط الأحرار سنة 1952 ، العدوان الثلاثي سنة 1956، هزيمة 1967 انتصارات أكتوبر 1973، تأميم السينما – حرب الخليج – العدوان على العراق 2003 وطبعا الحرب الأهلية بلبنان وتداعيات القضية الفلسطينية …
واكب شاهين تاريخ مصر والعالم العربي وأخرج أفلاما عديدة نادى من خلالها بالعدالة الاجتماعية في زمن كانت فيه السينما المصرية غارقة في الميلودراما العاطفية الزائفة خرج للشارع المصري وتجول بالكاميرا بين الحواري والقرى أيام كانت الأفلام تدور في قصور البشوات والنوادي الراقية ساند ثورة الضباط الأحرار والاشتراكية الناصرية وقدم فيلم الناصر صلاح الدين سنة 1963 ورغم أنه فيلم شاهين يعد فيلما تاريخيا فهو ليس فيلم عن نضال صلاح الدين الأيوبي بقدر ماهو رمز للنضال في العصور الحديثة فالفيلم في الحقيقة هو رغبة عارمة أن تستعيد الأمة العربية مجدها الضائع أمام من يتزعمون حركة البلطجة الامبريالية في الساحة الدولية وهو رغبة دفينة عند شاهين أن تعاد الروابط التاريخية والأسرية بين المصريين والعرب ولما لا عن طريق حلم القومية العربية لجمال عبد الناصر.
غير أن شاهين الاشتراكيّ والذي ساند الثورة وإيديولوجياتها ونادى بالعدالة الاجتماعية، صدم أمام هزيمة السياسة والسياسيين اثر ما سمي بنكسة 1967 التي اعتبرها شاهين هزيمة حقيقية لكل الآمال وأحلام شباب الثورة.
لكنه لم يقف جامدا مثل غيره من المفكرين والسينمائيين بل غاص في أعمال الأزمة متصديا لزمن الأوهام الاشتراكية والأحلام الوردية والشعارات المثالية وقال لا للهزيمة مؤكدا دائما نزعته الإنسانية الخالصة التي تتحدى المكان والزمان وكان الأرضي والعصفور.
حتما كان شاهين في بداياته الأولى ابن النيل صارع في الوادي، صارع في الميناء أكثر هدوء لكنه مع مرور الزمن وتراكم التجارب ازدادت همومه تعقيدا فبحثه عن نفسه وعن مجتمعه وواقعه جعلاه يطرق أبوابا مغلقة ويتطرق إلى محرمات العالم العربي : الدين ، الجنس والسياسة وخاصة السياسة ، شاهين كسر قيود الرقابة ودخل معها في صراعات عديدة غادر مصر، واستقر بلبنان سنة 1965 لكنه عاد مع الهزيمة، دخل السجن سنة 1984، نزل للشارع وتظاهر مع الناس، قاد إضرابات الفنانين في النقابة .ساند القضية العراقية .وزار بغداد في ظل الحصار… منعت أفلامه بدعوى من الرقابة أحيانا مثل فيلم الناس والنيل وأخرى بمقتضى دعاوي قضائية من بعض المتعصبين وهو ما حصل مع فيلم المهاجر…. هاجمه الأزهر ونادت الجامعات الإرهابية بسفك دمه ومقاطعة أعماله لكنه ظل صامدا أمام كل التيارات والأنظمة السياسية وأمام الإرهاب مناديا دائما باحترام الحريات الفردية وأهمية الحوار مع الآخر ونبذ التعصب…
هوجم لأنه مسيحيّ واتّهم بالتطبيع مع إسرائيل وأنه يسيء لسمعة مصر وعندما يسأل عن سر صموده وثباته رغم كل الصعوبات ورغم مرضه وحالته الصحية الدقيقة إجابته كانت دائما واضحة وصريحة بحب الناس
هذا هو سر شاهين: إنسانيته الفطرية.
هذا هو شاهين إنسان أولا وأخيرا.
مثقف واع، فنّان ملتزم، مثابر ومناضل من أجل حرية الإبداع الثقافي والتعبير السياسي، مخرج عاشق للتفاصيل، أفلامه تجمع بين عمق المضمون وجمال الصورة، بين حدّة القضية المطروحة وسلامة الحوار بين الفكر السياسيّ وأناقة الأداء بين رشاقة الحوار وحركة الكاميرا.
البعض يقول إنها سينما التناقضات وأنه مخرج مذبذب الاتجاهات والآراء ولكننا نقول أنها سينما شاهينية خاصة جدا وتحمل سمات مخرج مختلف ينادي عاليا بحقه في الاختلاف ويرفض كل الأحكام المبهمة والبديهيات لا يخجل أن يغير اتجاهاته إذا تغيرت المفاهيم والأوضاع.
لا يخجل من حبّه للسينما الأمريكية وحلمه بالعالمية، لا يؤمن بالطائفية ويرحب بالتعددية الحزبية والفكرية يقول أنه مزيج حضاريّ، جذوره المتعددة، نشأته في الإسكندرية، دراسته بالخارج، إتقانه للغات الأجنبية، زواجه من فرنسية جعلته مختلفا وجعلته أكثر إيمانا بأهمية النزعة الإنسانية…
تبقى سينما شاهين عالما يتميز بذاتية الموضوع ظاهره ملوّن مبهج ومشع وخباياه صراع وألم إنساني دفين.
سينما شاهين هي سينما الإنسان قبل كل شيء. الجوهر والأساس ونقطة البداية والختام والمحور الأساسي في جل أعماله هو:المواطن العادي، رجل الشارع، الفلاح البسيط رجل الشارع، الفلاح البسيط، المثقف، المجاهد، المفكر…
سينما بهية وأبو سليم وقناوي وعلي وابن رشد ويحيى ورام وآدم وحنان …
شاهين تحدث عن هذا الإنسان الذي يعاني الحرمان والقهر والاستغلال،هذا الإنسان المكبوت المقموع سياسيا، اجتماعيا اقتصاديا ودينيا، هذا الإنسان الحائر أمام فساد السلطة وعجزها وهزيمتها.
شاهين تحدث عن الشعب، عن الجماهير العريضة التي خرجت تنادي في “عودة الابن الضال”، “الشارع لنا” وتلك التي احتلت الشوارع رافضة الهزيمة بقيادة بهية في العصفور مرددة في نفس واحد وقلب واحد ” حنحارب… حنحارب” هم أولئك العمال والمهندسون الذين شيدوا السدّ العالي في الناس والنيل وأولئك …. وأولئك.
وإنسان شاهين هو أيضا أحمد المهندس الطموح في صراح في الوادي الذي يسعى جاهدا لتحسين مستوى قطن الفلاحين الغلابه متصديا للباشا.وهو أبو سويلم الفلاح البسيط “في الأرض” الذي يتشبث بأرضه مقاوما جشاعة الباشا الإقطاعي. وهو يوسف الصحفي والوطني “في العصفور” الذي يسعى لفضح خبايا فساد السلطة. هو بهية تلك المرأة الرائعة رمز مصر أم الدنيا..وحنان الصحفية الشجاعة في “الأخر”. وهو ابن رشد المفكر العربي في المصير.ورام الباحث عن العلم والسعادة في المهاجر ويحيى في الرباعية الذاتية وهو أيضا ذلك الإنسان المهزوم المكبوت الضال فهو قناوي الذي يعيش صراعا نفسية مع الشذوذ في باب الحديد، وهو علي الذي يعود هزيلا مهزوما بعد سنوات الضياع في عودة الابن الضال، وهو فاطمة التي تعيش القمع من أسرتها ومجتمعها القروي أيضا في عودة الابن الضال وهو المثقف في الاختيار الذي يعيش مع قناع مزيف.
حيال هذا الواقع المرير يرفض شاهين ويقول لا ويحرّض على التمرّد والصراع ، التمرّد على العائلة البرجوازية، على السلطة على العدو وخاصة على المجتمع كما هو قائم اليوم بعقليته السلفية وأخلاقياته الكاذبة، فشاهين يرفض هذه المجتمعات القائمة على نمط القاعدة السائدة والتي لا تعترف بحق الاختلاف وتقوم على التمييز بين الأفراد من خلال أفلامه، شاهين ينادي بمجتمع “عادل” يعترف بحقوقية الإنسان ويسعى إلى الاعتراف باختلاف الآخر ويحاول دمج الحالات الخاصة مثل قناوي وعلي وغيرهم في القاعدة السائدة. دائم السباق مع نفسه و مع جيله، لكنّ شاهين المتمرد ورغم كل الصراعات وكل التحاليل لحركة الواقع والمجتمع والتاريخ اختار أن تكون نظرته عفوية نابعة من القلب والوجدان وأن تكون رؤيته إنسانية بحتة تنطلق من اشتراك القلب والفكر، نظرة مختلفة منحازة ضد التعصب والانغلاق، نظرة ذلك الطفل البريء ذلك الصبيّ الذي يعبّر أفلامه وكأنّه حلم أو طيف أو ربما أمل في مستقبل مشرق وفجر يوم جديد، نظرة الطفل الذي بداخل شاهين…
هذا هو إنسان شاهين أو بطل أفلام شاهين، إنسان يفرج ويغضب، ينتصر ويهزم، يحارب، ويناضل، يعي ويضلّ، بطل مختلف من دم ولحم .بطل يشبهنا بعيدا عن شعارات والمثاليات المهيمنة على سينماتنا العربية بطل/ إنسان. بطل يشبه شاهين نفسه.
نحن إذن أمام سينما تشع واقعية وتنبض حياة، أمام سينما شاهينية تحترم الإنسان وتحترم الجمهور تتفاعل مع الأحداث المحلية والعالمية، هذه سينما شاهين التي نحبها وهذا شاهين الذي نعشقه…
شاهين الذي عاش عاشقا للسينما رغم موجات النقد اللاذع وعراقيل الرقابة والسلطة والإرهابيين.
فشكرا لشاهين.
ميرفت المديني (باحثة من تونس)
موقع الآوان