أسياد القبيلة

نديم جرجورة
لا يزال فضاء المدينة نازفاً، والناس نياماً لن ينتبهوا إذا ماتوا، لأن الموت خبزهم اليومي المتبقّي لهم من فتات الموائد العارمة بصفقات قادتهم. لا يزال هواء المدينة ملوّثاً بالعنف والغضب، والناس صامتين، لن يصرخوا ألمهم، لأنهم معتصمون بسيّد القبيلة، ظنّاً منهم أنه خلاصهم الأكيد. لا تزال روح المدينة عفنة، والناس أيتاماً إذا تخلّى عنهم زعيم تابع لزعيم تابع لزعيم. لهذا كلّه، تصبح الكتابة الجادّة تعذيباً للنفس ورجماً للعقل، لأن الكلمة لا تصنع خلاصاً من الشقاء اللبناني، ولأن ادّعاء المعرفة حكرٌ على قبائل متناحرة.
لا يُختزل عجز الكتابة عن ممارسة أي فعل حقيقي بإطار من دون آخر. ذلك أن أي كتابة جادّة (في الإبداع والصحافة والنقد والسياسة والشأن العام) تُواجَه بلامبالاة قاتلة في مجتمع جاهل. فكثرة المدارس والجامعات الطائفية مثلاً تُخرِّج منصاعين لقبائلهم ومهلّلين لأسيادها، تماماً كما أن كثرة دور العبادة والمتعبّدين وحدها لا تصنع إيماناً صادقاً. لهذا كلّه، تبقى الكتابة الجادّة أداة قهر للمشتغلين بها، لأنها إذا انطلقت من نبض ذاتيّ تصطدم سريعاً بجدار الجماعة المنتصب أمام الخارجين على طاعتها. والكتابة، إذا لم تبلغ الآخر وتغريه بنقاش وتواصل سويين، تصبح وظيفة حكومية: لا تُسمِن ولا تغني، بل تسبّب أضراراً في الجسد والعقل والروح والانفعال.
انهار البلد والمجتمع، وتشوّهت يوميات الناس بالخنوع والآلام، بسبب عمليات «موضعية» أجراها المتقاتلون جميعهم بحقّ المدينة وناسها، والمدينة وناسها منغلقون على سكينة لا تشبه هدأة الموت أو صمت القبور، لأنها أسوأ من أن تبلغ مرتبة الجمال هذا. دُمِّرت أحياء ونفوس، لأن هناك من ارتأى استخدام عنف مادي في الأزقّة استكمالاً لعنف كلامي أرهق الجميع بحدّته وجنونه، وهوسه بإلغاء المختلف، وسحق روحه. وآخرون لا يقلّون فساداً عن غيرهم، ما دامت الغالبية الساحقة تؤمن بالقبيلة وسيّدها، وتنزع إلى حميمية البيئة الضيّقة وحمايتها. لهذا كلّه، تستحيل الكتابة الجادّة نزفاً عصبياً يبدأ من هذيان فردي ولا ينتهي عند انخراط الجميع في لعبة الجحيم اللبناني. فهذه الكتابة، إذا ظلّت حبراً على ورق، تظلّ مجرّد مفردات منسّقة في سطور وجمل متتالية من دون روح أو مغزى.
فالذاهب إلى قبيلته لن يقرأ كتابة تدعوه إلى التنصّل منها، بل يُمتّع ذاته وجماعته بأقوال سيّد المحليات الضيّقة وعقلها المفكّر. والذاهب إلى جماعته، لن يجد في كتابة مغايرة لمفاهيمه العظيمة عن المذهبيّة والعصبويّة والحماية الذاتية مرآة لنفسه التوّاقة إلى رجم الآخرين ودحرهم والتخلّص منهم. لكن هذين الذاهبَين إلى قبيلة وجماعة لا يختلفان عن غالبية تُشارك في مشاهدة عمل فني أو في قراءة نصّ إبداعي، لأن الغالبية هذه لا تقرأ ولا تكترث بتراكم معرفيّ يؤمّن لها شيئاً من الطمأنينة والأمان، وإن ادّعت عكس ذلك.
إذاً، هل تفيد الكتابة الجادّة بشيء؟

السفير