ظاهرة تراجيديا الاستثناء في شخصيات الزعماء
فلورنس غزلان
هذه الشخصيات” الظاهرة” النادرة المنهارة أو السائرة نحو الانهيار بسرعة غريبة ونحو الاندثار والانقراض بفعل الزحف الشعبي الخارج لتوه من نومة أهل الكهف العربي، لقد اكتسبت عبر نصف القرن الماضي صفة الندرة والتندر…سمات غريبة على العالم المتحضر، تمتد رقعة تكوينها ونشأتها فوق خريطة تقع ، بين الماء والماء من الخليج شرقاً حتى الأطلسي غرباً، يدفعنا للتساؤل عن الأسباب الكامنة فينا نحن أبناء المنطقة وماهية جيناتنا الشخصية القادرة على تفريخ هذا النوع العجيب من الشخصيات لزعماء تتمركز قيادتهم لشعوب تُمَّكنهم من استخدامها مطية سهلة..لدرجة أوصلتنا إلى مراحل من القنوط..بأنها قادرة على لفظها بالطريقة التي تمت وتتم فيها مستمرة بكسر حواجز الخوف وجدران الصمت، إزالة كمامات الأفواه وفتح الأقفال وتحطيم السلاسل..متخطية خطوط ” بارليفية أمنية” كانت قبل زمن وجيز عصية على التفكيك ..لكن الموضوع ماهي الجاهزية لدينا كشعوب للمنطقة كي نستمريء تراجيديا الضحية كل هذه المدد؟ وماهي علاقة هذا الاستمراء بقبول شخصيات استطاعت أن تخرق المألوف عبر محيطات الكرة الأرضية، فتعطي للعالم صورة مزيفة…أننا شعوب لاتقاد إلا بهذا النوع من الشخصيات..بعضها مريض عصابي..هستيري والقسم الأكبر منها تتجسده العظمة..والقدرة على أنه ” شمشون زمانه” أو عبقري عصره..والأهم من كل ماسلف الاعتقاد لديهم جميعاً أنهم ” ثابتون” غير قابلين للتحول والتغيير..وربما أن المفردة الأخيرة هي الأدق…لأن بديهيات الكون علمتنا أن لاثبوت لإنسان ولا لحكم ولا لشيء…فالكل قابل للاشتعال..والخرق والانحلال..كلهم دون استثناء ..شر وبلاء، يعتقدون أنهم شخصيات عظيمة تُوِّلد الخير والبر والتقوى، هم الجمال والكمال، الفرادة والندرة، فيهم شفاء لكل دواء..لامثيل لقدراتهم على تمثيل أدوار الكاوبوي، وأدوار القضاة المحنكين، عباقرة زمانهم، طهاة للاقتصاد والبناء نهاراً وسعاة للنهب والفساد والافساد ليلاً..حرامية يحيط بكل منهم أربعين..من أزلامهم المدربين على أحدث مبتكرات سحب الفلوس والأموال..من الجيوب والخزائن الوطنية، وتعبئتها في خزائن حديدية خاصة بهم…يرسلونها خفية وعلناً فلا رقيب ولا حسيب…إلى كل صناديف البنوك المحكمة في أصقاع الأرض من أقصى شرقها لأقصى غربها..مبيضة، مفبركة، معدة كتوفير وتقتير تعلموه من بيوت أجدادهم المتواضعة ربطوا على بطونهم سنوات طويلة ليوفروا من رواتبهم القليلة مليارات من البنكنوت ومن القطع البلاتينية والمجوهرات النادرة لهم ولنسائهم!..ولا يتوانون عن تعليم شعوبهم كيفية الاقتصاد وعدم التبذير ، بل التدبير للزمن الغافي المفاجيء..ففي أعماق ذواتهم يقبع خوف مارد…من هذه الجموع المصفقة حباً وتضحية بالروح والدم لزعماء الأمس ،واليوم المصاب بتفسخ وتشقق ينذر بمآل الأخوة السابقين.الآن والآن فقط بعد أن بدات حصونهم تتداعى..والعد التنازلي لساعة من ظل واقفاً كحجر شطرنج..ينتظر دوره في ” كش ملك”، نستغرب كيف لاتفهم هذه البقية ولا تستوعب الدروس، التي مرت وتمر أمامها من سقوط الشخصية الأهم في تاريخهم الحديث” صدام حسين” واصطياده كما الجرذ في جحر ” المقاومة”!، وهو الطفل الخجول العنيف المعاني من طفولة كئيبة..وكيف تحول إلى سلطوي دموي..يكفي أن ينطق ويشير بيده لأعوانه” خذوه” عندما يجرؤ أحدهم على مخالفة رأيه أو اقتراح مايبين أنه رجل على سعة ومعرفة ودراية،وللمنطقة المعارضة التي لم تنصاع ولم ترضخ..فيرسل إليها بحممه الكيمياوية” حلبجة” أو دباباته وقذائفه الآربيجية” البصرة”ويغير أسماء ومناطق وأحزمة ويشرد شعوب ويبيع نساء..كما في ” الأنفال”.. ومن فاقه أو تساوى معه في قدرته على الابتسام لحظة سفك الدماء ومحو المدن.. شخصية شقيقه ورفيقه الأيديولوجي ” حافظ الأسد “، فقد كان يكتفي بأن يمسح بيده على ذقنه أو شاربيه، وأن يضع الرجل المراد تصفيته على يساره أو عند ذكر اسم ما…ليفهم عناصر أمنه أن ماء الحياة في عمره لم يبق فيه سوى ساعات أو أيام قليلة لتتم تصفيته..خاصة في لبنان ــ حسب تقارير رجال سياسة لبنانيين ــ..هكذا صفي كمال جنبلاط..ومن تلاه على قائمة الاغتيالات…بما فيها تدمير حماة بالدبابات وإزهاق أرواح مايزيد على 700 سجين أعزل في سجن تدمر..بطائرات هيلوكبتر تنطلق ليلا من أجل مهمة” وطنية” يترفع ويكافأ كل من شارك بحملاته التصفوية، سار على نفس النهج الوريث ابن أبيه في سجن صيدنايا،وفي التمديد للحود وماتلاه من تصفية لسمير قصير وجبران تويني والحريري وغيرهم كثير، وبطرق الاعتقال والتهم المعدة وغير قابلة للنقض من خلال محاكمه العسكرية الاستثنائية بفعل قانون الطواريء الدائم…منذ مايقارب النصف قرن، والتهم لكل من يكتب مقالا أو ينتقد نظامه” المقاوم الممانع، الديمقراطي”!!.أما مبارك والقذافي فحدث ولا حرج، فالقذافي وحده بزَّ الجميع وفاق على زعماء الكون بقدرته البارعة في التمثيل والتمجيد لشخصه، ونفخ الذات المريضة، لدرجة أنه لم يعد يدرك أنه زائل أو ممكن زواله..حتى لو أباد الشعب الليبي برمته وحَوَّله لقرود تهتف له حين يرمي لها بالموز الذي يتكرم فيه على الشعب من بيع محصوله النفطي الشخصي لبيت مال أسرته!..هذا الزعيم وبشخصية الكوميدية الهزيلة وماخلفته من تراجيديا الموت المستمر منذ 42 عاماً ولاتزل تسبح ببحار من الدم ..متسمرة ومتشبثه بالبقاء، حتى آخر نقطة من دمه أو من دم الشعب الليبي ــ كما قال ــ…لأن وجوده مربوط بخارطة ليبيا على الأرض الكونية..ومبارك ظل معانداً إلى أن قرأ التصميم بعيون من قالوها ملايين المرات..”.ارحل نكرهك لانريدك..ارحل لاوجود ولا خلود لك أو بقاء”..فقد استيقظنا..وهاهي عواصم تتشابه في نوع الزعامات ونوع الهم ، نوع الإذلال والتجويع..تتشابه في الديمومة لزعماء لن نفتقدهم إلا لنتندر بما يحملونه من صفات وجينات قهرتنا..وقمعتنا وكنا نعتقد أنها منا من جلدتنا!…لكن جلودنا منها براء..وسيتبرأ منها التاريخ وتُعلَّم وتدرس كعبرة لكل الأغبياء والطغاة ممن يريدون تكريس ديكتاتوريات لم يقبلها تاريخ العصر ولا متطلبات الحياة، ولا دماء الشعوب ، التي سخنت ولن تبرد إلا بعد أن تقضي على كل فلولهم المتبقية.هانثبت للعالم…أن جلابيب الديكتاتورية لاتناسب قاماتنا ولا مواطننا، وأننا أهل للديمقراطية وقادرين على صنعها..على خلقها…أننا مبدعو ثورات ستقرأها الأجيال ويعتبر منها من يفكر أنه خالد أو يمكن أن يخلد وأسرته بيننا…لأننا لانسمح لهم باستعبادنا، لأن أرضنا تلفظ كل بذورهم العفنة غير القابلة للإصلاح أو الانتاج..ولانسمح بتكرارهم فقد تعلمنا..وفهمنا..أخيراً.. نحن كشعوب للمنطقة بدأنا نفهم ونستوعب أين تكمن طاقتنا وأين تختفي قوتنا..وفي أي لحظة يمكننا أن نعلنها ثورة.. ثورة حتى دحر آخر ديكتاتور يتصور أنه ثابت خالد…حين تخرج الثورات من رحم موات..طال ثلاثين وأربعين عاماً لايبقى لليأس مقام، ولا يصمد حاجز لخوف أو قفل على شفاه تستطيع الصراخ ولها صوت يمكنه أن يلعلع” الشعب يريد إسقاط النظام”.لمن يرى نفسه وصورته في المرآة عليه ألا يتفاجأ حين تأتيه المنية من قرية نائية، من جندي مجهول، من حارس صار يخجل من ذله..من موظف سئم التملق ، من عين أصابها العمش من حجم الفساد وهوله، من ضمير وطني لم يعد يحتمل بقاء قانون الطواريء يحكمه بالحديد والنار…فأيقن أنه قادر ولديه من القوة مايكفي لكسر كل هذه الأعداد من الوحوش المتغولة والمنفوخة جبناً ورعباً منه..من هذا المواطن الصغير…العامل في المعمل، الطالب في الجامعة، المرأة في بيتها، في مدرستها، في وظيفتها…تثأر لإنسانيتها..من صور متحركة تظهر لها كل يوم تُرغمها على متابعة مسلسلات الزعامات العربية…فقررت إقفال الأقنية جميعها…قررت إعلان الإضراب على التلفزيونات الرسمية..وأنشأت لنفسها صفحة” فيسبوكية” لتصرخ بأبناء بلدها:” جاء دوركم وآن أوانكم فموعدكم مع يوم إسقاط وإلغاء حالة الطواريء قد اقترب، موعدكم مع دك قصور الطاغية وأعوانه..جاء فانتفضوا وحاكموا من سلبكم أعز مالديكم من إباء وكرامة..من سلبكم أموالكم ونهب أوطانكم وجعلها ملكاً أسرياً..جاء دورك ياياسمين الشام كي تنثر شذا حريتك..على عموم سوريا فتعيد لها ربيعها ونورزها ..دائماً لكل أبناء الوطن دون استثناء أو تمييز.باريس28/02/2011